العدد : ١٧٣٣٤ - الأحد ٠٧ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٤ - الأحد ٠٧ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كنت ضحية ملح الإنجليز

أنتمي‭ ‬إلى‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬تفتح‭ ‬عقله‭ ‬وشرور‭ ‬الاستعمار‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬تُرى‭ ‬بالعين‭ ‬المجردة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬نشأت‭ ‬على‭ ‬سوء‭ ‬الظن‭ ‬بالغرب،‭ ‬ولكن‭ ‬غالب‭ ‬سوء‭ ‬ظني‭ ‬كان‭ ‬ببريطانيا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬خاص،‭ ‬ويعود‭ ‬‮«‬الفضل‮»‬‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الى‭ ‬والدي‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتمتع‭ ‬بثقافة‭ ‬طبية‭ ‬فريدة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬ان‭ ‬المعدة‭ ‬بيت‭ ‬الداء،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يلجأ‭ ‬الى‭  ‬وسيلة‭ ‬عجيبة‭ ‬لتخليص‭ ‬بطون‭ ‬عياله‭ ‬من‭ ‬الأدواء،‭ ‬فصباح‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬جمعة‭ ‬كنا‭ ‬نجلس‭ ‬أمامه‭ ‬في‭ ‬طابور‭ ‬فيصب‭ ‬مسحوقا‭ ‬يسمى‭ ‬الملح‭ ‬الانجليزي‭ ‬في‭ ‬كوب‭ ‬ماء،‭ ‬ويقلبه‭ ‬بملعقة‭ ‬ثم‭ ‬يناول‭ ‬كلا‭ ‬منا‭ ‬كوبه،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظ‭ ‬والدي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬وقتها‭ ‬جمعيات‭ ‬لحقوق‭ ‬الانسان،‭ ‬وإلا‭ ‬لتعرض‭ ‬لحصار‭ ‬اقتصادي‭ ‬بل‭ ‬وربما‭ ‬قامت‭ ‬امريكا‭ ‬بقصف‭ ‬بيتنا‭ ‬بالقنابل‭ ‬العنقودية،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬قابلا‭ ‬للانهيار‭ ‬خلال‭ ‬العواصف‭ ‬الترابية،‭ ‬فالملح‭ ‬الانجليزي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسقينا‭ ‬إياه‭ ‬صنع‭ ‬من‭ ‬مادة‭ ‬من‭ ‬فصيلة‭ ‬الزقوم‭ ‬التي‭ ‬وعد‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬أهل‭ ‬النار،‭ ‬وبمجرد‭ ‬ان‭ ‬تضع‭ ‬نقطة‭ ‬من‭ ‬محلوله‭ ‬على‭ ‬لسانك‭ ‬تنفتح‭ ‬صنابير‭ ‬أنفك،‭ ‬وتنزل‭ ‬‮«‬البرابير‮»‬‭ ‬على‭ ‬صدرك،‭ ‬وتدمع‭ ‬عيناك،‭ ‬ويا‭ ‬ويلك‭ ‬اذا‭ ‬استفرغت‭ ‬وقذفت‭ ‬بها‭ ‬خارج‭ ‬فمك،‭ ‬لان‭ ‬العبوة‭ ‬البديلة‭ ‬تكون‭ ‬جاهزة،‭ ‬ورأفة‭ ‬بنا‭ ‬كان‭ ‬الوالد‭ ‬يخلط‭ ‬لنا‭ ‬الملح‭ ‬الانجليزي‭ ‬بالبيبسي‭ ‬او‭ ‬الكوكا‭ ‬كولا،‭ ‬فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬كأن‭ ‬تشرب‭ ‬عصير‭ ‬برتقال‭ ‬مُحَلّى‭ ‬او‭ ‬مخلوط‭ ‬بزيت‭ ‬الخروع،‭ ‬وبما‭ ‬ان‭ ‬البيبسي‭ ‬والكوكا‭ ‬انتاجان‭ ‬امريكيان‭ ‬فقد‭ ‬وضعت‭ ‬امريكا‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬قائمة‭ ‬محور‭ ‬الشر‭ ‬مع‭ ‬انجلترا،‭ ‬وصرت‭ ‬معاديا‭ ‬للإمبريالية‭ ‬ودول‭ ‬الاستكبار‭ ‬العالمي،‭ ‬وأكدت‭ ‬لي‭ ‬متابعة‭ ‬الأحداث‭ ‬السياسية‭ ‬لاحقاً‭ ‬انني‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬كراهيتي‭ ‬للغرب،‭ ‬فدول‭ ‬تنتج‭ ‬الملح‭ ‬الانجليزي‭ ‬كعلاج‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬فاعلة‭ ‬خير‭.. ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬رحيم‭ ‬وكريم‭ ‬فقد‭ ‬اكتشفت‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬ان‭ ‬الملح‭ ‬الانجليزي‭ ‬يلحق‭ ‬أذى‭ ‬جسيما‭ ‬بالجهاز‭ ‬الهضمي‭ ‬والتنفسي‭ ‬والمسالك‭ ‬البولية‭ ‬والصحة‭ ‬النفسية،‭ ‬فقررت‭ ‬منع‭ ‬انتاجه‭ ‬وتسويقه‭. ‬

ولم‭ ‬تنته‭ ‬معاناتنا‭ ‬باختفاء‭ ‬الملح‭ ‬الانجليزي‭ ‬فكلما‭ ‬أصيب‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬بنوبة‭ ‬إسهال‭ ‬استبشر‭ ‬أهلنا‭ ‬خيرا‭ ‬وقالوا‭ ‬انها‭ ‬‮«‬نظافة‮»‬‭ ‬للبطن‭.. ‬فتظل‭ ‬المعدة‭ ‬تنزف‭ ‬مخزونها‭ ‬حتى‭ ‬يصاب‭ ‬المرء‭ ‬بالجفاف‭ ‬وترتفع‭ ‬درجة‭ ‬حرارة‭ ‬جسمه‭ ‬فيقول‭ ‬كبير‭ ‬حكماء‭ ‬الحي‭: ‬الولد‭ ‬لعب‭ ‬في‭ ‬خرابة‭ ‬مسكونة‭ ‬بالشياطين‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬ضربه‭ ‬بجريد‭ ‬النحل‭ ‬حتى‭ ‬تخرج‭ ‬الشياطين‭ ‬من‭ ‬جسمه‭. ‬وياما‭ ‬هلك‭ ‬شباب‭ ‬كانوا‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬فقدان‭ ‬السوائل‭ ‬بسبب‭ ‬فقدان‭ ‬المزيد‭ ‬منها‭ ‬بالتعرق‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬الجلد‭!! ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬العاشرة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬عندما‭ ‬عدت‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬ظهرا‭ ‬ووجدت‭ ‬ابي‭ ‬ممدا‭ ‬بلا‭ ‬حراك‭ ‬وحوله‭ ‬رجل‭ ‬كان‭ ‬يزعم‭ ‬ان‭ ‬لديه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إعداد‭ ‬اي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬‮«‬العمل‮»‬‭ ‬والتمائم‭ ‬ومكافحة‭ ‬الجن‭ ‬وزعم‭ ‬الرجل‭ ‬أن‭ ‬أبي‭ ‬داس‭ ‬طفلا‭ ‬من‭ ‬الجن‭ ‬فأصيب‭ ‬بالشلل،‭ ‬فازددت‭ ‬بكاء‭ ‬وطلبت‭ ‬نقله‭ ‬الى‭ ‬المستشفى‭ ‬فانفجر‭ ‬الرجل‭ ‬غاضبا‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬لا‭ ‬تردد‭ ‬كلام‭ ‬الشيوعيين‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬المستشفيات،‭ ‬ولكن‭ ‬ساءت‭ ‬حالة‭ ‬والدي،‭ ‬ونقله‭ ‬بعض‭ ‬العقلاء‭ ‬الى‭ ‬المستشفى‭ ‬حيث‭ ‬اتضح‭ ‬انه‭ ‬اصيب‭ ‬بجلطة،‭ ‬ثم‭ ‬تعافى‭ ‬منها‭ ‬نسبيا‭ ‬وعاش‭ ‬بقية‭ ‬عمره‭ ‬وهو‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬شلل‭ ‬جزئي‭ ‬خفيف‭! ‬وما‭ ‬زال‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أهلنا‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أصقاع‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالفولكلور‭ ‬الطبي‭ ‬الذي‭ ‬يكتسب‭ ‬قدسية‭ ‬غير‭ ‬مستحقة‭ ‬عند‭ ‬العوام‭. ‬يظهر‭ ‬ورم‭ ‬في‭ ‬ثدي‭ ‬امرأة‭ ‬فتشير‭ ‬عليها‭ ‬عجوز‭ ‬يقال‭ ‬انها‭ ‬مجربة‭ ‬بأن‭ ‬تضع‭ ‬على‭ ‬الورم‭ ‬بعض‭ ‬الطحينة،‭ ‬مدة‭ ‬شهرين،‭ ‬وعندما‭ ‬يتفاقم‭ ‬الورم‭ ‬ويتنتشر‭ ‬ويصبح‭ ‬موضعه‭ ‬مصدرا‭ ‬لألم‭ ‬شديد‭ ‬تقول‭ ‬العجوز‭: ‬هذا‭ ‬مؤشر‭ ‬طيب‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬الورم‭ ‬‮«‬استوى‮»‬‭ ‬وسيفرز‭ ‬الصديد‭ ‬ثم‭ ‬يزول،‭ ‬وعندما‭ ‬يلجأ‭ ‬اهل‭ ‬المريضة‭ ‬الى‭ ‬الطبيب‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬وصفة‭ ‬العجوز‭ ‬طوال‭ ‬ثمانية‭ ‬أشهر‭ ‬يعرفون‭ ‬ان‭ ‬الورم‭ ‬سرطاني‭ ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬لا‭ ‬استئصال‭ ‬للورم‭ ‬إلا‭ ‬باستئصال‭ ‬الثدي‭ ‬المصاب‭ ‬بالكامل‭.‬

وظللت‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬اعاني‭ ‬من‭ ‬اضطرابات‭ ‬هضمية‭ ‬تسبب‭ ‬لي‭ ‬تسيبا‭ ‬وعدم‭ ‬انضباط‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الامعاء،‭ ‬فكان‭ ‬أهلي‭ ‬يزودونني‭ ‬باللبن‭ ‬الرائب‭ ‬والزبادي‭ ‬على‭ ‬أنهما‭ ‬خير‭ ‬ما‭ ‬يسكت‭ ‬تلك‭ ‬الاضطرابات،‭ ‬وقبل‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬حساسية‭ ‬من‭ ‬اللاكتوز‭ ‬أي‭ ‬سُكّر‭ ‬الحليب‭ ‬ومنذ‭ ‬يومها‭ ‬‮«‬لا‭ ‬أسأل‭ ‬مجرب‭ ‬بل‭ ‬طبيب‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا