زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
هل سرقة المال العام حلال
في معرض إثبات ان قوانين الخدمة في الدول العربية «أي كلام»، كتبت أكثر من مرة عن استقالتي من عملي في السودان لألتحق بوظيفة في شركة أرامكو السعودية، واكتشافي لاحقا ان راتبي ظل يرد الى البنك بعدها بشهور، ولما نبهت الجهة المسؤولة عن عملي السابق الى الخطأ صدر قرار بفصلي من الخدمة، ولم يسألني أحد عن المال السائب الذي تسرب الى حسابي البنكي.
ورد قبل سنوات في صحيفة سعودية ان مقيما عربيا قام بتسوير موقع مخصص لحديقة عامة في أحد أحياء مدينة جدة بالأشجار، ووضع فيه عددا من السيارات ذات الصلاحية المنتهية، ليتسنى له بذلك الزعم بأنه استثمر أرضا بورا، فيصبح من حقه ان يمتلك الأرض المخصصة للحديقة بكاملها بنظام «وضع اليد»، ويطيب لي ان أحيي هذا الرجل الذي «جاب الأمور من قاصرها»، فبدلا من ان يسعى لنيل جواز السفر السعودي، قرر وضع السلطات أمام الأمر الواقع بأن يصبح من أصحاب الأملاك، بحيث يتعذر في ظل العولمة تجريده من تلك الأملاك، فيصبح بالتالي سعوديا بوضع اليد، ولا أظن ان هناك نصا قانونيا يشترط الحصول على موافقة الكفيل للاستيلاء على أراضٍ تخص الغير، وحتى لو كان هناك مثل هذا القانون فإن الكفيل ما كان سيمانع في مقاسمة مكفوله الأرض المسلوبة، ومنحه -أي المكفول- قطعة أبعادها متران في مترين مسبوقة بعبارة: لو فتحت حلقك سأدفنك فيها، وأوفر نفقات تسفيرك!!!! ثم ان جدة مليئة بالمسطحات الخضراء ولن تفرق معها ان تفتقر منطقة ما إلى حديقة عامة!! على كل حال فإن «بجاحة» صاحبنا المقيم هذا جديرة بالإعجاب، لأن السطو على ما هو ملكية عامة ليس عيبا اجتماعيا في مجتمعاتنا. وأعرف شخصا في مدينة الخرطوم بحري السودانية كان مشهودا له بالشهامة والمروءة ومساعدة المحتاجين من الأقارب، ولم نكن نعرف مصدر أمواله، وإن كان الكثيرون منا يرجح انه يتاجر في المخدرات او يلعب القمار، ولكن المقربين منه نفوا عنه تلك الشبهات، ثم اعتقلته الشرطة، واتضح انه جمع ثروة ضخمة من بيع الأراضي الحكومية في قلب المدن الثلاث التي تشكل العاصمة السودانية، فقد كان يتصل بالسلطات في كل مدينة للاستفسار عن أراض خلاء في مختلف المواقع، وبعد ان يتأكد انها مخصصة لمشاريع حكومية، كان يبيعها لكل راغب بسعر «التراب»، وكانت أموره ماشية تمام التمام، لأن حكومتنا كعادة كل الحكومات العربية تنفذ مشاريعها على أقل من مهلها، إما بحكم العادة، أو لأن شخصا ما او جهة ما «لهفت» مخصصات المشروع، وهكذا قامت مشاريع عمرانية خاصة في تلك المدن على أراض حكومية من دون ان تعلم الحكومة عنها شيئا لأنها كالعادة مشغولة بملاحقة الخونة والمارقين عملاء الاستعمار وإسرائيل (تخيل حال 90% من الحكومات العربية لو لم تكن هناك إسرائيل يستخدمونها شماعة لتعليق عجزهم وفزاعة لتخويف المواطنين! ولهذا يولد العربي وهو يسمع حكامه يشتمون إسرائيل ثم يراهم في اليوتيوب وهم يبوسون قادتها، كما جاء في قصيدة أبي تمام الجعفري: البوس أصدق أنباء من السيفِ / في الخد او في النعل على كيفي).
ثم وقع الرجل في شر أعماله مصادفة عندما باع الأرض التي كانت مخصصة لمدرسة الخرطوم بحري الثانوية بنين، وكانت ملاصقة لمدرسة متوسطة عريقة، وظلت خالية منذ ان قال الرحمن للأشياء كوني فكانت، وقبض ثمن الأرض، وبعدها بيومين او ثلاثة ذهب المشتري الى حيث الأرض «اللقطة» مصطحبا معه مهندسا معماريا لرسم مخطط أوليّ للعقار الذي كان يعتزم تشييده، وفوجئ بجماعة يرتدون ملابس عمال وزارة الأشغال يضربون الأوتاد ويحفرون الأساسات فهجم عليهم ناعتا إياهم باللصوص. باختصار أصيب بجلطة عندما تم إبلاغه ان الأرض ملك للدولة، وان بناء المدرسة الثانوية قد بدأ، فلجأ الى الشرطة وراح صاحبنا اللص -الشهم- فيها، وإلى يومنا هذا لم يعايره أحد بالسرقة لأننا نشأنا في العالم العربي البائس على اعتقاد ان سرقة الحكومة «حلال»!!!
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك