العدد : ١٧٤٤٦ - الأحد ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ رجب ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٤٦ - الأحد ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ رجب ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

حالنا حال

وغادرتنا‭ ‬خادمتنا‭ ‬إلى‭ ‬أهلها‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬منذ‭ ‬أيام،‭ ‬وقد‭ ‬تعهدت‭ ‬بالعودة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬معلوم،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬استعان‭ ‬بخادمة‭ ‬آسيوية‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬معظمهن‭ ‬يكذبن‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يستأهل‭ ‬ولا‭ ‬يستأهل،‭ ‬واعتقد‭ ‬ان‭ ‬الآسيويات‭ ‬يهاجرن‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬وعقولهن‭ ‬محشوة‭ ‬بمفاهيم‭ ‬عجيبة،‭ ‬مثل‭ ‬توقع‭ ‬المعاملة‭ ‬القاسية‭ ‬وضرورة‭ ‬استدرار‭ ‬العطف‭ (‬بالزعم‭ ‬بأن‭ ‬لديها‭ ‬طفلا‭ ‬معاقا‭ ‬مثلا‭ ‬أو‭ ‬بأن‭ ‬الزوج‭ ‬سكير‭ ‬وقاس‭)‬،‭ ‬وبالطبع‭ ‬فهناك‭ ‬حالات‭ ‬كثيرة‭ ‬تعرضت‭ ‬فيها‭ ‬الخادمات‭ ‬الآسيويات‭ ‬لعذاب‭ ‬جسدي‭ ‬بشع‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬ولهذا‭ ‬فالكذب‭ ‬عندهن‭ ‬وسيلة‭ ‬لاستدرار‭ ‬التعاطف،‭ ‬المهم‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬سفر‭ ‬خادمتنا‭ ‬وعائلتي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تأهب‭ ‬قصوى،‭ ‬ليس‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬أفرادها‭ ‬شمروا‭ ‬سواعد‭ ‬الجد‭ ‬وصاروا‭ ‬يخدمون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬بل‭ ‬بمعنى‭ ‬أنهم‭ ‬أخذوا‭ ‬احتياطات‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يتحملوا‭ ‬أي‭ ‬أعباء‭. ‬امتلأ‭ ‬البيت‭ ‬بالأكواب‭ ‬والصحون‭ ‬والأطباق‭ ‬الورقية‭ ‬والملاعق‭ ‬البلاستيكية،‭ ‬لتفادي‭ ‬غسل‭ ‬آنية‭ ‬الطعام‭. ‬وكنت‭ ‬قبل‭ ‬ان‭ ‬تستوجب‭ ‬أوضاعي‭ ‬العائلية‭ ‬الاستعانة‭ ‬بخادمة،‭ ‬وعندما‭ ‬تسافر‭ ‬زوجتي‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬وتتركني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الخليجية‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬أطلب‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تملأ‭ ‬الثلاجة‭ ‬والفريز‭ ‬بمختلف‭ ‬الطبخات،‭ ‬ثم‭ ‬أقوم‭ ‬بتسخين‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وعاء‭ ‬صغير‭ ‬مسطح،‭ ‬وأتناوله‭ ‬منه‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬وضعه‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬تفاديا‭ ‬لغسل‭ ‬الصحن،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬اكتفي‭ ‬بالبيض‭ ‬المسلوق‭ ‬مع‭ ‬الجبن‭ ‬الأبيض‭ ‬والطماطم‭.‬

في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬تسافر‭ ‬فيها‭ ‬خادمة،‭ ‬اكتشف‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬صرنا‭ ‬رهائن‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬عاملات‭ ‬المنازل‭. ‬العيال‭ ‬لا‭ ‬يمانعون‭ ‬في‭ ‬أكل‭ ‬الجبن‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭ ‬مقابل‭ ‬تفادي‭ ‬إشعال‭ ‬أي‭ ‬نار‭. ‬و‮«‬يا‭ ‬بنت‭ ‬شغلي‭ ‬الغسالة‮»‬‭ ‬فيأتيك‭ ‬الرد‭ ‬‮«‬منين‭ ‬يا‭ ‬حسرة‭.. ‬مفيش‭ ‬كتالوج‭ ‬ومش‭ ‬مستعدة‭ ‬أجازف‭ ‬بتشغيلها‭ ‬وتخرب‭ ‬وتبوظ‭ ‬وانت‭ ‬تمد‭ ‬بوزك‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬يستيقظ‭ ‬ضمير‭ ‬أحد‭ ‬العيال‭ ‬فيقوم‭ ‬باستخدام‭ ‬المكنسة‭ ‬الكهربائية‭ ‬لتنظيف‭ ‬البيت،‭ ‬وتطالبه‭ ‬بعد‭ ‬ايام‭ ‬بمعاودة‭ ‬التنظيف‭ ‬فيقول‭: ‬منين‭ ‬يا‭ ‬حسرة‭. ‬الكيس‭ ‬مليان‭ ‬ومش‭ ‬عارف‭ ‬أطلعه‭ ‬وأفرغه‭. ‬كنت‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬وكلما‭ ‬سافرت‭ ‬خادمة‭ ‬تعمل‭ ‬عندي‭ ‬وتنهار‭ ‬الخدمات‭ ‬المنزلية‭ ‬أقول‭: ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬اللي‭ ‬طلعنا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬الخليج‭. ‬عيال‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ ‬الخادمة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ولكنني‭ ‬لاحظت‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬إلا‭ ‬وفيه‭ ‬خادمة‭.‬

ولا‭ ‬أتحسر‭ ‬على‭ ‬أيام‭ ‬صبانا‭ ‬وشبابنا،‭ ‬فما‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬إلا‭ ‬ولديه‭ ‬بعض‭ ‬مهارات‭ ‬الطبخ،‭ ‬ويجيد‭ ‬غسل‭ ‬الملابس‭ ‬بيديه،‭ ‬ويستخدم‭ ‬المكواة‭ ‬باحتراف،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬المألوف‭ ‬جدا‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬ممسكا‭ ‬بالإبرة‭ ‬وهو‭ ‬يخيط‭ ‬أو‭ ‬يرقع‭ ‬ثقبا‭ ‬في‭ ‬ملابسه،‭ ‬ويا‭ ‬ويلك‭ ‬لو‭ ‬قلت‭ ‬لأحد‭ ‬عيالك‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬إن‭ ‬بإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬قميصه‭ ‬المثقوب‭ ‬الذي‭ ‬اشتراه‭ ‬قبل‭ ‬شهر‭ ‬للخادمة‭ ‬لرتقه‭ (‬لاحظ‭ ‬أن‭ ‬الخادمة‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬ستقوم‭ ‬بالرتق‭ ‬والترقيع‭).. ‬سينظر‭ ‬إليك‭ ‬وكأنما‭ ‬بك‭ ‬مس‭ ‬من‭ ‬جنون‭ ‬وقد‭ ‬يسألك‭ ‬باستنكار‭: ‬هل‭ ‬تريد‭ ‬مني‭ ‬‮«‬أنا‮»‬‭ ‬أن‭ ‬استخدم‭ ‬قميصا‭ ‬تعرض‭ ‬للثقب؟‭.. ‬يا‭ ‬حبيبي‭ ‬ده‭ ‬خرم‭ ‬بسيط‭ ‬ويمكن‭ ‬يتعالج‭!! ‬أنت‭ ‬جاد‭ ‬يا‭ ‬بابا؟‭ ‬أنا‭ ‬استحي‭ ‬أتبرع‭ ‬بهذا‭ ‬القميص‭ ‬حتى‭ ‬لمشروع‭ ‬كافل‭ ‬اليتيم‭.‬

ونتعاتب‭ ‬أنا‭ ‬وزوجتي‭ ‬كثيرا‭ ‬لأننا‭ ‬لم‭ ‬نُكسب‭ ‬عيالنا‭ ‬المهارات‭ ‬المنزلية‭ ‬الأساسية‭ ‬ثم‭ ‬نتذكر‭ ‬أننا‭ ‬علمناهم‭ ‬تلك‭ ‬المهارات،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬تطرأ‭ ‬ظروف‭ ‬ليستخدموها،‭ ‬فهم‭ ‬كانوا‭ ‬يعودون‭ ‬من‭ ‬مدارسهم‭ ‬فيجدون‭ ‬الطعام‭ ‬جاهزا‭ ‬ويستيقظون‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬ويجدون‭ ‬ملابسهم‭ ‬نظيفة‭ ‬ومكوية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فقدوا‭ ‬تلك‭ ‬المهارات‭ ‬أو‭ ‬صاروا‭ ‬غير‭ ‬مستعدين‭ ‬نفسيا‭ ‬لممارستها‭.. ‬المهم‭ ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬بعضه،‭ ‬وعيالي‭ ‬ليسوا‭ ‬خائبين‭ ‬فاشلين،‭ ‬ولكن‭ ‬الخيبة‭ ‬الوبائية‭ ‬أصابت‭ ‬المجتمع‭ ‬بأكمله‭.. ‬حتى‭ ‬نحن‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يصلح‭ ‬السرير‭ ‬المكسور،‭ ‬ويوقد‭ ‬النار‭ ‬بورق‭ ‬الجرائد‭ ‬صرنا‭ ‬‮«‬بايظين‮»‬،‭ ‬ونحس‭ ‬بالضياع‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الخادمات‭. ‬وبالمقابل‭ ‬ففي‭ ‬المجتمعات‭ ‬الصناعية‭ ‬المتقدمة‭ ‬حيث‭ ‬يعمل‭ ‬الزوجان‭ ‬12‭ ‬ساعة‭ ‬يوميا‭ ‬فكلمة‭ ‬خادمة‭ ‬غير‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬قواميسهم‭. ‬وأس‭ ‬مصائبنا‭ ‬أننا‭ ‬نحتقر‭ ‬العمل‭ ‬اليدوي‭ ‬وبالتالي‭ ‬بتنا‭ ‬عاجزين‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬خدمة‭ ‬أنفسنا‭.‬

بلاش‭ ‬فلسفة‭: ‬حلوا‭ ‬لي‭ ‬مشكلة‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬خادمة‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬ثم‭ ‬نناقش‭ ‬مشاكلنا‭ ‬الاجتماعية‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا