زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
حسبوني أود الانتحار
أواصل سرد وقائع صدام الحضارات الذي كنت طرفا فيه، بالعيش في لندن لبعض الوقت في سبعينيات القرن الماضي، فقد كانت تلك، نقلة كبيرة من العالم الثالث عشر إلى العالم الأول، وخلال شهوري الأولى هناك لم يكن يمر يوم من دون أن أرتكب هفوة بسبب الجهل بوسائل العصر، وقد كنت مثلا لا أسافر داخل لندن إلا بقطار الأنفاق، لأنه ينزلك في مكان معلوم خلال مدة معلومة، وقد تُغَيِّر القطار في محطة ما للوصول إلى الوجهة التي تقصدها، بينما كان استخدام الحافلة (البص)، يتطلب معرفة رقمها الصحيح من بين عشرات الحافلات التي تمر بك، وأن تعرف مسارها ولونها، وغالبا ما يتطلب السفر إلى مكان ما بالحافلة النزول والصعود المتكرر.
في أيامنا الأولى في لندن لم نكن نعرف ان ركوب قطار الأنفاق يتطلب الحصول على تذكرة مسبقا، وكنا نحسب أن جابي التذاكر (الكمساري) سيمر بنا ونشتري منه التذاكر، وهكذا سافرنا عدة مرات ببلاش، إلى أن جاء يوم داهمنا فيه مفتش تذاكر. انتبهت إلى أن معظم الركاب كانوا يحملون تذاكرهم، ووقف المفتش أمام شاب لم يكن يحمل تذكرة وفرض عليه غرامة مالية كبيرة، ولما جاء الدور عليّ، أصبحت من ذوي الاحتياجات الخاصة. قال لي المفتش: تِيكِت.. فقلت له: مي نو إنغليش. لجأ الرجل إلى لغة الإشارة كي يشرح لي معني «تيكِت/تذكرة»، فكان ردي: مي نو تكيت. مي سودان.. آفريكا.. فهز الرجل رأسه وانصرف بعد أن قرر عدم إضاعة الوقت مع شخص يعاني من تخلف عقلي ولغوي، وفجأة انتبهت إلى أنني ممسك بصحيفة إنجليزية وأن الركاب من حولي ينظرون إلي بازدراء فأمسكت بالصحيفة بالمقلوب.
تذكرت حكاية قرأتها للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، عندما زار لندن في أربعينيات القرن الماضي، فقد رأى طابورا طويلا من البشر يزحف ببطء صوب نافذة معينة، فسأل عن الأمر فقيل له إنهم من يتقاضون معاشات تقاعد أو إعانات اجتماعية. وانتبه الطنطاوي فجأة إلى أن كلبا يقف في الطابور وحول عنقه سلة صغيرة، ولاحظ أن الكلب يتقدم خطوة خطوة مع الطابور، فسأل عن أمر الكلب فقيل له إن صاحبه مقعد لا يتحرك وأنه يرسل الكلب الى مكتب الإعانات وفي السلة رقم بطاقته، وأن الكلب يقف كل اسبوع في الطابور منتظرا دوره إلى أن يصل الى النافذة المطلوبة، فيتسلم الموظف البطاقة من السلة ثم يعيدها إليه مع المبلغ المقرر للرجل القعيد صاحب الكلب.
نظام المواصلات العامة في لندن يعتمد على «ذمة» المواطن واحترامه للقانون والنظام، ومن ثم لا يوجد كمساري في أي (بص) او قطار، بل يكتفون بحملات تفتيش متقطعة بين الحين والآخر. هم حسبوها كما يلي: لو وضعنا كمساريا في كل بص أو قطار فسنحتاج الى كذا ألف كمساري ومفتش تذاكر وهؤلاء سيتقاضون رواتب بالملايين.. وهب أن هناك خمسة ركاب لم يقطعوا التذاكر في قطار يحمل 300 راكب، سو وات؟ راحت على الجهة التي تدير القطار 15 أو 20 جنيها؟ ما تفرق، فهذا مبلغ قد يكون أقل من راتب يوم واحد للكمساري الواحد.
ذات مرة كنت في منطقة في شرق لندن، وفي أطراف المدينة يتحول قطار الأنفاق الى قطار سطحي، وسألت شخصا في المحطة عن القطار المتجه الى مركز المدينة فقال لي إنه على الرصيف المقابل، وكانت تفصلني عنه بضعة أمتار تتخللها قضبان على مستوى منخفض فأنزلت رجلي لأعبر المسافة، فإذا بالصيحات تتعالى وإذا بالرجل الذي دلني على الرصيف الصحيح يمسك بتلابيبي، وعيونه جاحظة. ما لم أكن أعرفه هو أن تلك القضبان بها تيار كهربائي يشوي الفيل في نصف ثانية.. أحاط بي نفر من الخواجات وصاروا يخاطبونني بلطف، وانتبهت إلى أنهم كانوا يقولون كلاما من نوع: أنت شاب ولا داعي لليأس، والحياة حلوة. حسبوا أنني كنت أريد الانتحار.. فقط ذلك الرجل الذي دلني على الرصيف «الصحيح» كان ينظر إلي وملامحه تدل على ذهول ممزوج بالاحتقار. معذور، فقد استنتج أنني غبي، ولم يكن على خطأ تماما.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك