العدد : ١٧١٨١ - الاثنين ٠٧ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨١ - الاثنين ٠٧ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وخربطنا وانفضحنا

وذهبت‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ورتب‭ ‬لنا‭ ‬المعهد‭ ‬الذي‭ ‬التحقنا‭ ‬به‭ ‬السكن‭ ‬في‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬الشباب‭ ‬الكاثوليكي‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬جو‭ ‬المعهد‭ ‬مريحا‭ ‬وبهيجا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬به‭ ‬طلاب‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثين‭ ‬دولة‭ ‬مختلفة‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬تجانس‭ ‬وانسجام،‭ ‬وكان‭ ‬كثيرون‭ ‬مثلنا‭ ‬نحن‭ ‬المجموعة‭ ‬السودانية‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لهم‭ ‬بالكاثوليكية‭ (‬وهي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬مذهب‭ ‬مسيحي‭ ‬قليل‭ ‬الأتباع‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬التي‭ ‬تمردت‭ ‬كنيستها‭ ‬على‭ ‬الفاتيكان‭ ‬قبل‭ ‬قرون‭ ‬وصارت‭ ‬تسمى‭ ‬بالكنيسة‭ ‬الأنقليكانية‭. ‬نعم‭ ‬تُنطق‭ ‬‮«‬أنقلكانية‮»‬‭ ‬بالقاف‭ ‬العامية‭ ‬او‭ ‬اليمنية‭ ‬وليس‭ ‬بالجيم‭) ‬وكنا‭ ‬نحن‭ ‬السودانيين‭ ‬كما‭ ‬أسلفت‭ ‬مرفهين‭ ‬مقارنة‭ ‬بطلاب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬منحنا‭ ‬المالية‭ ‬عالية،‭ ‬وكنا‭ ‬نشرب‭ ‬الشاي‭ ‬الطازج‭ ‬فيأتي‭ ‬طلاب‭ ‬غلابة‭ ‬ويستخدمون‭ ‬أكياس‭ ‬الشاي‭ ‬التي‭ ‬نتخلص‭ ‬منها‭ ‬لإعداد‭ ‬الشاي‭ ‬لأنفسهم،‭ ‬وكانت‭ ‬بالمقهى‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يديره‭ ‬رجل‭ ‬صيني‭ ‬ماكينات‭ ‬قمار‭ ‬بأذرع‭  ‬slot‭ ‬machinesتضع‭ ‬قطعة‭ ‬معدنية‭ ‬وتسحب‭ ‬الذراع‭ ‬إلى‭ ‬أسفل‭ ‬وأنت‭ ‬وحظك‭. ‬فإذا‭ ‬ظهرت‭ ‬ثلاث‭ ‬صور‭ ‬متطابقة‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬أصبت‭ ‬وفزت‭ ‬بالجائزة‭ ‬الكبرى‭ ‬أي‭ ‬بمبلغ‭ ‬كبير،‭ ‬وطبعا‭ ‬تلك‭ ‬الماكينات‭ ‬‮«‬محسوبة‮»‬‭ ‬بحيث‭ ‬تشفط‭ ‬كميات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬أموال‭ ‬المقامرين،‭ ‬وتعطي‭ ‬جوائز‭ ‬صغيرة‭ ‬بالقطارة‭ ‬وتعرفنا‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬جزائري‭ ‬اسمه‭ ‬حسن‭ ‬يحمل‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬العربية‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬السلام‭ ‬عليكم‮»‬،‭ ‬وحتى‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬كانت‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬‮«‬السأم‭ ‬أليكم‮»‬‭. ‬كان‭ ‬حسن‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يفوز‭ ‬بالجائزة‭ ‬الكبرى‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الماكينات‭ ‬وسألته‭ ‬عن‭ ‬السر،‭ ‬فقال‭ ‬إنه‭ ‬يستخدم‭ ‬نظرية‭ ‬الاحتمالات‭: ‬يجلس‭ ‬يراقب‭ ‬اللاعب‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬وهم‭ ‬يخسرون‭ ‬أو‭ ‬يفوزون‭ ‬بمبالغ‭ ‬بسيطة‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬معينة‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬ضمير‭ ‬الماكينة‭ ‬سيستيقظ‭ ‬ليأتي‭ ‬بالجائزة‭ ‬الكبرى،‭ ‬وانتبه‭ ‬الصيني‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حسن‭ ‬الجزائري‭ ‬سيخرب‭ ‬بيته‭ ‬فمنعه‭ ‬من‭ ‬اللعب،‭ ‬فصار‭ ‬حسن‭ ‬يجلس‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الماكينة‭ ‬ولما‭ ‬يحس‭ ‬بأن‭ ‬ضميرها‭ ‬سيستيقظ‭ ‬يستأجر‭ ‬طالبا‭ ‬مسكينا‭ ‬ليلعب‭ ‬نيابة‭ ‬عنه‭ ‬نظير‭ ‬مكافأة‭. ‬واضطر‭ ‬الصيني‭ ‬الى‭ ‬سحب‭ ‬الماكينات‭ ‬نهائيا‭ ‬من‭ ‬الكافتيريا‭ ‬لأن‭ ‬حسن‭ ‬كان‭ ‬يصيبها‭ ‬بالجفاف‭ ‬والتصحر‭.‬

لم‭ ‬أكن‭ ‬أحمل‭ ‬معي‭ ‬من‭ ‬السودان‭ ‬سوى‭ ‬بنطلونين‭ ‬وثلاثة‭ ‬قمصان،‭ ‬وخلال‭ ‬الأسبوع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬وصولنا‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬عاد‭ ‬أحد‭ ‬زملائنا‭ ‬من‭ ‬جولة‭ ‬تسوق‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وقال‭ ‬إنه‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬متجر‭ ‬يبيع‭ ‬الملابس‭ ‬‮«‬ببلاش‭ ‬تقريبا‮»‬،‭ ‬فحمل‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬كمية‭ ‬من‭ ‬الاسترليني‭ ‬وتوجهنا‭ ‬معه‭ ‬الى‭ ‬المتجر،‭ ‬وفوجئنا‭ ‬بتشكيلة‭ ‬مذهلة‭ ‬من‭ ‬القمصان‭ ‬والبنطلونات‭ ‬والجاكيتات‭ ‬بأسعار‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬رمزية‭. ‬وطفقنا‭ ‬نتخاطف‭ ‬قطع‭ ‬الملابس‭ ‬ونكومها‭ ‬فوق‭ ‬أذرعنا‭ ‬ونضعها‭ ‬أمام‭ ‬صاحب‭ ‬المحل‭ ‬ثم‭ ‬نعود‭ ‬لنأخذ‭ ‬المزيد،‭ ‬وفي‭ ‬خاتمة‭ ‬المطاف‭ ‬كان‭ ‬لكل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬تل‭ ‬من‭ ‬الملابس‭ ‬ووقفنا‭ ‬ننتظر‭ ‬قيام‭ ‬صاحب‭ ‬المتجر‭ ‬بحساب‭ ‬الأسعار‭ ‬لكل‭ ‬كوم،‭ ‬ولكنه‭ ‬نطق‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة‭: ‬ريسيتس‭!! ‬قلنا‭ ‬له‭: ‬وات‭: ‬قال‭: ‬ريسيتس‭.. ‬شرحنا‭ ‬له‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬ندفع‭ ‬بعد‭ ‬ثمن‭ ‬الملابس‭ ‬التي‭ ‬قررنا‭ ‬شراءها،‭ ‬وان‭ ‬عليه‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬يعطينا‭ ‬الريسيتس‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الإيصالات‭. ‬أغمض‭ ‬الرجل‭ ‬عينيه‭ ‬لنحو‭ ‬دقيقتين‭ ‬ثم‭ ‬صاح‭: ‬وات؟‭ ‬يو‭ ‬باي‭ ‬وات؟‭ ‬تشترون‭ ‬ماذا؟‭ ‬قلنا‭ ‬له‭ ‬إننا‭ ‬نـ«باي‮»‬‭ ‬الملابس،‭ ‬فأغمض‭ ‬عينيه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وخمنت‭ ‬من‭ ‬التعابير‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬‮«‬يلعن‭ ‬إبليس‮»‬‭. ‬حاول‭ ‬ان‭ ‬يتحلى‭ ‬بالهدوء‭ ‬وسألنا‭: ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬الملابس‭ ‬تخصكم؟‭ ‬لم‭ ‬نفهم‭ ‬السؤال،‭ ‬وشرحنا‭ ‬له‭ ‬اننا‭ ‬نريد‭ ‬شراءها،‭ ‬تحدثت‭ ‬معه‭ ‬قدر‭ ‬استطاعتي‭ ‬بإنجليزية‭ ‬لندن‭ ‬الـ«كوكني‮»‬،‭ ‬لأنني‭ ‬حسبته‭ ‬جاهلا‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬الإنجليزية‭ ‬الفصيحة‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نتكلمها‭. ‬وبدلا‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬يلعن‭ ‬إبليس‭ ‬استعان‭ ‬الرجل‭ ‬بإبليس‭ ‬الذي‭ ‬زوده‭ ‬بذخيرة‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬الشتائم‭ ‬البذيئة،‭ ‬التي‭ ‬لو‭ ‬سمعها‭ ‬لبناني‭ ‬لسد‭ ‬أذنيه‭ ‬بحجر‭. ‬وبصراحة‭ ‬كان‭ ‬معه‭ ‬حق،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬محلا‭ ‬للغسيل‭ ‬الجاف،‭ ‬وكانت‭ ‬المبالغ‭ ‬المثبتة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬قطعة‭ ‬هي‭ ‬كلفة‭/‬فاتورة‭ ‬الغسل‭ ‬والكي‭. ‬وما‭ ‬فعلناه‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬لخبطنا‭ ‬وخربطنا‭ ‬عليه‭ ‬ترتيب‭ ‬الملابس،‭ ‬فملابس‭ ‬كل‭ ‬زبون‭ ‬تكون‭ ‬موجودة‭ ‬داخل‭ ‬كيس‭ ‬بلاستيكي‭ ‬واحد‭ ‬عليه‭ ‬رقم‭ ‬متسلسل،‭ ‬ونحن‭ ‬سلسلنا‭ ‬تلك‭ ‬الأكياس‭ ‬وسحبنا‭ ‬ما‭ ‬راق‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬ملابس‭ ‬كيفما‭ ‬اتفق،‭ ‬باختصار‭ ‬خربنا‭ ‬بيته،‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬نركض‭ ‬هاربين‭ ‬لربما‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قطم‭ ‬رقبة‭ ‬أحدنا‭!! ‬شفت‭ ‬التخلف‭ ‬شلون؟‭ ‬يعني‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نستطيع‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الملابس‭ ‬المستعملة‭ ‬والجديدة‭.. ‬إيه‭ ‬يا‭ ‬دنيا

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا