عالم يتغير

فوزية رشيد
انقلاب المنطق!
{ من الواضح أن العقل البشري يعيش اليوم محنة لم يمرّ بها قط! فلم يعد الأمر مقتصرًا على استشراء «نظام التفاهة» والغباء، بل ومحاصرة كل مقاييس وموازين المنطق الذي يحكم عادة تصرفات الدول والأفراد، وحيث الاختلال المفضوح والمباشر في المفاهيم وصل إلى كل المعطيات البشرية،
سواء في الفكر أو الثقافة أو السياسة أو حتى الاقتصاد! بل إن المحنة تزداد كثافة يومًا بعد يوم! لنأخذ مثالاً أوليًّا على ذلك:
في الوقت الذي يواجه فيه أهل غزة أزمة إنسانية متفاقمة، بعد استمرار حرب الإبادة والتجويع والتعطيش، وتصريحات الأمم المتحدة نفسها بالكارثة الإنسانية التي أدّت وتؤدي إلى موت آلاف الأطفال بسبب الجوع وفقر التغذية، إلى جانب ما يعانيه السكان جميعًا من منع المساعدات نهائيًّا بعد دخول بعضها، وخاصة الإغاثة الطبية، من خلال فترات الهدنة القصيرة قبل أشهر، فإن استمرار الحرب على قطاع مدّمر كليًّا بنسبة 80 إلى 90%، واستمرار التجويع حتى الموت، والذي ضجّ منه ضمير شعوب العالم وهي ترى القتل بكل الأشكال في حق المدنيين، دفع الولايات المتحدة، الشريك المطلق في تلك الإبادة، إلى محاولة تنظيف صفحتها بعد مرور أكثر من عام ونصف العام، لتقول إنها تعمل على آلية جديدة من أجل إدخال بعض المساعدات إلى غزة! ولكن سرعان ما جاء الرّد العنصري والمتطرف، الذي يقلب كل مفهوم متعارف عليه وكل منطق من وزير الأمن القومي لدولة الاحتلال الصهيوني «إيتمار بن غفير» ليصف محاولة إدخال بعض المساعدات على أنه (قرار أحمق وخاطئ، بل وخطأ أخلاقي واستراتيجي) وبذلك فإن إرهابيي الكيان بعد أن قلبوا كل المفاهيم والمعادلات الأخلاقية في حرب الإبادة، وأظهروا للعالم كله أن كيانهم الغاصب قد داس على كل ما هو إنساني وأخلاقي، وأنه كيان إرهابي وعنصري، وفاق كل المقاييس في التطرّف! ها هو بوزيره الأكثر عنصرية، يصف تقديم حتى ولو شيء بسيط من المساعدات الإنسانية والإغاثة الطبية، للمدنيين والأطفال والنساء بأنه خطأ أخلاقي! فهل هناك انقلاب للمنطق أكثر من هذا؟!
{ هذا مجرد نموذج واحد ومثال واحد قد يكون صغيرًا للكيفية التي يتم التعامل بها مع العقل الإنساني، واختراق كل معادلاته وأسسه الطبيعية والمنطقية، حتى يمرّ مثل هذا الكلام على المستوى السياسي والإعلامي العالمي وكأنه تصريح عادي يمرّ مرور الكرام! ولعلّ انقلاب المنطق والمفاهيم والأسس الفكرية ومنطلقات القيم الإنسانية، وقعت منذ زمن فرض الدول الأقوى مفاهيمها على الدول الأضعف، ولكن لم تبلغ قط هذه الدرجة من الإسفاف واستغباء العقل، كما هي منذ تأسيس الكيان الصهيوني، وقيامه على جرائم الحرب والمجازر والإبادة، واعتبار كل ذلك منذ 76 عامًا على أنه حق مشروع للكيان ودفاع عن النفس! وأي اعتراض أو محاولة لفكّ حصار القتل بالتجويع، كما يحدث اليوم في غزة، هو الأمر غير الأخلاقي! فهل بقي لمفهوم الأخلاق أو الإنسانية أي معنى بعد ذلك؟!
{ إن جرعات تزييف الوعي الإنساني، وتشويه قيمه وفطرته والمنطق الطبيعي الذي لازم البشرية منذ بدايتها، رغم الظلم والتعسف والاحتلالات، هذه الجرعات أصبحت اليوم شديدة الُسميّة (من السم) خاصة أنه يتم قذفها في العالم بشكل يومي واعتيادي وروتيني! بعد أن عمل المستعمرون الغربيون منذ زمن طويل على قلب الحقائق وتزييف التاريخ، وتفكيك الأسس العقلية والروحية للتفكير الإنساني الطبيعي، وتفكيك كل المنطلقات الأخلاقية والإنسانية، وإدخال العالم كله في نظام مؤسساتي من التفاهة والغباء وسطوة القيم المنحرفة! حتى وصل الهجوم على العقل نفسه، باتباع أساليب الحرب الناعمة، لتغيير الأفكار الطبيعية، لتقع فريسة في أيدي الطغاة والمحتلين، ولتقع الشعوب أيضًا بالموازاة في عالم يتخبّطه اللا عقل واللا منطق واللا أخلاقية واللا إنسانية! فإذا بحثنا عن أمثلة ذلك فإنها تحتاج إلى مجلدات حول الانقلاب الحادث في الحياة البشرية، لأن المنطق حين ينقلب، فإنه ينقلب معه كل شيء وينهار!، لتصبح التصريحات المتطرفة والعنصرية واللا أخلاقية، وكأنها مجرد وجهة نظر! والإعلام يروّج لكل وجهات النظر بشكل اعتيادي، دون أن يتوقف أمام الكارثية التي تحملها وجهات النظر تلك، وأثرها على النفس والعقل والمنطق، خاصة حين يمرّ عليها الجميع مرور الكرام!
إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك