زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وعرفت طريقي إلى الكنتاكي
بدأ صدامي مع الحضارة الغربية عندما ابتُعِثت مع أربعة آخرين إلى لندن لدراسة إعداد وإنتاج البرامج التلفزيونية، وعند وصولنا الى مطار هيثرو كانت الدراسة قد بدأت، ولم يكن هناك من يستقبلنا لأننا تأخرنا عن موعد الوصول المقرر، وخرجنا من المطار ونحن لا نعرف «منين يودي على فين»، فكان أن قررنا التوكل على الله والبحث عن فندق يؤوي خمستنا، ولكن كيف؟ لم تكن هناك سيارة تاكسي تتسع لخمسة ركاب مع أمتعتهم، وكنا حريصين على التحرك والإقامة سويا، وكنا جميعا نسيء الظن بالخواجات وبالتالي ما كان واردا ان نتحرك بسيارتي تاكسي منفصلتين، وخاصة أننا لا نعرف ما هي وجهتنا، وفجأة وقف أمامنا رجل أسمر نحيف وسألنا ما إذا كنا بحاجة الى وسيلة نقل، وقال لنا إن لديه «فان» تتسع لنا جميعا، وأنه سيساعدنا على العثور على فندق «على قد حالنا»، ولما رأى الشك في عيوننا من نواياه، قال لنا إنه صومالي فانفرجت أساريرنا، وركبنا سيارته وانطلق بنا الى وسط لندن ودخلنا منطقة بادينغتون، فصار يتوقف ويدخل كل فندق على الطريق ثم يخرج إما لأن الأسعار مرتفعة، و إما لعدم وجود غرف كافية. للأمانة يجب ان أقول إننا كنا نبحث عن غرفتين فقط: واحدة تضمنا نحن الأربعة شبان وثانية لسيدة كانت زميلتنا، من باب ترشيد الإنفاق. وأخيرا عثر على فندق بالمواصفات التي نريدها وأنزل أمتعتنا وتقاضى منا مبلغا اكتشفنا لاحقا أنه أقل من رمزي. لهذا يقال ان الجنس على الجنس رحمة.
في عام 2007 كنت متوجها مع عائلتي من لندن إلى غلاسغو في اسكتلندا بالقطار، وفي محطة كنقز كروس، لم يوضع رقم قطارنا على اللوحة رغم أن موعد المغادرة صار وشيكا، وتوجهت إلى عامل بالمحطة آسيوي الملامح وسألته عن الرصيف الذي يقف عليه قطارنا، فأتى بعربة كهربائية رفع عليها أمتعتنا وركبنا معه فتوقف بنا أمام عربة الدرجة الأولى في القطار، فقلت له إن تذاكرنا على الدرجة العادية، ولكنه واصل رفع الأمتعة ثم طلب مني وأفراد عائلتي الصعود وقال: هذه عربة أضيفت للقطار في آخر لحظة وليست عليها حجوزات وستبقون فيها بمفردكم طوال الرحلة بل لن يمر عليكم مفتش التذاكر، ولأنني بحكم التجارب كنت أعرف أن العاملين في محطات القطارات والمطارات يتوقعون منك البقشيش نظير أي خدمة يقدمونها لك، فقد أدخلت يدي في جيبي ولكنه نظر إليّ بغضب وقال: دونت دو ذات براذر. لا تفعل ذلك يا أخي. أنا مسلم كيني من أصل هندي واسمي عبد..... ويسعدني أن أقدم خدمة لعائلة مسلمة.
بعد تجربة أول زيارة للندن للدراسة، زرت العديد من البلدان في الشرق والغرب، واكتشفت أنه بعكس ما يتخيل الكثيرون فإن الإنسان يزداد تمسكا واعتدادا بأصله ودينه كلما كان غريبا في بلد ما. الذين تجرفهم الثقافات والسلوكيات الأجنبية قلة قليلة. فمثلا رغم أنني أردد كثيرا أنني عربي بالتجنس والاستنساخ القهري، إلا أنني أؤكد انتمائي لكل عربي وكل ما هو عربي عندما أكون في بلد غربي او آسيوي خارج منطقة الشرق الأوسط.. والروابط بين المسلمين في المهاجر لا تعترف بالجنسيات أو اللون أو العرق. وعندما حتمت الظروف ان تنتقل عائلتي للعيش معي في لندن في عام 1994، كان جاري مسلما من تنزانيا، وكرس الساعات الطوال لمساعدتي في تسجيل عيالي في المدارس ثم شراء وترخيص سيارة.. وخلال أول زيارة لي للندن للدارسة وعندما عانينا من مشكلة الطعام لخوفنا من لحم الخنزير عرفنا مجددا كيف ان الجنس على الجنس رحمة، من مصريين في منطقة فينسبوري بارك، فقد كانوا يديرون مطعما لدجاج كنتاكي الذي كان بالنسبة لنا أهم اكتشاف في لندن، وصرنا زبائن دائمين فيه، لأنهم لم يكونوا يعطوننا سوى القطع الممتلئة لحما. صدور وأفخاذ وفي أحيان كثيرة قطعة أو قطعتين «بونص» فوق البيعة، ثم طلبوا مني أن أزورهم في ساعة متأخرة من الليل يوميا، ونعمت بوجبات مجانية من الدجاج، لأن المطبوخ منه غير المباع كان يجد طريقه الى الزبالة.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك