زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
قميص يجنن
أدرك تماما أن معظم ما يقال عن أن جيل الكبار المعاصر أفضل تعليما وفهما للكثير من الأمور من جيل الأبناء والبنات، «خرطي»، وهو ما يسميه السودانيون «جَخْ»، أي كلام في الهواء بلا سند، ولكن الفرق الملموس والمحسوس بين أبناء وبنات جيلنا من جهة وعيالنا من جهة أخرى، هو أننا وبحكم ظروف التنشئة أقوى عودا واستعدادا لتقبل تقلبات وقسوة الظروف الحياتية، لأن تصريف أمور الحياة والعيش كان يتطلب الكثير من الجلَد والمكابدة. مثلا كان عليّ وعمري نحو 11 سنة أن أغسل ملابسي بنفسي وان اتعلم كيفية استخدام إبرة الخياطة، ذلك أنني عشت في «داخلية»، أي المسكن الملحق بالمدرسة منذ المرحلة المتوسطة وإلى ان أكملت تعليمي الجامعي، وهكذا صرت «أسطى» في كي الملابس، أكثر براعة من شعبولا في هذا المجال. وما زلت أجيد استخدام الإبرة والخيط لترقيع ما ينفتق من ثياب. وتعلمت من كل ذلك ان أعتمد على نفسي في أمور كثيرة، وقبلها كنت أسير إلى المدرسة الابتدائية على قدمي لنحو نصف ساعة في الحر والقر بينما يصاب عيالي بحالات من الاضطراب إذا لم تكن في البيت خادمة تجهز لهم كل شيء، بل كانوا قد بلغوا درجة من التنبلة صاروا فيها يصيحون للخادمة: جيبي مويه/ماء!! وشخص لا يكلف نفسه عناء الوصول إلى الثلاجة لتناول حاجته من الماء، لن ينجح في الحياة العملية ما لم يكن لديه كتيبة من الفراشين والمراسلين هذا لفتح الشباك، وذاك لتحضير الشاي، وثالث للضغط على ماوس الكمبيوتر لفتح صفحة جديدة، وقد نشأ ابني البكر في منطقة الخليج التي جاءها وعمره نحو تسعة أشهر ثم سافر إلى نيوزيلندا للدراسة الجامعية، وفي أول إجازة له عاد ومعه ثلاث حقائب ضخمة، وبحسب اخوته انه جاء لهم بهدايا بالطن المتري، وكان بالفعل يحمل لهم هدايا: أقراص مدمجة (سي دي) وعطور وتحف صغيرة. طيب ماذا في تلك الحقائب؟ قال: ملابسي! ولماذا أتيت بكل ملابسك وأنت عائد إلى هناك مرة أخرى؟ قال: لغسلها وكيها!! وحقيقة الأمر ان الحقائب كانت ممتلئة بملابس تستحق الحكم بالإعدام رميا في القمامة، واعترَف بكل صراحة بأنه كان يستخدم فقط بنطلونات وقمصان الجينز التي لا تحتاج إلى الغسيل المتكرر أما الملابس الكشخة التي اشتريتها له كي لا يفشلنا امام الخواجات فقد استخدم كلا منها مرة واحدة ثم وضعها في الحقائب إلى أن عاد بها في الإجازة. وإنصافا له فقد تعلم خلال السنوات اللاحقة كيفية استخدام الغسالة والمكواة ولم يعد يأتينا في الإجازات إلا بحقيبة صغيرة وبعض الهدايا «اللي عليها القيمة»، وأمثال ولدي الخواجة هذا بالكوم في كل البلدان العربية، والخليجية منها على وجه الخصوص حيث الظروف المادية أفضل وتسمح بالاستعانة بالخادمات والسائقين، وقد التقيت في مدن أمريكية وأوربية بطلاب عرب تدل هيئاتهم على أنهم نجوا من زلازل وبراكين. ملابس متسخة بل وممزقة، ووجوه شاحبة، فتحسب أنهم من مستحقي الزكاة ولكنك تكتشف ان الواحد منهم يتلقى شهريا مبلغا يساوي دخل رب أسرة تتألف من ستة أشخاص في هذه العاصمة الأجنبية أو تلك، ولكنه ينفق المبلغ بأكمله على الوجبات الجاهزة، ولأنه لم يتعود على غسل ملابسه او حتى أخذها إلى المغسلة فإنه يتحول إلى شخص مبهدل بل ومقرف.
ولجيل كامل من شبابنا المعاصر أزف البشرى: قميص واحد يكفي وهو من انتاج كُلِّية المنسوجات والملابس في جامعة هونج كونج ومن ابتكار وليد داوود (نعم هو من جماعتنا الذين لا يبدعون إلا بعد ان يفارقوننا) وزميله الصيني جون زن، قماش مكسو بطبقة رقيقة من ثاني أوكسيد التيتانيوم التي وعند التعرض للشمس تتفاعل جزيئاتها مع الأوكسجين ويتولد عن ذلك عامل أكسدة يقوم بتفتيت الأوساخ فلا تحتاج إلى غسل القميص أو البنطلون مدى الحياة! فهيا إلى هونج كونج يا شبابنا المبهدل. ومن مزايا هذا القميص أن لونه قابل للتعديل والتغيير بإجراءات بسيطة (بصراحة قرأت عن هذه الإجراءات وما فهمت منها شيئا).

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك