زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عندما نظلم أنفسنا والآخرين
أذكر أنني كتبت هنا قبل أشهر وربما سنوات عددا من المقالات المتتالية، عن أننا لا نفوِّت فرصة الثأر، ممن نحسب أنهم أهانونا او اعتدوا علينا باليد أو اللسان، فمازالت بنا بعض جاهلية «ونحن أناس لا توسط عندنا / لنا الصدر دون العالمين او القبرُ»، ومن يرشنا باللبن نرشّه بالدم، ورغم أننا خطّاؤون بحكم أننا بشر، فإننا لا نسامح الآخرين على أخطائهم، بينما نريد من الآخرين أن يسامحونا إذا أخطأنا في حقهم.
أستعيد هنا موقفا حرجا وصعبا مررت به قبل سنوات طويلة، عندما كنت في مهمة رسمية في مدينة الفاشر عاصمة إقليم دار فور في غرب السودان الذي تدور فيه حاليا رحى حرب ضروس، وكان الاقليم وقتها هادئا ووادعا، وكان حكم جعفر نميري في قمة عنفوانه وبطشه، وكما يحدث في المدن الصغيرة فقد احتضنني في المدينة عدد من الموظفين وضباط الجيش والشرطة ومسؤولي الحكومة المحلية، وكان مقررا ان أقيم في نزل حكومي ولكن الجميع اعتبروا ذلك «عيبا»: هل انت مقطوع من شجرة كي تقيم في مسكن حكومي خلال زيارة قصيرة للمدينة: ووجدت نفسي صباح مساء مع اصدقائي الجدد رغم انني لم اكن اعرف معظمهم من قبل ورغم انني لم أكن قد حفظت اسماءهم،.. وذات مساء استفسرت عما اذا كان ممكنا ان يساعدوني في زيارة صديق لي كان سجينا سياسيا في سجن شالا الواقع على اطراف مدينة الفاشر، وأضفت بدون مناسبة انني سمعت أن مدير الأمن في المحافظة لئيم ومتغطرس، ومن ثم فإنني بحاجة الى من يتوسط لي عنده كي أتمكن من زيارة صديقي، فقال شاب كان يجلس بالقرب مني إنه سيتولى امر الضابط اللئيم ويرتب لي زيارة صديقي، وبعدها بيوم أو يومين أبلغني الشخص نفسه أن ترتيبات اتخذت ليقوم صديقي السجين بزيارة المستشفى بزعم انه مريض، وان بإمكاني لقاءه في مكتب مدير المستشفى، وتمت الزيارة وجلست وصديقي المعتقل نحو اربع ساعات نتكلم ونأكل طعاما احضره لنا من رتب اللقاء، وقبل غروب الشمس بقليل قال صاحبي إن عليه أن يعود إلى السجن قبل موعد الطابور المسائي المخصص لحصر عدد المعتقلين، وهو إجراء معتاد صباحا ومساء في معظم السجون، وخرجنا من الغرفة التي كنا نجلس فيها لنكتشف ان المستشفى خال من الأطباء والمرضى بل لم نجد حارس السجن الذي رافق صديقي الى المستشفى.. وشعر السجين بالضيق والتوتر: كيف ارجع الى السجن؟ هل أذهب اليه في سيارة تاكسي واقف عند الباب لأقول لهم: افتحوا لي كي ادخل فأنا معتقل سياسي؟ هل أذهب الى مركز الشرطة لأبلغهم بأنني سجين ولا أجد من يعيدني إلى السجن؟.. كان ما يشغل صاحبي هو ان لا يوقع من رتب اللقاء بيننا في حرج ومساءلة. وبينما نحن في حيص بيص جاء ذلك الشاب الذي كان يجلس الى جواري في تلك الأمسية ووعدني بتذليل الأمور مع ضابط الامن المتغطرس اللئيم فصافحه صديقي السجين بحرارة وخاطبه بلقب عسكري ثم شكره على ترتيب اللقاء معرضا نفسه للقيل والقال وربما الطرد من الخدمة!! وبدأت الصورة تتضح امامي، وبدأت بطني في إصدار أصوات تنذر بكارثة بيئية: كان ذلك الشاب هو مدير الامن في المحافظة.. الرجل الذي وصفته باللؤم والغطرسة كان هو الرجل نفسه الذي ترك معتقلا سياسيا في عهدتي بلا حراسة.. أدركت كيف نظلم أنفسنا وغيرنا بشهادات سماعية غير موثوق بها.. وأدركت أن ذلك الرجل الذي وصفه الآخرون باللؤم والغطرسة كان أكثر مني نبلا وانسانية عندما لم يضمر لي شرا برغم كل ما قلته فيه أمام جمع غفير بل ساعدني في تحقيق بغيتي.. ووضع حدا لتوتري وحرجي بقوله: ولا يهمك فرجل الأمن موصوم باللؤم والغطرسة في «المخيلة الشعبية»، مهما فعل من خير وعمل طيب.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك