العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

طارت الكونكورد ونحن قعود

أكتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الكندية،‭ ‬أوتاوا،‭ ‬التي‭ ‬حللت‭ ‬بها‭ ‬أهلا‭ ‬ونزلت‭ ‬سهلا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬غسان‭ ‬أكبر‭ ‬أولادي،‭ ‬وهو‭ ‬مثلي‭ ‬ضاق‭ ‬به‭ ‬وطنه،‭ ‬فاختار‭ ‬الهجرة‭ ‬‮«‬النهائية‮»‬‭. ‬ورغم‭ ‬سعادتي‭ ‬الفائقة‭ ‬بأن‭ ‬أكون‭ ‬محاطا‭ ‬بأسرة‭ ‬ولدي‭ ‬الصغيرة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬قطر‭ ‬طوال‭ ‬13‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الطيران‭ ‬المتواصل‭ ‬تقلق‭ ‬صحوي‭ ‬ومنامي،‭ ‬وتعاطفت‭ ‬كثيرا،‭ ‬من‭ ‬ثمّ،‭ ‬مع‭ ‬سيدة‭ ‬ألمانية‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬القاهرة،‭ ‬عندما‭ ‬سمعت‭ ‬النداء‭ ‬بركوب‭ ‬الطائرة‭ ‬المتجهة‭ ‬الى‭ ‬وطنها،‭ ‬فأصيبت‭ ‬بحالة‭ ‬من‭ ‬الهستيريا‭ ‬والصراخ‭ ‬وانتهى‭ ‬بها‭ ‬الأمر‭ ‬وقد‭ ‬تجردت‭ ‬من‭ ‬ملابسها‭ ‬تماما،‭ ‬وتمكنت‭ ‬سلطات‭ ‬أمن‭ ‬المطار‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬وحقنها‭ ‬بمادة‭ ‬مهدئة‭ ‬وتسليمها‭ ‬لسفارة‭ ‬بلادها‭.‬

وبالمناسبة‭ ‬فإن‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬ركوب‭ ‬الطائرات‭ ‬‮«‬امتد‮»‬‭ ‬ليشمل‭ ‬المصعد‭ ‬الكهربائي‭ (‬الأسانسير‭)‬،‭ ‬واكتشفت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬ان‭ ‬ذلك‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬مرض‭ ‬نفسي‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬كلوستروفوبيا‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬الضيقة‭ ‬المغلقة‭ (‬تعافيت‭ ‬منه‭ ‬بحمد‭ ‬الله‭ ‬بنسبة‭ ‬كبيرة‭)‬،‭ ‬ولولا‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬ركوب‭ ‬الطائرات‭ ‬لكنت‭ ‬ضمن‭ ‬أقلية‭ ‬عربية‭ ‬استخدمت‭ ‬طائرة‭ ‬الكونكورد‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الى‭ ‬آخر،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬اقنعت‭ ‬نفسي‭ ‬بأنه‭ ‬طالما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬الطائرة‭ ‬للسفر‭ ‬فلماذا‭ ‬لا‭ ‬اركب‭ ‬طائرة‭ ‬تختزل‭ ‬الوقت‭ ‬وتوصلني‭ ‬الى‭ ‬وجهتي‭ ‬بأسرع‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬و«أَخْلَصْ‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬الكونكورد‭ ‬دخلت‭ ‬الخدمة‭ ‬ثم‭ ‬تقاعدت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬أركبها‭ ‬ولا‭ ‬أعتقد‭ ‬ان‭ ‬عدد‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬استخدموها‭ ‬يتجاوز‭ ‬الألف‭. ‬ركِّز‭ ‬معي‭: ‬ظهرت‭ ‬طائرة‭ ‬تتجاوز‭ ‬سرعتها‭ ‬سرعة‭ ‬الصوت‭ ‬وطافت‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬البلدان،‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬تمر‭ ‬بأجواء‭ ‬أو‭ ‬تهبط‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬تجارية‭!! ‬فهمت‭ ‬شيئا؟‭ ‬يعني‭ ‬الزمن‭ ‬جرى‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬ونحن‭ ‬عاجزون‭ ‬عن‭ ‬مواكبته‭ ‬واللحاق‭ ‬به‭!! ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬شهرين‭ ‬علمت‭ ‬ان‭ ‬شقيق‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائي‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬القطرية‭ ‬الدوحة‭ ‬حيث‭ ‬أقيم،‭ ‬شرَّف‭ ‬المدينة،‭ ‬فقمت‭  ‬بزيارته،‭ ‬وكان‭ ‬الرجل‭ ‬فوق‭ ‬الأربعين‭ ‬بقليل،‭ ‬وبدا‭ ‬لي‭ ‬ان‭ ‬حالته‭ ‬الصحية‭ ‬سيئة‭ ‬للغاية،‭ ‬فسألت‭ ‬صديقي‭ ‬عن‭ ‬العلة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬شقيقه‭ ‬فقال‭: ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬شيء،‭ ‬وصحته‭ ‬حديد،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ركب‭ ‬الطائرة‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وقضى‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬الخرطوم‭ ‬الى‭ ‬الدوحة‭ ‬وهو‭ ‬يبكي‭ ‬عياله‭ ‬الذين‭ ‬سيصبحون‭ ‬بلا‭ ‬عائل،‭ ‬ويوصي‭ ‬الركاب‭ ‬بهم‭ ‬خيرا،‭ ‬حتى‭ ‬انتقلت‭ ‬عدوى‭ ‬الخوف‭ ‬الى‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬حوله‭ ‬في‭ ‬الطائرة،‭ ‬لأنهم‭ ‬حسبوا‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بأن‭ ‬الطائرة‭ ‬مصابة‭ ‬بخلل‭ ‬ما،‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬الغضب‭ ‬بأحد‭ ‬الركاب‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬صاح‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬شقيق‭ ‬صديقي‭: ‬لماذا‭ ‬توصينا‭ ‬على‭ ‬عيالك؟‭ ‬هل‭ ‬ستكون‭ ‬المتوفى‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬سقوط‭ ‬الطائرة؟

هل‭ ‬تضحك‭ ‬ايها‭ ‬القارئ‭ ‬‮«‬المتحضر‮»‬‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يركب‭ ‬الطائرة‭ ‬حتى‭ ‬تجاوز‭ ‬الأربعين؟‭ ‬اضحك‭ ‬حتى‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬الغد‭ ‬لأن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬85%‭ ‬من‭ ‬ابناء‭ ‬الحظيرة‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬يركبوا‭ ‬طائرة‭ ‬طوال‭ ‬حياتهم،‭ ‬ونحو‭ ‬60%‭ ‬من‭ ‬ابناء‭ ‬تلك‭ ‬الزريبة‭ ‬لا‭ ‬يتعاملون‭ ‬مع‭ ‬الحنفيات‭ ‬والمياه‭ ‬الجارية‭ ‬المصفاة،‭ ‬ومثلهم‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬يطبخون‭ ‬طعامهم‭ ‬‮«‬على‭ ‬الحطب‮»‬‭. ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬قررت‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬ثمانينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬ان‭ ‬أُدخل‭ ‬والدتي‭ ‬عالم‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬فاشتريت‭ ‬لها‭ ‬جهاز‭ ‬طبخ‭ ‬يعمل‭ ‬بالغاز،‭ ‬وشرعت‭ ‬أشرح‭ ‬لها‭ ‬كيفية‭ ‬استخدامه‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬تمهلني‭: ‬شتمتني‭ ‬ووصفتني‭ ‬بالعقوق‭ ‬واتهمتني‭ ‬بأنني‭ ‬أخطط‭ ‬لقتلها‭ ‬‮«‬عشان‭ ‬الورث‮»‬،‭.. ‬حاولت‭ ‬ان‭ ‬أقنعها‭ ‬بمزايا‭ ‬طباخ‭ ‬الغاز‭ ‬وذكرتها‭ ‬بأنها‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬‮«‬الورث‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬تلبسني‭ ‬تلك‭ ‬التهمة‭ ‬الظالمة،‭ ‬ولكن‭ ‬بلا‭ ‬طائل،‭ ‬فأخذت‭ ‬الطباخ‭ ‬وأهديته‭ ‬لإحدى‭ ‬شقيقاتي،‭ ‬ولم‭ ‬تقتنع‭ ‬امي‭ ‬بجدواه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬عقد‭ ‬التسعينات،‭ ‬ثم‭ ‬سمعت‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬لاحق،‭ ‬بأنني‭ ‬اعتزم‭ ‬زيارتها‭ ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬اسبوعين،‭ ‬فطلبت‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أحضر‭ ‬لها‭ ‬فرن‭ ‬مايكروويف‭!! ‬فقلت‭ ‬لها‭: ‬ينصر‭ ‬دينك‭ ‬يا‭ ‬حاجة‭ ‬آمنة‭.. ‬كده‭ ‬تكوني‭ ‬رفعت‭ ‬راسنا،‭ ‬وتثبتي‭ ‬لأهل‭ ‬الخرطوم‭ ‬اننا‭ ‬نحن‭ ‬أهل‭ ‬النوبة‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬مجاراة‭ ‬العصر‭! ‬كم‭ ‬سعدت‭ ‬بأن‭ ‬أمي‭ ‬صارت‭ ‬تقبل‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬بينما‭ ‬نحو‭ ‬90%‭ ‬من‭ ‬ابناء‭ ‬وطننا‭ ‬الكبير،‭ ‬يستعيذون‭ ‬من‭ ‬الشيطان‭ ‬إذا‭ ‬سمعوا‭ ‬كلمة‭ ‬مايكروويف‭ ‬لأنهم‭ ‬يحسبونها‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الميكروبات‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا