العدد : ١٧٤٢٣ - الجمعة ٠٥ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٢٣ - الجمعة ٠٥ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

قميص يجنن

أدرك‭ ‬تماما‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬جيل‭ ‬الكبار‭ ‬المعاصر‭ ‬أفضل‭ ‬تعليما‭ ‬وفهما‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الأبناء‭ ‬والبنات،‭ ‬‮«‬خرطي‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬السودانيون‭ ‬‮«‬جَخْ‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬كلام‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬بلا‭ ‬سند،‭ ‬ولكن‭ ‬الفرق‭ ‬الملموس‭ ‬والمحسوس‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬جيلنا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وعيالنا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬وبحكم‭ ‬ظروف‭ ‬التنشئة‭ ‬أقوى‭ ‬عودا‭ ‬واستعدادا‭ ‬لتقبل‭ ‬تقلبات‭ ‬وقسوة‭ ‬الظروف‭ ‬الحياتية،‭ ‬لأن‭ ‬تصريف‭ ‬أمور‭ ‬الحياة‭ ‬والعيش‭ ‬كان‭ ‬يتطلب‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجلَد‭ ‬والمكابدة‭. ‬مثلا‭ ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬وعمري‭ ‬نحو‭ ‬11‭ ‬سنة‭ ‬أن‭ ‬أغسل‭ ‬ملابسي‭ ‬بنفسي‭ ‬وان‭ ‬اتعلم‭ ‬كيفية‭ ‬استخدام‭ ‬إبرة‭ ‬الخياطة،‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬عشت‭ ‬في‭ ‬‮«‬داخلية‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬المسكن‭ ‬الملحق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬منذ‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬وإلى‭ ‬ان‭ ‬أكملت‭ ‬تعليمي‭ ‬الجامعي،‭ ‬وهكذا‭ ‬صرت‭ ‬‮«‬أسطى‮»‬‭ ‬في‭ ‬كي‭ ‬الملابس،‭ ‬أكثر‭ ‬براعة‭ ‬من‭ ‬شعبولا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭. ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أجيد‭ ‬استخدام‭ ‬الإبرة‭ ‬والخيط‭ ‬لترقيع‭ ‬ما‭ ‬ينفتق‭ ‬من‭ ‬ثياب‭. ‬وتعلمت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬ان‭ ‬أعتمد‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬كثيرة،‭ ‬وقبلها‭ ‬كنت‭ ‬أسير‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية‭ ‬على‭ ‬قدمي‭ ‬لنحو‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬في‭ ‬الحر‭ ‬والقر‭ ‬بينما‭ ‬يصاب‭ ‬عيالي‭ ‬بحالات‭ ‬من‭ ‬الاضطراب‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬خادمة‭ ‬تجهز‭ ‬لهم‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬بل‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬بلغوا‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬التنبلة‭ ‬صاروا‭ ‬فيها‭ ‬يصيحون‭ ‬للخادمة‭: ‬جيبي‭ ‬مويه‭/‬ماء‭!! ‬وشخص‭ ‬لا‭ ‬يكلف‭ ‬نفسه‭ ‬عناء‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الثلاجة‭ ‬لتناول‭ ‬حاجته‭ ‬من‭ ‬الماء،‭ ‬لن‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديه‭ ‬كتيبة‭ ‬من‭ ‬الفراشين‭ ‬والمراسلين‭ ‬هذا‭ ‬لفتح‭ ‬الشباك،‭ ‬وذاك‭ ‬لتحضير‭ ‬الشاي،‭ ‬وثالث‭ ‬للضغط‭ ‬على‭ ‬ماوس‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬لفتح‭ ‬صفحة‭ ‬جديدة،‭ ‬وقد‭ ‬نشأ‭ ‬ابني‭ ‬البكر‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬التي‭ ‬جاءها‭ ‬وعمره‭ ‬نحو‭ ‬تسعة‭ ‬أشهر‭ ‬ثم‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬نيوزيلندا‭ ‬للدراسة‭ ‬الجامعية،‭ ‬وفي‭ ‬أول‭ ‬إجازة‭ ‬له‭ ‬عاد‭ ‬ومعه‭ ‬ثلاث‭ ‬حقائب‭ ‬ضخمة،‭ ‬وبحسب‭ ‬اخوته‭ ‬انه‭ ‬جاء‭ ‬لهم‭ ‬بهدايا‭ ‬بالطن‭ ‬المتري،‭ ‬وكان‭ ‬بالفعل‭ ‬يحمل‭ ‬لهم‭ ‬هدايا‭: ‬أقراص‭ ‬مدمجة‭ (‬سي‭ ‬دي‭) ‬وعطور‭ ‬وتحف‭ ‬صغيرة‭. ‬طيب‭ ‬ماذا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقائب؟‭ ‬قال‭: ‬ملابسي‭! ‬ولماذا‭ ‬أتيت‭ ‬بكل‭ ‬ملابسك‭ ‬وأنت‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬مرة‭ ‬أخرى؟‭ ‬قال‭: ‬لغسلها‭ ‬وكيها‭!! ‬وحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬ان‭ ‬الحقائب‭ ‬كانت‭ ‬ممتلئة‭ ‬بملابس‭ ‬تستحق‭ ‬الحكم‭ ‬بالإعدام‭ ‬رميا‭ ‬في‭ ‬القمامة،‭ ‬واعترَف‭ ‬بكل‭ ‬صراحة‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬يستخدم‭ ‬فقط‭ ‬بنطلونات‭ ‬وقمصان‭ ‬الجينز‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الغسيل‭ ‬المتكرر‭ ‬أما‭ ‬الملابس‭ ‬الكشخة‭ ‬التي‭ ‬اشتريتها‭ ‬له‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يفشلنا‭ ‬امام‭ ‬الخواجات‭ ‬فقد‭ ‬استخدم‭ ‬كلا‭ ‬منها‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬ثم‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬الحقائب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عاد‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الإجازة‭. ‬وإنصافا‭ ‬له‭ ‬فقد‭ ‬تعلم‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬اللاحقة‭ ‬كيفية‭ ‬استخدام‭ ‬الغسالة‭ ‬والمكواة‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يأتينا‭ ‬في‭ ‬الإجازات‭ ‬إلا‭ ‬بحقيبة‭ ‬صغيرة‭ ‬وبعض‭ ‬الهدايا‭ ‬‮«‬اللي‭ ‬عليها‭ ‬القيمة‮»‬،‭ ‬وأمثال‭ ‬ولدي‭ ‬الخواجة‭ ‬هذا‭ ‬بالكوم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬والخليجية‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬حيث‭ ‬الظروف‭ ‬المادية‭ ‬أفضل‭ ‬وتسمح‭ ‬بالاستعانة‭ ‬بالخادمات‭ ‬والسائقين،‭ ‬وقد‭ ‬التقيت‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬أمريكية‭ ‬وأوربية‭ ‬بطلاب‭ ‬عرب‭ ‬تدل‭ ‬هيئاتهم‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬نجوا‭ ‬من‭ ‬زلازل‭ ‬وبراكين‭. ‬ملابس‭ ‬متسخة‭ ‬بل‭ ‬وممزقة،‭ ‬ووجوه‭ ‬شاحبة،‭ ‬فتحسب‭ ‬أنهم‭ ‬من‭ ‬مستحقي‭ ‬الزكاة‭ ‬ولكنك‭ ‬تكتشف‭ ‬ان‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬يتلقى‭ ‬شهريا‭ ‬مبلغا‭ ‬يساوي‭ ‬دخل‭ ‬رب‭ ‬أسرة‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬أشخاص‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العاصمة‭ ‬الأجنبية‭ ‬أو‭ ‬تلك،‭ ‬ولكنه‭ ‬ينفق‭ ‬المبلغ‭ ‬بأكمله‭ ‬على‭ ‬الوجبات‭ ‬الجاهزة،‭ ‬ولأنه‭ ‬لم‭ ‬يتعود‭ ‬على‭ ‬غسل‭ ‬ملابسه‭ ‬او‭ ‬حتى‭ ‬أخذها‭ ‬إلى‭ ‬المغسلة‭ ‬فإنه‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬مبهدل‭ ‬بل‭ ‬ومقرف‭.‬

ولجيل‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬شبابنا‭ ‬المعاصر‭ ‬أزف‭ ‬البشرى‭: ‬قميص‭ ‬واحد‭ ‬يكفي‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬انتاج‭ ‬كُلِّية‭ ‬المنسوجات‭ ‬والملابس‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬هونج‭ ‬كونج‭ ‬ومن‭ ‬ابتكار‭ ‬وليد‭ ‬داوود‭ (‬نعم‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬جماعتنا‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يبدعون‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬يفارقوننا‭) ‬وزميله‭ ‬الصيني‭ ‬جون‭ ‬زن،‭ ‬قماش‭ ‬مكسو‭ ‬بطبقة‭ ‬رقيقة‭ ‬من‭ ‬ثاني‭ ‬أوكسيد‭ ‬التيتانيوم‭ ‬التي‭ ‬وعند‭ ‬التعرض‭ ‬للشمس‭ ‬تتفاعل‭ ‬جزيئاتها‭ ‬مع‭ ‬الأوكسجين‭ ‬ويتولد‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬عامل‭ ‬أكسدة‭ ‬يقوم‭ ‬بتفتيت‭ ‬الأوساخ‭ ‬فلا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬غسل‭ ‬القميص‭ ‬أو‭ ‬البنطلون‭ ‬مدى‭ ‬الحياة‭! ‬فهيا‭ ‬إلى‭ ‬هونج‭ ‬كونج‭ ‬يا‭ ‬شبابنا‭ ‬المبهدل‭. ‬ومن‭ ‬مزايا‭ ‬هذا‭ ‬القميص‭ ‬أن‭ ‬لونه‭ ‬قابل‭ ‬للتعديل‭ ‬والتغيير‭ ‬بإجراءات‭ ‬بسيطة‭ (‬بصراحة‭ ‬قرأت‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬وما‭ ‬فهمت‭ ‬منها‭ ‬شيئا‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا