زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وصار اللهو مقدما على المعرفة
انتبهت خلال الأشهر الأخيرة، إلى أنني انصرفت عن هوايتي الوحيدة وهي قراءة الكتب، كما انني توقفت عن مشاهدة الأفلام الوثائقية التي أعشقها بنفس قوة نفوري من نشرات الأخبار الرسمية، وعقدت اجتماعا مغلقا مع نفسي: لماذا هكذا يا أبو الجعافر؟ استمعت إلى وجهات نظر عقلي الباطن والظاهر، واستنتجت أن حبل صبري صار قصيرا. ولكن لماذا؟ لأنني أدمنت الجرعات القصيرة واللذيذة التي يقدمها تطبيق تيك توك الهاتفي. وهكذا صدر قرار بالإجماع بمحو تيك توك من هاتفي.
أتمنى أحيانا لو ان التقدم التكنولوجي الذي أدى ويؤدي طوفان من المخترعات يتوقف لبعض الوقت، فالمخترعات الحديثة تجردنا شيئا فشيئا من الكثير من الممارسات والقيم، بل تسلب البشر «الطابع الانساني». خذ مثلا ما فعله بنا التلفزيون والانترنت والهاتف الجوال. تجلس عائلة بأكملها امام شاشات التلفزيون نحو ساعتين مثلا ويكون كل الكلام المتبادل بينهما تلغرافات من نوع: بعدين.. هس...لا يا حمار! باختصار، بات فن الكلام مهددا بالاندثار، ولن أنسى ما حييت دعوة للعشاء في بيت صديق سعودي. كنا نحو عشرة اشخاص وكانت تلك أول مرة التقي فيها بمعظمهم. وكانت هناك مباراة بين ناديي الهلال والنصر.. ومن بين الاشخاص العشرة لم يكلف نحو خمسة حتى مجرد عناء القاء التحية علي. وكانت عيون الجميع مسمرة على الشاشة، وكان كل واحد منهم يكلم نفسه: وش هذا يا غبي... فاول يا حكم يا حمار.. لا تخلي الجناح الأيمن يسرح بكيفه... ما نريد اقل من 3 أهداف نظيفة!! وانتهت المباراة ولا أذكر من نتيجتها سوى المعركة الكلامية التي دارت بين الحضور، وابو الجعافر جالس مثل الطرطور، مجرد شاهد ما شافش حاجة. وحتى بعد أن جلسنا حول مائدة الطعام امسك أحدهم برأس خروف ليشرح كيف أضاع لاعب هدفا «مضمونا»، ولم يحس أحد بوجودي إلا بعد ان استأذنت منصرفا فتعلى الصياح: ما يصير يا ابو الجعافر.. ما سولفنا وياك!!
ومع هذا فلا عتاب ولا ملامة، لأن العلاقات بين أفراد أسرتي ايضا صارت تلغرافية. هذا مشغول بالتلفزيون وتلك تتلاعب بأزرار الهاتف الجوال وكأنها تبحث عن أمير الدواعش الجديد الذي قال الامريكان ان من يدل عليه سيحصل على 10 ملايين دولار، في زمن صار فيه اصطياد ابناء آدم أكثر عائدا ماديا من صيد الفيلة والنمور! وهناك الانترنت الذي حل محلي في البيت!! ففيما مضى كنت المستشار الأكاديمي والسياسي والاجتماعي والصحي لعيالي، أما اليوم فقد اكتشفوا ضحالة معلوماتي مقارنة بغوغل وويكيبيديا ومكتبات أمازون. وياما جاهدت كي أغرس في عيالي حب القراءة وشجعتهم على ارتياد المكتبات، وساعدتهم في اختيار الكتب والمجلات، ولكن كل ذلك فعل ماض ناقص، وكلما عاتبتهم على عدم القراءة قالوا: ما عندنا وقت!! والساعات التي تقضونها امام التلفزيون والانترنت «وقت» أم «مساحة»؟ تقترح عليهم تناول وجبة ما في موعدها فيقول لك أحدهم انه لن يأكل حتى يفرغ من مشاهدة برنامج تلفزيوني معين، ويقول الآخر: معي طارق على الخط في المسنجر.. اعطوني سندويتش! وإذا زجرت الواحد منهم لأنه فعل أو لم يفعل شيئا هددك بنشر «ملفاتك» في ويكيليكس والجوال اصلا هاتف ووظيفته هي أن يكون اداة تهاتف او مهاتفة اي كلام، ولكنه صار أداة لقتل الكلام. زوجتك ليس لديها الوقت لإلقاء التحية عليك ثم طلب ما تريد، ومن ثم فإنها ترسل اليك رسالة قصيرة: احضر معك الفين.. وبطيخ!! وحتى قبل سنوات كنا نقتل الوقت خلال ساعات العمل بزيارة بعضنا البعض لممارسة الحش والنميمة في المدير ورئيس القسم، ولكننا صرنا نمارس تلك الاشياء بالبريد الإلكتروني.. وصار بعضنا يقتل الوقت متفقدا رسائل وكليبات واتساب! وفي بريطانيا اصدرت مؤسسة تسمى «آي كان» وتعني «أستطيع» دراسة تفيد بأن الكثير من الصغار بات عاجزا عن التعبير عن النفس، لأن الكبار من حولهم ساهون ولاهون، ولا يبادلونهم الحديث، بل يشجعونهم على العبث بالأجهزة الالكترونية التي حلت محل الأصدقاء والأقارب.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك