زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
تجربتي (1)
وأنا أتأمل بين الحين والحين علاقتي مع «أخبار الخليج» التي قاربت ربع القرن، أتذكر أول مقال صحفي في حياتي وأنا طالب في السنة الاولى بالجامعة، ونشر المقال في الصفحة الاخيرة في جريدة مرموقة، وغبت عن المحاضرات الجامعية يومين متتاليين، لأستمتع بما حسبته «النجومية»، التي لم تضايقني بل استمتعت بها، وحسبت ان جميع اهل الخرطوم أخذوا علما بتلك الواقعة الخطيرة فتسكعت في شوارع المدينة وانا أوزع الابتسامات مجانا للغادي والرائح بحسبان ان الكل صاروا يعرفونني. وحزنت لتخلف السودانيين الذين لا يعرفون معنى ومغزى وقيمة الحصول على أوتغرافات (تواقيع) المشاهير، واشتريت من تلك الصحيفة نحو خمسين نسخة، استعرت قيمتها من زميل ثري، وزعتها على الأهل والمعارف واحتفظت بنسخة عرضتها على أمي لاحقا، وكانت تلك أول مرة أسمع فيها من أمي رحمها الله، أنها نادمة على عدم تعلم القراءة والكتابة. بالنسبة لها كان نشر اسمي في الجريدة مؤشرا لمستقبل باهر ينتظرني، بل نصحتني بعدم قبول اي منصب أقل من «مدير» بعد التخرج. حسبت ان طريق المجد الصحفي بات ممهدا امامي فواصلت الكتابة للصحف، كتبت نحو عشرين مقالا في شهر واحد، وكلفني ذلك مبلغا طائلا لأنني كنت ارسل كل مقال بالبريد وعلى كل منها طابع بريد فئة قرش كامل، ولكن ما من صحيفة نشرت لي سطرا، فقلت «إنها الغيرة من كاتب صاعد سيمسح بديناصورات الصحافة الأرض»، وطوال سنتين فشلت في إقناع اي صحيفة بنشر كلمة واحدة لي، وفي السنة النهائية في الجامعة حدثت مصادمات طلابية تبعتها ملاسنات في الصحف، ونشرت لي صحيفة مقالين في أسبوع واحد حول تلك الاحداث، فعملت على تأجيج الفتنة في الجامعة حتى يتسنى لي الكتابة عنها ويواصل اسمي ظهوره في الجرائد.. وسعيت بعد التخرج الى العمل في صحيفة ولكنني اكتشفت ان معظم الصحفيين اللامعين من مستحقي الزكاة، فآثرت الابتعاد عن ذلك الميدان، وخاصة ان المشير جعفر نميري (قام بترقية نفسه من عقيد الى فريق ثم مشير) كان قد وصل الى السلطة وجعل الصحافة «سلطة» بفتح السين والطاء.
ثم شاء القدر أن أمتهن الصحافة والاعلام طوال العقود الثلاثة المنصرمة، ومن المعروف في الأوساط السياسية الدولية انني صاحب «خبطات صحفية» من النوع الذي يسبب الجلطة لرؤساء تحرير الصحف، وقد كتبت مرارا عن تجربتي في محاورة وزير الخارجية الامريكي الأسبق (على عهد جيمي كارتر) ادموند ماسكي، ولا بأس في ان أتحدث عنها هنا لأن فيها عظات وعبر لكل صحفي ناشئ. كان ذلك وأنا أعمل في صحيفة إمارات نيوز الانجليزية في ابو ظبي، وتم تكليفي بمحاورة ماسكي على ان ينشر الحوار في جريدة الاتحاد العربية شقيقة صحيفتي الانجليزية، وعكفت بضعة ايام أستعد للحوار: درست السياسة الأمريكية في المنطقة وقلبت قاموسي أوكسفورد وويبستر للحصول على كلمات من الوزن الثقيل، وجاء اليوم الموعود واستعرت جاكيت بيج من أحد الزملاء، واشتريت الكرافتة على نفقتي الخاصة، ولمعت حذائي جيدا، ودخلت على الوزير ماسكي في جناحه في الفندق فأجلسني مرافقه في صالة واسعة، وبعد قليل جاءني الرجل وفي قدميه جوربان، ولكنه لم يكن يرتدي حذاء، فاعتبرت ذلك استخفافا بي وقررت أن أثبت له أنه يواجه خصما شرسا، «فاهما» من النوع الذي يتكحل بالشطة ويستحم بماء المخلل، واستدرجته بسؤال سهل عن طبيعة زيارته فقال الكلام المعتاد عن العلاقات ذات الاهتمام المشترك، والبطيخ.. ثم قررت الطعن في اللحم الحي، وبدأت في استعراض عضلاتي وثقافتي الغزيرة مستخدما كلمات طوربيدية من شاكلة كونفرنتيشن، وكوربوريشن وكومبريشن. أحسست بنشوة وأنا اتكلم الانجليزية بطلاقة امام وزير خارجية امريكا، وكنت انظر الى السقف كما يفعل المفكرون العباقرة اثناء الحديث، وكان حديثي أقرب الى المحاضرة منه الى السؤال، وبعد ان نضب معيني من المفردات الدسمة والمعلومات التفت اليه طالبا «الإجابة» وغدا نرى عاقبة «التشطر»!!

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك