العدد : ١٧١٨٦ - السبت ١٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨٦ - السبت ١٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

حسبوني أود الانتحار

أواصل‭ ‬سرد‭ ‬وقائع‭ ‬صدام‭ ‬الحضارات‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬طرفا‭ ‬فيه،‭ ‬بالعيش‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تلك،‭ ‬نقلة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الأول،‭ ‬وخلال‭ ‬شهوري‭ ‬الأولى‭ ‬هناك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يمر‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أرتكب‭ ‬هفوة‭ ‬بسبب‭ ‬الجهل‭ ‬بوسائل‭ ‬العصر،‭ ‬وقد‭ ‬كنت‭ ‬مثلا‭ ‬لا‭ ‬أسافر‭ ‬داخل‭ ‬لندن‭ ‬إلا‭ ‬بقطار‭ ‬الأنفاق،‭ ‬لأنه‭ ‬ينزلك‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬معلوم‭ ‬خلال‭ ‬مدة‭ ‬معلومة،‭ ‬وقد‭ ‬تُغَيِّر‭ ‬القطار‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬ما‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الوجهة‭ ‬التي‭ ‬تقصدها،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬استخدام‭ ‬الحافلة‭ (‬البص‭)‬،‭ ‬يتطلب‭ ‬معرفة‭ ‬رقمها‭ ‬الصحيح‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬عشرات‭ ‬الحافلات‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بك،‭ ‬وأن‭ ‬تعرف‭ ‬مسارها‭ ‬ولونها،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يتطلب‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬بالحافلة‭ ‬النزول‭ ‬والصعود‭ ‬المتكرر‭.‬

في‭ ‬أيامنا‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬ان‭ ‬ركوب‭ ‬قطار‭ ‬الأنفاق‭ ‬يتطلب‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تذكرة‭ ‬مسبقا،‭ ‬وكنا‭ ‬نحسب‭ ‬أن‭ ‬جابي‭ ‬التذاكر‭ (‬الكمساري‭) ‬سيمر‭ ‬بنا‭ ‬ونشتري‭ ‬منه‭ ‬التذاكر،‭ ‬وهكذا‭ ‬سافرنا‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬ببلاش،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬يوم‭ ‬داهمنا‭ ‬فيه‭ ‬مفتش‭ ‬تذاكر‭. ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الركاب‭ ‬كانوا‭ ‬يحملون‭ ‬تذاكرهم،‭ ‬ووقف‭ ‬المفتش‭ ‬أمام‭ ‬شاب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحمل‭ ‬تذكرة‭ ‬وفرض‭ ‬عليه‭ ‬غرامة‭ ‬مالية‭ ‬كبيرة،‭ ‬ولما‭ ‬جاء‭ ‬الدور‭ ‬عليّ،‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة‭. ‬قال‭ ‬لي‭ ‬المفتش‭: ‬تِيكِت‭.. ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬مي‭ ‬نو‭ ‬إنغليش‭. ‬لجأ‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬الإشارة‭ ‬كي‭ ‬يشرح‭ ‬لي‭ ‬معني‭ ‬‮«‬تيكِت‭/‬تذكرة‮»‬،‭ ‬فكان‭ ‬ردي‭: ‬مي‭ ‬نو‭ ‬تكيت‭. ‬مي‭ ‬سودان‭.. ‬آفريكا‭.. ‬فهز‭ ‬الرجل‭ ‬رأسه‭ ‬وانصرف‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرر‭ ‬عدم‭ ‬إضاعة‭ ‬الوقت‭ ‬مع‭ ‬شخص‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬تخلف‭ ‬عقلي‭ ‬ولغوي،‭ ‬وفجأة‭ ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬ممسك‭ ‬بصحيفة‭ ‬إنجليزية‭ ‬وأن‭ ‬الركاب‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬ينظرون‭ ‬إلي‭ ‬بازدراء‭ ‬فأمسكت‭ ‬بالصحيفة‭ ‬بالمقلوب‭.‬

تذكرت‭ ‬حكاية‭ ‬قرأتها‭ ‬للشيخ‭ ‬علي‭ ‬الطنطاوي‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬عندما‭ ‬زار‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬طابورا‭ ‬طويلا‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬يزحف‭ ‬ببطء‭ ‬صوب‭ ‬نافذة‭ ‬معينة،‭ ‬فسأل‭ ‬عن‭ ‬الأمر‭ ‬فقيل‭ ‬له‭ ‬إنهم‭ ‬من‭ ‬يتقاضون‭ ‬معاشات‭ ‬تقاعد‭ ‬أو‭ ‬إعانات‭ ‬اجتماعية‭. ‬وانتبه‭ ‬الطنطاوي‭ ‬فجأة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كلبا‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬الطابور‭ ‬وحول‭ ‬عنقه‭ ‬سلة‭ ‬صغيرة،‭ ‬ولاحظ‭ ‬أن‭ ‬الكلب‭ ‬يتقدم‭ ‬خطوة‭ ‬خطوة‭ ‬مع‭ ‬الطابور،‭ ‬فسأل‭ ‬عن‭ ‬أمر‭ ‬الكلب‭ ‬فقيل‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬صاحبه‭ ‬مقعد‭ ‬لا‭ ‬يتحرك‭ ‬وأنه‭ ‬يرسل‭ ‬الكلب‭ ‬الى‭ ‬مكتب‭ ‬الإعانات‭ ‬وفي‭ ‬السلة‭ ‬رقم‭ ‬بطاقته،‭ ‬وأن‭ ‬الكلب‭ ‬يقف‭ ‬كل‭ ‬اسبوع‭ ‬في‭ ‬الطابور‭ ‬منتظرا‭ ‬دوره‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬الى‭ ‬النافذة‭ ‬المطلوبة،‭ ‬فيتسلم‭ ‬الموظف‭ ‬البطاقة‭ ‬من‭ ‬السلة‭ ‬ثم‭ ‬يعيدها‭ ‬إليه‭ ‬مع‭ ‬المبلغ‭ ‬المقرر‭ ‬للرجل‭ ‬القعيد‭ ‬صاحب‭ ‬الكلب‭.‬

نظام‭ ‬المواصلات‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬‮«‬ذمة‮»‬‭ ‬المواطن‭ ‬واحترامه‭ ‬للقانون‭ ‬والنظام،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬كمساري‭ ‬في‭ ‬أي‭ (‬بص‭) ‬او‭ ‬قطار،‭ ‬بل‭ ‬يكتفون‭ ‬بحملات‭ ‬تفتيش‭ ‬متقطعة‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭. ‬هم‭ ‬حسبوها‭ ‬كما‭ ‬يلي‭: ‬لو‭ ‬وضعنا‭ ‬كمساريا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بص‭ ‬أو‭ ‬قطار‭ ‬فسنحتاج‭ ‬الى‭ ‬كذا‭ ‬ألف‭ ‬كمساري‭ ‬ومفتش‭ ‬تذاكر‭ ‬وهؤلاء‭ ‬سيتقاضون‭ ‬رواتب‭ ‬بالملايين‭.. ‬وهب‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬خمسة‭ ‬ركاب‭ ‬لم‭ ‬يقطعوا‭ ‬التذاكر‭ ‬في‭ ‬قطار‭ ‬يحمل‭ ‬300‭ ‬راكب،‭ ‬سو‭ ‬وات؟‭ ‬راحت‭ ‬على‭ ‬الجهة‭ ‬التي‭ ‬تدير‭ ‬القطار‭ ‬15‭ ‬أو‭ ‬20‭ ‬جنيها؟‭ ‬ما‭ ‬تفرق،‭ ‬فهذا‭ ‬مبلغ‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬راتب‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬للكمساري‭ ‬الواحد‭.‬

ذات‭ ‬مرة‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬لندن،‭ ‬وفي‭ ‬أطراف‭ ‬المدينة‭ ‬يتحول‭ ‬قطار‭ ‬الأنفاق‭ ‬الى‭ ‬قطار‭ ‬سطحي،‭ ‬وسألت‭ ‬شخصا‭ ‬في‭ ‬المحطة‭ ‬عن‭ ‬القطار‭ ‬المتجه‭ ‬الى‭ ‬مركز‭ ‬المدينة‭ ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬المقابل،‭ ‬وكانت‭ ‬تفصلني‭ ‬عنه‭ ‬بضعة‭ ‬أمتار‭ ‬تتخللها‭ ‬قضبان‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬منخفض‭ ‬فأنزلت‭ ‬رجلي‭ ‬لأعبر‭ ‬المسافة،‭ ‬فإذا‭ ‬بالصيحات‭ ‬تتعالى‭ ‬وإذا‭ ‬بالرجل‭ ‬الذي‭ ‬دلني‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬الصحيح‭ ‬يمسك‭ ‬بتلابيبي،‭ ‬وعيونه‭ ‬جاحظة‭. ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬القضبان‭ ‬بها‭ ‬تيار‭ ‬كهربائي‭ ‬يشوي‭ ‬الفيل‭ ‬في‭ ‬نصف‭ ‬ثانية‭.. ‬أحاط‭ ‬بي‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬الخواجات‭ ‬وصاروا‭ ‬يخاطبونني‭ ‬بلطف،‭ ‬وانتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يقولون‭ ‬كلاما‭ ‬من‭ ‬نوع‭: ‬أنت‭ ‬شاب‭ ‬ولا‭ ‬داعي‭ ‬لليأس،‭ ‬والحياة‭ ‬حلوة‭. ‬حسبوا‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬الانتحار‭.. ‬فقط‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬دلني‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬‮«‬الصحيح‮»‬‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إلي‭ ‬وملامحه‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬ذهول‭ ‬ممزوج‭ ‬بالاحتقار‭. ‬معذور،‭ ‬فقد‭ ‬استنتج‭ ‬أنني‭ ‬غبي،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬خطأ‭ ‬تماما‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا