العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عندما نظلم أنفسنا والآخرين

أذكر‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬هنا‭ ‬قبل‭ ‬أشهر‭ ‬وربما‭ ‬سنوات‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬المتتالية،‭ ‬عن‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نفوِّت‭ ‬فرصة‭ ‬الثأر،‭ ‬ممن‭ ‬نحسب‭ ‬أنهم‭ ‬أهانونا‭ ‬او‭ ‬اعتدوا‭ ‬علينا‭ ‬باليد‭ ‬أو‭ ‬اللسان،‭ ‬فمازالت‭ ‬بنا‭ ‬بعض‭ ‬جاهلية‭ ‬‮«‬ونحن‭ ‬أناس‭ ‬لا‭ ‬توسط‭ ‬عندنا‭ / ‬لنا‭ ‬الصدر‭ ‬دون‭ ‬العالمين‭ ‬او‭ ‬القبرُ‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬يرشنا‭ ‬باللبن‭ ‬نرشّه‭ ‬بالدم،‭ ‬ورغم‭ ‬أننا‭ ‬خطّاؤون‭ ‬بحكم‭ ‬أننا‭ ‬بشر،‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نسامح‭ ‬الآخرين‭ ‬على‭ ‬أخطائهم،‭ ‬بينما‭ ‬نريد‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬أن‭ ‬يسامحونا‭ ‬إذا‭ ‬أخطأنا‭ ‬في‭ ‬حقهم‭.‬

أستعيد‭ ‬هنا‭ ‬موقفا‭ ‬حرجا‭ ‬وصعبا‭ ‬مررت‭ ‬به‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬رسمية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الفاشر‭ ‬عاصمة‭ ‬إقليم‭ ‬دار‭ ‬فور‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬السودان‭ ‬الذي‭ ‬تدور‭ ‬فيه‭ ‬حاليا‭ ‬رحى‭ ‬حرب‭ ‬ضروس،‭ ‬وكان‭ ‬الاقليم‭ ‬وقتها‭ ‬هادئا‭ ‬ووادعا،‭ ‬وكان‭ ‬حكم‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬في‭  ‬قمة‭ ‬عنفوانه‭ ‬وبطشه،‭ ‬وكما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الصغيرة‭ ‬فقد‭ ‬احتضنني‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬وضباط‭ ‬الجيش‭ ‬والشرطة‭ ‬ومسؤولي‭ ‬الحكومة‭ ‬المحلية،‭ ‬وكان‭ ‬مقررا‭ ‬ان‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬نزل‭ ‬حكومي‭ ‬ولكن‭ ‬الجميع‭ ‬اعتبروا‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬عيبا‮»‬‭: ‬هل‭ ‬انت‭ ‬مقطوع‭ ‬من‭ ‬شجرة‭ ‬كي‭ ‬تقيم‭ ‬في‭ ‬مسكن‭ ‬حكومي‭ ‬خلال‭ ‬زيارة‭ ‬قصيرة‭ ‬للمدينة‭: ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬صباح‭ ‬مساء‭ ‬مع‭ ‬اصدقائي‭ ‬الجدد‭ ‬رغم‭ ‬انني‭ ‬لم‭ ‬اكن‭ ‬اعرف‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ورغم‭ ‬انني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬حفظت‭ ‬اسماءهم،‭.. ‬وذات‭ ‬مساء‭ ‬استفسرت‭ ‬عما‭ ‬اذا‭ ‬كان‭ ‬ممكنا‭ ‬ان‭ ‬يساعدوني‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬صديق‭ ‬لي‭ ‬كان‭ ‬سجينا‭ ‬سياسيا‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬شالا‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬اطراف‭ ‬مدينة‭ ‬الفاشر،‭ ‬وأضفت‭ ‬بدون‭ ‬مناسبة‭ ‬انني‭ ‬سمعت‭ ‬أن‭ ‬مدير‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬المحافظة‭ ‬لئيم‭ ‬ومتغطرس،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنني‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬من‭ ‬يتوسط‭ ‬لي‭ ‬عنده‭ ‬كي‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬صديقي،‭ ‬فقال‭ ‬شاب‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬بالقرب‭ ‬مني‭ ‬إنه‭ ‬سيتولى‭ ‬امر‭ ‬الضابط‭ ‬اللئيم‭ ‬ويرتب‭ ‬لي‭ ‬زيارة‭ ‬صديقي،‭ ‬وبعدها‭ ‬بيوم‭ ‬أو‭ ‬يومين‭ ‬أبلغني‭ ‬الشخص‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬ترتيبات‭ ‬اتخذت‭ ‬ليقوم‭ ‬صديقي‭ ‬السجين‭ ‬بزيارة‭ ‬المستشفى‭ ‬بزعم‭ ‬انه‭ ‬مريض،‭ ‬وان‭ ‬بإمكاني‭ ‬لقاءه‭ ‬في‭ ‬مكتب‭ ‬مدير‭ ‬المستشفى،‭ ‬وتمت‭ ‬الزيارة‭ ‬وجلست‭ ‬وصديقي‭ ‬المعتقل‭ ‬نحو‭ ‬اربع‭ ‬ساعات‭ ‬نتكلم‭ ‬ونأكل‭ ‬طعاما‭ ‬احضره‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬رتب‭ ‬اللقاء،‭ ‬وقبل‭ ‬غروب‭ ‬الشمس‭ ‬بقليل‭ ‬قال‭ ‬صاحبي‭ ‬إن‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬قبل‭ ‬موعد‭ ‬الطابور‭ ‬المسائي‭ ‬المخصص‭ ‬لحصر‭ ‬عدد‭  ‬المعتقلين،‭ ‬وهو‭ ‬إجراء‭ ‬معتاد‭ ‬صباحا‭ ‬ومساء‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬السجون،‭ ‬وخرجنا‭ ‬من‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نجلس‭ ‬فيها‭ ‬لنكتشف‭ ‬ان‭ ‬المستشفى‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬الأطباء‭ ‬والمرضى‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬حارس‭ ‬السجن‭ ‬الذي‭ ‬رافق‭ ‬صديقي‭ ‬الى‭ ‬المستشفى‭.. ‬وشعر‭ ‬السجين‭ ‬بالضيق‭ ‬والتوتر‭: ‬كيف‭ ‬ارجع‭ ‬الى‭ ‬السجن؟‭ ‬هل‭ ‬أذهب‭ ‬اليه‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬تاكسي‭ ‬واقف‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬لأقول‭ ‬لهم‭: ‬افتحوا‭ ‬لي‭ ‬كي‭ ‬ادخل‭ ‬فأنا‭ ‬معتقل‭ ‬سياسي؟‭ ‬هل‭ ‬أذهب‭ ‬الى‭ ‬مركز‭ ‬الشرطة‭ ‬لأبلغهم‭ ‬بأنني‭ ‬سجين‭ ‬ولا‭ ‬أجد‭ ‬من‭ ‬يعيدني‭ ‬إلى‭ ‬السجن؟‭.. ‬كان‭ ‬ما‭ ‬يشغل‭ ‬صاحبي‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬لا‭ ‬يوقع‭ ‬من‭ ‬رتب‭ ‬اللقاء‭ ‬بيننا‭ ‬في‭ ‬حرج‭ ‬ومساءلة‭. ‬وبينما‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬حيص‭ ‬بيص‭ ‬جاء‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬الى‭ ‬جواري‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأمسية‭ ‬ووعدني‭ ‬بتذليل‭ ‬الأمور‭ ‬مع‭ ‬ضابط‭ ‬الامن‭ ‬المتغطرس‭ ‬اللئيم‭ ‬فصافحه‭ ‬صديقي‭ ‬السجين‭ ‬بحرارة‭ ‬وخاطبه‭ ‬بلقب‭ ‬عسكري‭ ‬ثم‭ ‬شكره‭ ‬على‭ ‬ترتيب‭ ‬اللقاء‭ ‬معرضا‭ ‬نفسه‭ ‬للقيل‭ ‬والقال‭ ‬وربما‭ ‬الطرد‭ ‬من‭ ‬الخدمة‭!! ‬وبدأت‭ ‬الصورة‭ ‬تتضح‭ ‬امامي،‭ ‬وبدأت‭ ‬بطني‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬أصوات‭ ‬تنذر‭ ‬بكارثة‭ ‬بيئية‭: ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬هو‭ ‬مدير‭ ‬الامن‭ ‬في‭ ‬المحافظة‭.. ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬وصفته‭ ‬باللؤم‭ ‬والغطرسة‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الرجل‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬معتقلا‭ ‬سياسيا‭ ‬في‭ ‬عهدتي‭ ‬بلا‭ ‬حراسة‭.. ‬أدركت‭ ‬كيف‭ ‬نظلم‭ ‬أنفسنا‭ ‬وغيرنا‭ ‬بشهادات‭ ‬سماعية‭ ‬غير‭ ‬موثوق‭ ‬بها‭.. ‬وأدركت‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬وصفه‭ ‬الآخرون‭ ‬باللؤم‭ ‬والغطرسة‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬مني‭ ‬نبلا‭ ‬وانسانية‭ ‬عندما‭ ‬لم‭ ‬يضمر‭ ‬لي‭ ‬شرا‭ ‬برغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قلته‭ ‬فيه‭ ‬أمام‭ ‬جمع‭ ‬غفير‭ ‬بل‭ ‬ساعدني‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬بغيتي‭.. ‬ووضع‭ ‬حدا‭ ‬لتوتري‭ ‬وحرجي‭ ‬بقوله‭: ‬ولا‭ ‬يهمك‭ ‬فرجل‭ ‬الأمن‭ ‬موصوم‭ ‬باللؤم‭ ‬والغطرسة‭ ‬في‭ ‬‮«‬المخيلة‭ ‬الشعبية‮»‬،‭ ‬مهما‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬خير‭ ‬وعمل‭ ‬طيب‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا