العدد : ١٧٤٢٦ - الاثنين ٠٨ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٧ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٢٦ - الاثنين ٠٨ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٧ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لماذا حرقوا بابا؟

هكذا‭ ‬حال‭ ‬الدنيا‭. ‬نموت‭ ‬وتنقضي‭ ‬أحلامنا‭ ‬في‭ ‬لحظة،‭ ‬وإلى‭ ‬التراب‭ ‬نصير،‭ ‬وتموج‭ ‬ديدان‭ ‬الثرى‭ ‬في‭ ‬أكْبُدٍ،‭ ‬كانت‭ ‬تضج‭ ‬بها‭ ‬المُنى‭ ‬وتمور‭. ‬وهكذا‭ ‬أصيب‭ ‬الجيولوجي‭ ‬البريطاني‭ ‬برايان‭ ‬تاندي‭ ‬بنوبة‭ ‬قلبية‭ ‬شديدة‭ ‬أودت‭ ‬بحياته‭ ‬فرحل‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬مخلفا‭ ‬أرملة‭ ‬وبنتين،‭ ‬والبنتان‭ ‬هما‭ ‬جيل‭ ‬البالغة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬23‭ ‬سنة‭ ‬وكلير‭ ‬ذات‭ ‬التسع‭ ‬عشرة‭ ‬سنة،‭ ‬ومن‭ ‬فرط‭ ‬حبهما‭ ‬لأبيهما‭ ‬الراحل‭ ‬فقد‭ ‬قررت‭ ‬البنتان‭- ‬بتحفيز‭ ‬من‭ ‬الأم‭- ‬الاحتفاظ‭ ‬به‭ ‬قريبا‭ ‬منهما‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحرفي‭ ‬للكلمة‭. ‬وستسترد‭ ‬البنتان‭ ‬خلال‭ ‬الأيام‭ ‬القليلة‭ ‬المقبلة‭ ‬أباهما‭ ‬المتوفى‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬مبهجة‭. ‬سيعود‭ ‬إليهما‭ ‬وهو‭ ‬يلمع‭ ‬ويتوهج‭ ‬ويتلألأ،‭ ‬وعندها‭ ‬تستطيع‭ ‬البنتان،‭ ‬التباهي‭ ‬والهتاف‭ ‬‮«‬بص‭ ‬شوف‭ ‬بابا‭ ‬بيعمل‭ ‬إيه‭. ‬ويا‭ ‬عواذل‭ ‬فلفلوا‮»‬‭ ‬والسر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كلير‭ ‬وجيل‭ ‬قامتا‭ ‬بحرق‭ ‬جثة‭ ‬الوالد‭ ‬العزيز‭ ‬ثم‭ ‬تسليم‭ ‬الرماد‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬الحرق‭ ‬إلى‭ ‬شركة‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬لايف‭ ‬جم‭ ‬Life‭ ‬Gem‮»‬‭. ‬وتعني‭ ‬‮«‬درَّة‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬لتحويله‭ ‬إلى‭ ‬قطعتي‭ ‬ماس‭ ‬يتم‭ ‬تثبيتهما‭ ‬في‭ ‬خاتمين‭ ‬ترتديانهما،‭ ‬وما‭ ‬يحدث‭ ‬أو‭ ‬سيحدث‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الشركة‭ ‬تقوم‭ ‬بتسلم‭ ‬رماد‭ ‬جثامين‭ ‬المتوفين‭ ‬بعد‭ ‬حرقها،‭ ‬وتسخينه‭ ‬في‭ ‬فرن‭ ‬يحوي‭ ‬القليل‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬الأوكسجين‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬الشوائب‭ ‬وبعدها‭ ‬يتم‭ ‬تحويل‭ ‬الفحم‭ ‬إلى‭ ‬جرافايت‭ ‬وهو‭ ‬الكربون‭ ‬الطري‭ ‬الذي‭ ‬تصنع‭ ‬منه‭ ‬أقلام‭ ‬الرصاص‭ ‬بالتسخين‭ ‬على‭ ‬درجات‭ ‬حرارة‭ ‬عالية‭ ‬للغاية،‭ ‬ثم‭ ‬يوضع‭ ‬مسحوق‭ ‬الجرافايت‭ ‬في‭ ‬جهاز‭ ‬ضغط‭ ‬قوي‭ ‬بمعدل‭ ‬900‭ ‬ألف‭ ‬باوند‭ (‬رطل‭ ‬إنجليزي‭) ‬للبوصة‭ ‬المربعة‭ ‬ويُعرّض‭  ‬لحرارة‭ ‬تبلغ‭ ‬3000‭ ‬درجة،‭ ‬ويستغرق‭ ‬إنتاج‭ ‬قطعة‭ ‬ماس‭ ‬من‭ ‬المتوفى‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬تظل‭ ‬خلالها‭ ‬بقاياه‭ ‬تتعرض‭ ‬للتسخين‭ ‬والضغط‭ ‬والضرب‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬وقد‭ ‬افتتحت‭ ‬شركة‭ ‬لايف‭ ‬جم‭ ‬الأمريكية‭ ‬فرعا‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬قبل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات،‭ ‬وبما‭ ‬أننا‭ ‬مولعون‭ ‬بالتداوي‭ ‬هناك‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الصحي‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬أفضل‭ ‬حالا‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الصحي‭ ‬في‭ ‬القطب‭ ‬الجنوبي‭ ‬حيث‭ ‬تعيش‭ ‬طيور‭ ‬البطريق‭ ‬التي‭ ‬فرض‭ ‬عليها‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الحالي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬تعرفة‭ ‬جمركية‭ ‬عالية،‭ ‬فإنني‭ ‬أنصح‭ ‬كل‭ ‬قارئ‭ ‬يتم‭ ‬إبلاغه‭ ‬بأن‭ ‬عزيزا‭ ‬لديه‭ ‬قد‭ ‬توفي‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬ودفن‭ ‬هناك‭ ‬أن‭ ‬يتوجه‭ ‬إلى‭ ‬الشرطة‭ ‬ليتم‭ ‬إخضاع‭ ‬من‭ ‬رافقوا‭ ‬المريض‭ ‬خلال‭ ‬رحلة‭ ‬طلب‭ ‬الاستشفاء‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬قطعا‭ ‬من‭ ‬الماس‭!! ‬وطالما‭ ‬أن‭ ‬إنتاج‭ ‬الماس‭ ‬من‭ ‬جثة‭ ‬الميت‭ ‬ممكن،‭ ‬علينا‭ ‬فرض‭ ‬حراسات‭ ‬مشددة‭ ‬كالتي‭ ‬يحظى‭ ‬بها‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬على‭ ‬المقابر،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تقوم‭ ‬عصابات‭ ‬بسرقة‭ ‬جثامين‭ ‬الموتى‭ ‬وحرقهم‭ ‬بقصد‭ ‬الإثراء‭ ‬بتحويلهم‭ ‬إلى‭ ‬ماس‭!! ‬المقرف‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬الراحل‭ ‬العزيز‭ ‬برايان‭ ‬تاندي‭ ‬أن‭ ‬أرملته‭ ‬وبنتيه‭ ‬تزعمان‭ ‬أن‭ ‬بهدلة‭ ‬بقاياه‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬فصين‭ ‬من‭ ‬الماس‭ ‬‮«‬سيجعل‭ ‬الراحل‭ ‬يحس‭ ‬بالسعادة‮»‬،‭ ‬لأنه‭ ‬سيبقى‭ ‬لصيقا‭ ‬بالبنتين‭ ‬لأنه‭ ‬سيكون‭ ‬خاتما‭ ‬في‭ ‬إصبع‭ ‬كل‭ ‬منهما،‭ ‬والرجل‭ ‬قد‭ ‬يقبل‭ ‬طوعا‭ ‬أو‭ ‬كرها‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬خاتما‮»‬‭ ‬في‭ ‬إصبع‭ ‬زوجته‭ ‬بل‭ ‬وشبشبا‭ ‬في‭ ‬رجلها،‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬رجلا‭ ‬يقبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خاتما‭ ‬في‭ ‬إصبع‭ ‬بنته‭ ‬وهو‭ ‬ميت‭.‬

حققت‭ ‬العلوم‭ ‬فتوحات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الطب‭ ‬والصحة‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬ولكن‭ ‬معظمها‭ ‬تطبّع‭ ‬بالعولمة‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬سلعة،‭ ‬وآخر‭ ‬صرعة‭ ‬هي‭ ‬تحويل‭ ‬جثث‭ ‬المتوفين‭ ‬إلى‭ ‬أحجار‭ ‬كريمة‭ ‬للزينة‭!! ‬نعرف‭ ‬جميعا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يضير‭ ‬الشاة‭ ‬سلخها‭ ‬بعد‭ ‬ذبحها،‭ ‬وهو‭ ‬المنطق‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الكثيرين‭ ‬لا‭ ‬يمانعون‭ ‬بنقل‭ ‬أعضائهم‭ ‬بعد‭ ‬وفاتهم‭ ‬إلى‭ ‬أشخاص‭ ‬آخرين‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬علل‭ ‬مستعصية،‭ ‬ولكن‭ ‬حكاية‭ ‬تاندي‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬خاتم‭ ‬تجعلني‭ ‬أقشعر‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬شخص‭ ‬أعضائي‭ ‬بعد‭ ‬موتي،‭ ‬ماذا‭ ‬مثلا‭ ‬لو‭ ‬نقل‭ ‬الأطباء‭ ‬كبدك‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬يقوم‭ ‬بمجرد‭ ‬تعافيه‭ ‬بتلويثه‭ (‬كبدك‭) ‬بالمشروبات‭ ‬الكحولية‭ ‬الرخيصة‭ ‬المغشوشة‭ (‬هنا‭ ‬أجاري‭ ‬من‭ ‬يزعمون‭ ‬أن‭ ‬الكحوليات‭ ‬غالية‭ ‬الثمن‭ ‬لا‭ ‬تضر‭ ‬الكبد‭!!)‬؟‭ ‬ماذا‭ ‬يقول‭ ‬الناس‭ ‬عنك‭ ‬لو‭ ‬تم‭ ‬نقل‭ ‬قرنيتك‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬فاسترد‭ ‬بصره‭ ‬وبات‭ ‬يستخدم‭ ‬تلك‭ ‬القرنية‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬برامج‭ ‬رزان‭ ‬وهيفاء‭. ‬ومعاكسة‭ ‬بنات‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الأسواق؟‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬تنتقل‭ ‬إليه‭ ‬رئتك‭ ‬فيلوثها‭ ‬بالنيكوتين‭ ‬والقار؟

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا