العدد : ١٧٤٣٠ - الجمعة ١٢ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٣٠ - الجمعة ١٢ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

تجربتي (1)

وأنا‭ ‬أتأمل‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭ ‬علاقتي‭ ‬مع‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬الخليج‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قاربت‭ ‬ربع‭ ‬القرن،‭ ‬أتذكر‭ ‬أول‭ ‬مقال‭ ‬صحفي‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الاولى‭ ‬بالجامعة،‭ ‬ونشر‭ ‬المقال‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬الاخيرة‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬مرموقة،‭ ‬وغبت‭ ‬عن‭ ‬المحاضرات‭ ‬الجامعية‭ ‬يومين‭ ‬متتاليين،‭ ‬لأستمتع‭ ‬بما‭ ‬حسبته‭ ‬‮«‬النجومية‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تضايقني‭ ‬بل‭ ‬استمتعت‭ ‬بها،‭ ‬وحسبت‭ ‬ان‭ ‬جميع‭ ‬اهل‭ ‬الخرطوم‭ ‬أخذوا‭ ‬علما‭ ‬بتلك‭ ‬الواقعة‭ ‬الخطيرة‭ ‬فتسكعت‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬المدينة‭ ‬وانا‭ ‬أوزع‭ ‬الابتسامات‭ ‬مجانا‭ ‬للغادي‭ ‬والرائح‭ ‬بحسبان‭ ‬ان‭ ‬الكل‭ ‬صاروا‭ ‬يعرفونني‭. ‬وحزنت‭ ‬لتخلف‭ ‬السودانيين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬معنى‭ ‬ومغزى‭ ‬وقيمة‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أوتغرافات‭ (‬تواقيع‭) ‬المشاهير،‭ ‬واشتريت‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الصحيفة‭ ‬نحو‭ ‬خمسين‭ ‬نسخة،‭ ‬استعرت‭ ‬قيمتها‭ ‬من‭ ‬زميل‭ ‬ثري،‭ ‬وزعتها‭ ‬على‭ ‬الأهل‭ ‬والمعارف‭ ‬واحتفظت‭ ‬بنسخة‭ ‬عرضتها‭ ‬على‭ ‬أمي‭ ‬لاحقا،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬أسمع‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله،‭ ‬أنها‭ ‬نادمة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬تعلم‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭. ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬كان‭ ‬نشر‭ ‬اسمي‭ ‬في‭ ‬الجريدة‭ ‬مؤشرا‭ ‬لمستقبل‭ ‬باهر‭ ‬ينتظرني،‭ ‬بل‭ ‬نصحتني‭ ‬بعدم‭ ‬قبول‭ ‬اي‭ ‬منصب‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬‮«‬مدير‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬التخرج‭. ‬حسبت‭ ‬ان‭ ‬طريق‭ ‬المجد‭ ‬الصحفي‭ ‬بات‭ ‬ممهدا‭ ‬امامي‭ ‬فواصلت‭ ‬الكتابة‭ ‬للصحف،‭ ‬كتبت‭ ‬نحو‭ ‬عشرين‭ ‬مقالا‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬واحد،‭ ‬وكلفني‭ ‬ذلك‭ ‬مبلغا‭ ‬طائلا‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬ارسل‭ ‬كل‭ ‬مقال‭ ‬بالبريد‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬طابع‭ ‬بريد‭ ‬فئة‭ ‬قرش‭ ‬كامل،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬صحيفة‭ ‬نشرت‭ ‬لي‭ ‬سطرا،‭ ‬فقلت‭ ‬‮«‬إنها‭ ‬الغيرة‭ ‬من‭ ‬كاتب‭ ‬صاعد‭ ‬سيمسح‭ ‬بديناصورات‭ ‬الصحافة‭ ‬الأرض‮»‬،‭ ‬وطوال‭ ‬سنتين‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬اي‭ ‬صحيفة‭ ‬بنشر‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬لي،‭ ‬وفي‭ ‬السنة‭ ‬النهائية‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬حدثت‭ ‬مصادمات‭ ‬طلابية‭ ‬تبعتها‭ ‬ملاسنات‭ ‬في‭ ‬الصحف،‭ ‬ونشرت‭ ‬لي‭ ‬صحيفة‭ ‬مقالين‭ ‬في‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد‭ ‬حول‭ ‬تلك‭ ‬الاحداث،‭ ‬فعملت‭ ‬على‭ ‬تأجيج‭ ‬الفتنة‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬لي‭ ‬الكتابة‭ ‬عنها‭ ‬ويواصل‭ ‬اسمي‭ ‬ظهوره‭ ‬في‭ ‬الجرائد‭.. ‬وسعيت‭ ‬بعد‭ ‬التخرج‭ ‬الى‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬ولكنني‭ ‬اكتشفت‭ ‬ان‭ ‬معظم‭ ‬الصحفيين‭ ‬اللامعين‭ ‬من‭ ‬مستحقي‭ ‬الزكاة،‭ ‬فآثرت‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الميدان،‭ ‬وخاصة‭ ‬ان‭ ‬المشير‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ (‬قام‭ ‬بترقية‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬عقيد‭ ‬الى‭ ‬فريق‭ ‬ثم‭ ‬مشير‭) ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬الى‭ ‬السلطة‭ ‬وجعل‭ ‬الصحافة‭ ‬‮«‬سلطة‮»‬‭ ‬بفتح‭ ‬السين‭ ‬والطاء‭.‬

ثم‭ ‬شاء‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬أمتهن‭ ‬الصحافة‭ ‬والاعلام‭ ‬طوال‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬المنصرمة،‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬السياسية‭ ‬الدولية‭ ‬انني‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬خبطات‭ ‬صحفية‮»‬‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يسبب‭ ‬الجلطة‭ ‬لرؤساء‭ ‬تحرير‭ ‬الصحف،‭ ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬مرارا‭ ‬عن‭ ‬تجربتي‭ ‬في‭ ‬محاورة‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الامريكي‭ ‬الأسبق‭ (‬على‭ ‬عهد‭ ‬جيمي‭ ‬كارتر‭) ‬ادموند‭ ‬ماسكي،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬في‭ ‬ان‭ ‬أتحدث‭ ‬عنها‭ ‬هنا‭ ‬لأن‭ ‬فيها‭ ‬عظات‭ ‬وعبر‭ ‬لكل‭ ‬صحفي‭ ‬ناشئ‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬وأنا‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬إمارات‭ ‬نيوز‭ ‬الانجليزية‭ ‬في‭ ‬ابو‭ ‬ظبي،‭ ‬وتم‭ ‬تكليفي‭ ‬بمحاورة‭ ‬ماسكي‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬ينشر‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الاتحاد‭ ‬العربية‭ ‬شقيقة‭ ‬صحيفتي‭ ‬الانجليزية،‭ ‬وعكفت‭ ‬بضعة‭ ‬ايام‭ ‬أستعد‭ ‬للحوار‭: ‬درست‭ ‬السياسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬وقلبت‭ ‬قاموسي‭ ‬أوكسفورد‭ ‬وويبستر‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬كلمات‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬الثقيل،‭ ‬وجاء‭ ‬اليوم‭ ‬الموعود‭ ‬واستعرت‭ ‬جاكيت‭ ‬بيج‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬الزملاء،‭ ‬واشتريت‭ ‬الكرافتة‭ ‬على‭ ‬نفقتي‭ ‬الخاصة،‭ ‬ولمعت‭ ‬حذائي‭ ‬جيدا،‭ ‬ودخلت‭ ‬على‭ ‬الوزير‭ ‬ماسكي‭ ‬في‭ ‬جناحه‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬فأجلسني‭ ‬مرافقه‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬واسعة،‭ ‬وبعد‭ ‬قليل‭ ‬جاءني‭ ‬الرجل‭ ‬وفي‭ ‬قدميه‭ ‬جوربان،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرتدي‭ ‬حذاء،‭ ‬فاعتبرت‭ ‬ذلك‭ ‬استخفافا‭ ‬بي‭ ‬وقررت‭ ‬أن‭ ‬أثبت‭ ‬له‭ ‬أنه‭ ‬يواجه‭ ‬خصما‭ ‬شرسا،‭ ‬‮«‬فاهما‮»‬‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يتكحل‭ ‬بالشطة‭ ‬ويستحم‭ ‬بماء‭ ‬المخلل،‭ ‬واستدرجته‭ ‬بسؤال‭ ‬سهل‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬زيارته‭ ‬فقال‭ ‬الكلام‭ ‬المعتاد‭ ‬عن‭ ‬العلاقات‭ ‬ذات‭ ‬الاهتمام‭ ‬المشترك،‭ ‬والبطيخ‭.. ‬ثم‭ ‬قررت‭ ‬الطعن‭ ‬في‭ ‬اللحم‭ ‬الحي،‭ ‬وبدأت‭ ‬في‭ ‬استعراض‭ ‬عضلاتي‭ ‬وثقافتي‭ ‬الغزيرة‭ ‬مستخدما‭ ‬كلمات‭ ‬طوربيدية‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭ ‬كونفرنتيشن،‭ ‬وكوربوريشن‭ ‬وكومبريشن‭. ‬أحسست‭ ‬بنشوة‭ ‬وأنا‭ ‬اتكلم‭ ‬الانجليزية‭ ‬بطلاقة‭ ‬امام‭ ‬وزير‭ ‬خارجية‭ ‬امريكا،‭ ‬وكنت‭ ‬انظر‭ ‬الى‭ ‬السقف‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬المفكرون‭ ‬العباقرة‭ ‬اثناء‭ ‬الحديث،‭ ‬وكان‭ ‬حديثي‭ ‬أقرب‭ ‬الى‭ ‬المحاضرة‭ ‬منه‭ ‬الى‭ ‬السؤال،‭ ‬وبعد‭ ‬ان‭ ‬نضب‭ ‬معيني‭ ‬من‭ ‬المفردات‭ ‬الدسمة‭ ‬والمعلومات‭ ‬التفت‭ ‬اليه‭ ‬طالبا‭ ‬‮«‬الإجابة‮»‬‭ ‬وغدا‭ ‬نرى‭ ‬عاقبة‭ ‬‮«‬التشطر‮»‬‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا