عالم يتغير
فوزية رشيد
والدا طفل المركبة والروح الإنسانية العالية!
{ لو لم نكن في زمن غلبت عليه القيم المادية، وتفشت فيه الشرور والأمراض النفسية كالحقد والحسد والأنانية والغضب وروح الانتقام، لكان هذا المشهد الذي وقف فيه والد الطفل أمام المحكمة ليعفو عن المواطنة التي تركت أو نسيت طفله في السيارة، ليلقى حتفه بعدها، لكان هذا العفو طبيعيا أو غير لافت، ولكن حين تتغلب الرحمة على الألم والإنسانية على روح الانتقام أو القصاص، ويشعر صاحبه بعدها بانشراح الصدر وطمأنينة القلب لأنه وزوجته «أم الطفل» ورغم فقدهما المؤلم طفلهما، اتفقا على العفو الكامل وانتظار العوض من الله، فإن في ذلك تغليب لروح الإيمان والإنسانية، خاصة أن المتهمة القابعة في السجن أم لأبناء تتحمل مسؤوليتهم ووالدهم خارج البحرين. ووالدا الطفل لا يريدان لعائلة المتهمة أن تتشتت، أو يعيش أطفالها مرارة الفقد التي ذاقاها حين فقد طفلهما! خاصة أن «علي المحاري» والد الطفل أشار إلى أن المتهمة لم تكن تقصد ما حدث، وأن النسيان غير المقصود كان سبب الفاجعة، وبذلك وفي بيانه أكد أن العفو في مثل هذه الحالة هو قرار إيمان لا قرار عاطفة، وأنه حين يعفو لا ينكر حقه ولا يبرئ الخطأ، ولكنه يختار أن يترك الحكم الله ويحتسب الأجر عنده كما قال.
{ هذا المشهد لا بد أن يترك تأثيره، في عالم يبدو وكأن غالبية سكانه قد جرفتهم مياه الحياة العميقة نحو قيم مادية لا أخلاقية تتجاهل أصالة وفطرية القيم الإنسانية والقيم الأخلاقية والدينية! ورغم ذلك لا تخلو الحياة من أناس في كل مكان في العالم، يحتفظون بتلك القيم وبالأخلاقيات العالية وأهمها «العفو عند المقدرة» والرحمة التي تدعو إلى تأمل تبعات الإصرار على الانتقام وفي هذا المثال على أطفال أمهم متهمة بالقتل غير المقصود كما في حادث طفل المركبة!
{ ولعل قيمة هذا النموذج الإنساني تنبع من كثرة الشرور التي تحاصر الإنسان في كل مكان، مثلما تنبع من انجراف النفوس الضعيفة ليس بالإضرار بشخص أو عائلة وإنما بوطن وشعب بأكمله، بسبب الأنانيات والمصالح المادية أو غلبة روح الكراهية والأحقاد! وهو ما نراه يومياً في أكثر من بلد، يضيع شعبه بسبب التناحرات إما على السلطة أو على النفوذ أو بسبب التنامرات العرقية والمذهبية! فتدفع مئات كثيرة وبأعداد مليونية الثمن الباهظ بحياتها وتشردها وجوعها، لأن مثلاً هناك صراعا سياسيا بين طرفين، ولا يهم بعدها ما يدفعه شعبهما من مكابدات وآلام! ألم يحدث ذلك في عديد من البلدان العربية؟! ألا يحدث هذا حتى الآن في السودان بكل ما فيه من مشهدية مؤلمة ومجازر عبثية؟! أليست النفوس المريضة بالسلطة والأنانية خلف ما يحدث لشعوب بأكملها؟!
{ ماذا لو كانت الرحمة تسود بين الناس؟! وماذا لو كانت القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية هي التي تحرك النفوس والمواقف؟! وماذا لو كان البشر قادرين على مقاومة شرور المطامع والأحقاد والحسد؟! وماذا لو كان الإنسان يفكر في عواقب قراراته ومواقفه على الآخرين بدافع حس إنساني عال وراق؟! وماذا لو كان البشر يدركون أن المصالح مهما تعالت، والثروات مهما تزايدت، والماديات مهما أغوت، هي في النهاية زائلة! وما يتم حفره في الروح من مواقف إنسانية وقيم نبيلة هي المصلحة الأعلى وهي الثروة الأكثر قيمة، وهي التي تحفظها الروح بداخلها حين ترحل إلى عالم أخروي، الميزان فيه لغلبة الخير والإنسانية والعمل الصالح، وهي معاً من موجبات الإنسانية والإيمان الحقيقي، حيث المخبر لا المظهر!
{ لو كان البشر يتأملون هذه الحياة بعمق إيماني وإنساني، لكانت الحياة أفضل بكثير مما هي عليه اليوم، وحيث الإنسان وحده من يعطي السلطة والسطوة للشيطان وشروره وإغواءاته، لتندلع حروب الأطماع، وصراعات التناحر على الماديات، وأزمات مفتعلة ليتغلب طرف على آخر، وأنانيات وكراهية وأحقاد! وهؤلاء من يقتلون الأكثرية لكي تتسيّد الأقلية، بينما دين الرحمة يدعو إلى أن من أحيا نفسا كمن أحيا الجميع! شكرا لوالدي الطفل «حسين» لأنهما أعادا الحياة إلى قيم إنسانية نبيلة يبدو أن كثيرين وكثيرين جداً قد نسوها! وهذا ما دفعنا إلى التأمل.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك