عالم يتغير
فوزية رشيد
إثبات القيمة: وهم وحقيقة!
{ منذ أن وعى الإنسان حقيقة وجوده، ومآلات مصيره إلى الرحيل في النهاية عن هذه الدنيا، بدأ سعيه إلى أن يترك لنفسه بصمة، بل راوده إحساس التطلع إلى الخلود بإظهار وإثبات تميّزه وقيمته الذاتية، فبنى الحضارات الأولى وأثرى الفنون والثقافات بإبداعات مختلفة، وترك من خلفه نهضة عمرانية وآثاراً مختلفة سجلّت حقباً من تطوّره الفكري والروحي، وابتكر الموسيقى والسلالم الموسيقية، وبث عبرها نتفاً من قلبه وفكره وتجلياته الشعورية، وخاطب الكون والوجود بحيرته وشغفه في معرفة الحقيقة، فتراكمت معارفه عبر العصور، تاركاً فيها علوماً ومعارف، خرج بعضها، وتمّ حجب الآخر باعتبارها معارف وأسرار العلوم القديمة، التي استأثر ببعضها من وقع يده عليها، ليضمن التفوق المعرفي والسيطرة بحرمان باقي البشرية من أسرارها!
{ في كل ذلك والإنسان في صراعه مع البقاء، يبحث في الوقت ذاته عن ترجمة ذلك الصراع إلى بحث عن القيمة والجدوى وتخليد ذاكرة الزمن، الذي مرّ به كفرد ومرّت به أمم وحضارات قديمة، ودلّت على أن الإنسان الأول كان يمتلك معارف وعلوما كبرى ومهمة بل ومتطورة منذ آلاف السنين قبل الميلاد وليس كما جاء في نظرية التطوّر أنه كان تطوراً عن نوع من القرود وأن الوجود والكون نشأ عبر الصدفة! وحول هذا تتكشف يوماً بعد يوم ألغاز مختلفة عن الحضارات الأقدم من تلك المعروفة والمسجلة منذ ما يُعرف ببداية عصر الكتابة! وأنها حضارات تعود إلى ما يقارب الـ50 ألف سنة قبل الميلاد! ولتثبت قصة الخلق القرآنية أن الإنسان الأول علمه الله الأسماء كلها أو المعارف كلها، ولم يكن مجرد قرد تطور إلى إنسان عاقل! وأنه منذ البداية كان ذا قيم روحية وأخلاقية وفِطرة إنسانية، لم تكن وليدة الصُّدفة حتماً! ولكن ليس هذا ما نوّد طرحه هنا، بل نوّد التأكيد أن البحث عن القيمة الإنسانية وقيمة الوجود في الوجود، هو بحث رافق الإنسان الأول كما رافقه في كل الأزمنة التالية؛ لأن الروح الإنسانية هي بالأصل روح باحثة ومتأملة وفعالة في إظهار اللمسات الخاصة والعبقرية في البناء والإعمار من جهة، وفي الارتقاء الفكري والروحي والأخلاقي من جهة أخرى!
وكل ذلك سجلته المكتشفات والألواح والبرديات في الحضارات القديمة المعروفة وغير المعروفة!
{ للأسف، مع تراجع جوهر ومعنى القيمة الوجودية للإنسان، تم استبدال ذلك البحث الإنساني الطويل عن تميزه الوجودي بقيم أسهمت في تراجعه الحضاري والمعرفي حتى وصل إلى اختزال القيمة بسلوكيات ومظهريات تُدخل الإنسان المعاصر في نظام التفاهة رغم وفرة المعلومات التي لا تعني أنها علوم ومعارف! بل زخرفة سطحية لتلك العلوم!
وهنا ظهر معنى آخر للقيمة أو إظهارها تدور كحلقات مفرغة في دوامة البحث عن البروز والشهرة بأي شكل وبأي طريقة، مهما كانت الفجاجة محركاً لها، بل أحياناً الخواء هو المحرك! وفي عصر التكنولوجيا أصبح التأثير الاجتماعي والفكري والروحي مختزلاً بدوره في «مؤثرين» على السوشيال ميديا، وهم في الغالب مفرغون من أي عمق ثقافي حقيقي! وإنما هم مكتسحون للعالم عبر المظاهر والسلوكيات الفارغة، ما يجعل العمق المعرفي لغالبية البشر المتعاطين مع هؤلاء البشر في تراجع مستمر! لأن هناك نظاما تمّ التحكم فيه بتقنيات إعلامية وتواصلية خبيثة، لإنتاج أجيال مفرغة من المعنى ومن القيمة الوجودية والإنسانية التي كانت هاجس الإنسان عبر العصور، ودافعه لبناء الحضارات الكبرى والمعارف المهمة والعلوم الحقيقية التي تم إدراجها ضمن العلوم السرّية، بالرغم من أنها صاحبت الإنسان العاقل الأول منذ البداية!
{ التراجع الفكري أصاب أيضاً قطاعات معرفية مختلفة بدءاً من الثقافات والفنون والفكر وصولاً إلى السياسة! لكأننا في سيرك استعراضي للأراجوزات والشرائط الملوّنة!
والتطور التكنولوجي يسهم بدوره في إفقاد الإنسان قيمته الاجتماعية والنفسية بشكل مستمر؛ فالذكاء الصناعي يحلّ محله وهو أذكى منه! ولأن هذا التطوّر ليس حرّاً ومستقلاً بل واقعا بدوره في النظام الذي يتم التحكم فيه من ذات الأصابع، التي يصفها البعض بالشريرة أو الظلامية أو بالشيطانية التي تعمل على التحكم في الإنسان بعد إفراغه من قيمته الحقيقية، ومن عقله العميق! ومن إنسانيته الفطرية ومن ثم على اندثاره!
حتى أولئك الذين كانوا يميزون أنفسهم بالاختلافات الفكرية والآيديولوجية والحزبية، وخاصة في الوطن العربي، تحوّلوا من بناء الإنسان وإعمار الأوطان إلى مرتزقة ومعاول هدم وقتل وفتنة، بمسميات سياسية أو دينية أو عِرقية، لا صلة لها بالبناء أو الوطن، وإنما بالهدم والتفريق والصراعات والحروب وصناعة الأزمات! فهل في كل ذلك تكمن أي قيمة أو أي تميّز إنساني، أو حسّ وطني، أو بحث فكري ومعرفي؟!
{ ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في النهاية، لم يتخلّف الإنسان رغم التطوّرات العلمية والتكنولوجية حوله؟!
ولماذا أصبحت الأوطان أو الكثير منها ضحية أنماط التخلف هذه حتى في الحسّ الوطني الذي يحافظ عليها؟!
وكيف تحوّل باني الحضارات القديمة فالأقدم التي كانت متطوّرة أكثر من الآن كما يرد في بعض المكتشفات والدراسات الأثرية، كيف تحوّل هذا الباني العملاق إلى قزم حضاري أمام اكتساح الآلة والذكاء الصناعي، بحيث أصبح يدمّر نفسه ويدمّر كل ما حوله كما نرى اليوم في الحضارة الراهنة؟!
ومع التحولات في القيم والمفاهيم هل بقيت قيمة وجودية للإنسان نفسه، أم هو مجرد كائن بالإمكان استبداله بالآلة كما تعمل وتكرّس العقول الظلامية الكارهة للإنسان؟!

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك