العدد : ١٧٢٠٠ - السبت ٢٦ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٨ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٠٠ - السبت ٢٦ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٨ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

هل سرقة المال العام حلال

في‭ ‬معرض‭ ‬إثبات‭ ‬ان‭ ‬قوانين‭ ‬الخدمة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬أي‭ ‬كلام‮»‬،‭ ‬كتبت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬استقالتي‭ ‬من‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬لألتحق‭ ‬بوظيفة‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬أرامكو‭ ‬السعودية،‭ ‬واكتشافي‭ ‬لاحقا‭ ‬ان‭ ‬راتبي‭ ‬ظل‭ ‬يرد‭ ‬الى‭ ‬البنك‭ ‬بعدها‭ ‬بشهور،‭ ‬ولما‭ ‬نبهت‭ ‬الجهة‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬عملي‭ ‬السابق‭ ‬الى‭ ‬الخطأ‭ ‬صدر‭ ‬قرار‭ ‬بفصلي‭ ‬من‭ ‬الخدمة،‭ ‬ولم‭ ‬يسألني‭ ‬أحد‭ ‬عن‭ ‬المال‭ ‬السائب‭ ‬الذي‭ ‬تسرب‭ ‬الى‭ ‬حسابي‭ ‬البنكي‭.‬

ورد‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬سعودية‭ ‬ان‭ ‬مقيما‭ ‬عربيا‭ ‬قام‭ ‬بتسوير‭ ‬موقع‭ ‬مخصص‭ ‬لحديقة‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أحياء‭ ‬مدينة‭ ‬جدة‭ ‬بالأشجار،‭ ‬ووضع‭ ‬فيه‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬السيارات‭ ‬ذات‭ ‬الصلاحية‭ ‬المنتهية،‭ ‬ليتسنى‭ ‬له‭ ‬بذلك‭ ‬الزعم‭ ‬بأنه‭ ‬استثمر‭ ‬أرضا‭ ‬بورا،‭ ‬فيصبح‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬ان‭ ‬يمتلك‭ ‬الأرض‭ ‬المخصصة‭ ‬للحديقة‭ ‬بكاملها‭ ‬بنظام‭ ‬‮«‬وضع‭ ‬اليد‮»‬،‭ ‬ويطيب‭ ‬لي‭ ‬ان‭ ‬أحيي‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬جاب‭ ‬الأمور‭ ‬من‭ ‬قاصرها‮»‬،‭ ‬فبدلا‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬يسعى‭ ‬لنيل‭ ‬جواز‭ ‬السفر‭ ‬السعودي،‭ ‬قرر‭ ‬وضع‭ ‬السلطات‭ ‬أمام‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع‭ ‬بأن‭ ‬يصبح‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الأملاك،‭ ‬بحيث‭ ‬يتعذر‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العولمة‭ ‬تجريده‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأملاك،‭ ‬فيصبح‭ ‬بالتالي‭ ‬سعوديا‭ ‬بوضع‭ ‬اليد،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬نصا‭ ‬قانونيا‭ ‬يشترط‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬موافقة‭ ‬الكفيل‭ ‬للاستيلاء‭ ‬على‭ ‬أراضٍ‭ ‬تخص‭ ‬الغير،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬فإن‭ ‬الكفيل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬سيمانع‭ ‬في‭ ‬مقاسمة‭ ‬مكفوله‭ ‬الأرض‭ ‬المسلوبة،‭ ‬ومنحه‭ -‬أي‭ ‬المكفول‭- ‬قطعة‭ ‬أبعادها‭ ‬متران‭ ‬في‭ ‬مترين‭ ‬مسبوقة‭ ‬بعبارة‭: ‬لو‭ ‬فتحت‭ ‬حلقك‭ ‬سأدفنك‭ ‬فيها،‭ ‬وأوفر‭ ‬نفقات‭ ‬تسفيرك‭!!!! ‬ثم‭ ‬ان‭ ‬جدة‭ ‬مليئة‭ ‬بالمسطحات‭ ‬الخضراء‭ ‬ولن‭ ‬تفرق‭ ‬معها‭ ‬ان‭ ‬تفتقر‭ ‬منطقة‭ ‬ما‭ ‬إلى‭ ‬حديقة‭ ‬عامة‭!! ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬بجاحة‮»‬‭ ‬صاحبنا‭ ‬المقيم‭ ‬هذا‭ ‬جديرة‭ ‬بالإعجاب،‭ ‬لأن‭ ‬السطو‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ملكية‭ ‬عامة‭ ‬ليس‭ ‬عيبا‭ ‬اجتماعيا‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭. ‬وأعرف‭ ‬شخصا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬السودانية‭ ‬كان‭ ‬مشهودا‭ ‬له‭ ‬بالشهامة‭ ‬والمروءة‭ ‬ومساعدة‭ ‬المحتاجين‭ ‬من‭ ‬الأقارب،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬مصدر‭ ‬أمواله،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الكثيرون‭ ‬منا‭ ‬يرجح‭ ‬انه‭ ‬يتاجر‭ ‬في‭ ‬المخدرات‭ ‬او‭ ‬يلعب‭ ‬القمار،‭ ‬ولكن‭ ‬المقربين‭ ‬منه‭ ‬نفوا‭ ‬عنه‭ ‬تلك‭ ‬الشبهات،‭ ‬ثم‭ ‬اعتقلته‭ ‬الشرطة،‭ ‬واتضح‭ ‬انه‭ ‬جمع‭ ‬ثروة‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬بيع‭ ‬الأراضي‭ ‬الحكومية‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المدن‭ ‬الثلاث‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬العاصمة‭ ‬السودانية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يتصل‭ ‬بالسلطات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مدينة‭ ‬للاستفسار‭ ‬عن‭ ‬أراض‭ ‬خلاء‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المواقع،‭ ‬وبعد‭ ‬ان‭ ‬يتأكد‭ ‬انها‭ ‬مخصصة‭ ‬لمشاريع‭ ‬حكومية،‭ ‬كان‭ ‬يبيعها‭ ‬لكل‭ ‬راغب‭ ‬بسعر‭ ‬‮«‬التراب‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬أموره‭ ‬ماشية‭ ‬تمام‭ ‬التمام،‭ ‬لأن‭ ‬حكومتنا‭ ‬كعادة‭ ‬كل‭ ‬الحكومات‭ ‬العربية‭ ‬تنفذ‭ ‬مشاريعها‭ ‬على‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬مهلها،‭ ‬إما‭ ‬بحكم‭ ‬العادة،‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬شخصا‭ ‬ما‭ ‬او‭ ‬جهة‭ ‬ما‭ ‬‮«‬لهفت‮»‬‭ ‬مخصصات‭ ‬المشروع،‭ ‬وهكذا‭ ‬قامت‭ ‬مشاريع‭ ‬عمرانية‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المدن‭ ‬على‭ ‬أراض‭ ‬حكومية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬تعلم‭ ‬الحكومة‭ ‬عنها‭ ‬شيئا‭ ‬لأنها‭ ‬كالعادة‭ ‬مشغولة‭ ‬بملاحقة‭ ‬الخونة‭ ‬والمارقين‭ ‬عملاء‭ ‬الاستعمار‭ ‬وإسرائيل‭ (‬تخيل‭ ‬حال‭ ‬90‭% ‬من‭ ‬الحكومات‭ ‬العربية‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬إسرائيل‭ ‬يستخدمونها‭ ‬شماعة‭ ‬لتعليق‭ ‬عجزهم‭ ‬وفزاعة‭ ‬لتخويف‭ ‬المواطنين‭! ‬ولهذا‭ ‬يولد‭ ‬العربي‭ ‬وهو‭ ‬يسمع‭ ‬حكامه‭ ‬يشتمون‭ ‬إسرائيل‭ ‬ثم‭ ‬يراهم‭ ‬في‭ ‬اليوتيوب‭ ‬وهم‭ ‬يبوسون‭ ‬قادتها،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬الجعفري‭: ‬البوس‭ ‬أصدق‭ ‬أنباء‭ ‬من‭ ‬السيفِ‭ / ‬في‭ ‬الخد‭ ‬او‭ ‬في‭ ‬النعل‭ ‬على‭ ‬كيفي‭).‬

ثم‭ ‬وقع‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬شر‭ ‬أعماله‭ ‬مصادفة‭ ‬عندما‭ ‬باع‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مخصصة‭ ‬لمدرسة‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬الثانوية‭ ‬بنين،‭ ‬وكانت‭ ‬ملاصقة‭ ‬لمدرسة‭ ‬متوسطة‭ ‬عريقة،‭ ‬وظلت‭ ‬خالية‭ ‬منذ‭ ‬ان‭ ‬قال‭ ‬الرحمن‭ ‬للأشياء‭ ‬كوني‭ ‬فكانت،‭ ‬وقبض‭ ‬ثمن‭ ‬الأرض،‭ ‬وبعدها‭ ‬بيومين‭ ‬او‭ ‬ثلاثة‭ ‬ذهب‭ ‬المشتري‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬الأرض‭ ‬‮«‬اللقطة‮»‬‭ ‬مصطحبا‭ ‬معه‭ ‬مهندسا‭ ‬معماريا‭ ‬لرسم‭ ‬مخطط‭ ‬أوليّ‭ ‬للعقار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعتزم‭ ‬تشييده،‭ ‬وفوجئ‭ ‬بجماعة‭ ‬يرتدون‭ ‬ملابس‭ ‬عمال‭ ‬وزارة‭ ‬الأشغال‭ ‬يضربون‭ ‬الأوتاد‭ ‬ويحفرون‭ ‬الأساسات‭ ‬فهجم‭ ‬عليهم‭ ‬ناعتا‭ ‬إياهم‭ ‬باللصوص‭. ‬باختصار‭ ‬أصيب‭ ‬بجلطة‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬إبلاغه‭ ‬ان‭ ‬الأرض‭ ‬ملك‭ ‬للدولة،‭ ‬وان‭ ‬بناء‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية‭ ‬قد‭ ‬بدأ،‭ ‬فلجأ‭ ‬الى‭ ‬الشرطة‭ ‬وراح‭ ‬صاحبنا‭ ‬اللص‭ -‬الشهم‭- ‬فيها،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يعايره‭ ‬أحد‭ ‬بالسرقة‭ ‬لأننا‭ ‬نشأنا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬البائس‭ ‬على‭ ‬اعتقاد‭ ‬ان‭ ‬سرقة‭ ‬الحكومة‭ ‬‮«‬حلال‮»‬‭!!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا