زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
طارت الكونكورد ونحن قعود
أكتب هذا المقال، وأنا في العاصمة الكندية، أوتاوا، التي حللت بها أهلا ونزلت سهلا في بيت غسان أكبر أولادي، وهو مثلي ضاق به وطنه، فاختار الهجرة «النهائية». ورغم سعادتي الفائقة بأن أكون محاطا بأسرة ولدي الصغيرة، إلا أن التفكير في رحلة العودة الى قطر طوال 13 ساعة من الطيران المتواصل تقلق صحوي ومنامي، وتعاطفت كثيرا، من ثمّ، مع سيدة ألمانية كانت في مطار القاهرة، عندما سمعت النداء بركوب الطائرة المتجهة الى وطنها، فأصيبت بحالة من الهستيريا والصراخ وانتهى بها الأمر وقد تجردت من ملابسها تماما، وتمكنت سلطات أمن المطار من السيطرة عليها وحقنها بمادة مهدئة وتسليمها لسفارة بلادها.
وبالمناسبة فإن خوفي من ركوب الطائرات «امتد» ليشمل المصعد الكهربائي (الأسانسير)، واكتشفت في النهاية ان ذلك ناتج عن مرض نفسي يسمى «كلوستروفوبيا» وهو الخوف من الأماكن الضيقة المغلقة (تعافيت منه بحمد الله بنسبة كبيرة)، ولولا خوفي من ركوب الطائرات لكنت ضمن أقلية عربية استخدمت طائرة الكونكورد في السفر من مكان الى آخر، وكنت قد اقنعت نفسي بأنه طالما أنه لا مفر من استخدام الطائرة للسفر فلماذا لا اركب طائرة تختزل الوقت وتوصلني الى وجهتي بأسرع ما يمكن و«أَخْلَصْ»، ولكن الكونكورد دخلت الخدمة ثم تقاعدت من دون ان أركبها ولا أعتقد ان عدد العرب الذين استخدموها يتجاوز الألف. ركِّز معي: ظهرت طائرة تتجاوز سرعتها سرعة الصوت وطافت بعدد من البلدان، دون ان تمر بأجواء أو تهبط في مطار أي دولة عربية في رحلة تجارية!! فهمت شيئا؟ يعني الزمن جرى وما زال يجري من حولنا ونحن عاجزون عن مواكبته واللحاق به!! قبل نحو شهرين علمت ان شقيق أحد أصدقائي في العاصمة القطرية الدوحة حيث أقيم، شرَّف المدينة، فقمت بزيارته، وكان الرجل فوق الأربعين بقليل، وبدا لي ان حالته الصحية سيئة للغاية، فسألت صديقي عن العلة التي يعاني منها شقيقه فقال: ما عنده شيء، وصحته حديد، وكل ما في الأمر هو أنه ركب الطائرة لأول مرة في حياته، وقضى الرحلة من الخرطوم الى الدوحة وهو يبكي عياله الذين سيصبحون بلا عائل، ويوصي الركاب بهم خيرا، حتى انتقلت عدوى الخوف الى جميع من كانوا حوله في الطائرة، لأنهم حسبوا أنه على علم بأن الطائرة مصابة بخلل ما، الى أن بلغ الغضب بأحد الركاب الدرجة التي صاح فيها في وجه شقيق صديقي: لماذا توصينا على عيالك؟ هل ستكون المتوفى الوحيد في حال سقوط الطائرة؟
هل تضحك ايها القارئ «المتحضر» على الرجل الذي لم يركب الطائرة حتى تجاوز الأربعين؟ اضحك حتى صباح يوم الغد لأن أكثر من 85% من ابناء الحظيرة العربية لم يركبوا طائرة طوال حياتهم، ونحو 60% من ابناء تلك الزريبة لا يتعاملون مع الحنفيات والمياه الجارية المصفاة، ومثلهم لا يزالون يطبخون طعامهم «على الحطب». أذكر أنني قررت في أوائل ثمانينات القرن الماضي ان أُدخل والدتي عالم القرن العشرين فاشتريت لها جهاز طبخ يعمل بالغاز، وشرعت أشرح لها كيفية استخدامه ولكنها لم تمهلني: شتمتني ووصفتني بالعقوق واتهمتني بأنني أخطط لقتلها «عشان الورث»،.. حاولت ان أقنعها بمزايا طباخ الغاز وذكرتها بأنها لا تملك شيئا من «الورث» حتى تلبسني تلك التهمة الظالمة، ولكن بلا طائل، فأخذت الطباخ وأهديته لإحدى شقيقاتي، ولم تقتنع امي بجدواه إلا في نهاية عقد التسعينات، ثم سمعت ذات عام لاحق، بأنني اعتزم زيارتها بعد نحو اسبوعين، فطلبت مني أن أحضر لها فرن مايكروويف!! فقلت لها: ينصر دينك يا حاجة آمنة.. كده تكوني رفعت راسنا، وتثبتي لأهل الخرطوم اننا نحن أهل النوبة قادرون على مجاراة العصر! كم سعدت بأن أمي صارت تقبل التعامل مع التكنولوجيا بينما نحو 90% من ابناء وطننا الكبير، يستعيذون من الشيطان إذا سمعوا كلمة مايكروويف لأنهم يحسبونها نوعا من الميكروبات.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك