العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وعرفت طريقي إلى الكنتاكي

بدأ‭ ‬صدامي‭ ‬مع‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬عندما‭ ‬ابتُعِثت‭ ‬مع‭ ‬أربعة‭ ‬آخرين‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬لدراسة‭ ‬إعداد‭ ‬وإنتاج‭ ‬البرامج‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬وعند‭ ‬وصولنا‭ ‬الى‭ ‬مطار‭ ‬هيثرو‭ ‬كانت‭ ‬الدراسة‭ ‬قد‭ ‬بدأت،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يستقبلنا‭ ‬لأننا‭ ‬تأخرنا‭ ‬عن‭ ‬موعد‭ ‬الوصول‭ ‬المقرر،‭ ‬وخرجنا‭ ‬من‭ ‬المطار‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬‮«‬منين‭ ‬يودي‭ ‬على‭ ‬فين‮»‬،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬قررنا‭ ‬التوكل‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬فندق‭ ‬يؤوي‭ ‬خمستنا،‭ ‬ولكن‭ ‬كيف؟‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬سيارة‭ ‬تاكسي‭ ‬تتسع‭ ‬لخمسة‭ ‬ركاب‭ ‬مع‭ ‬أمتعتهم،‭ ‬وكنا‭ ‬حريصين‭ ‬على‭ ‬التحرك‭ ‬والإقامة‭ ‬سويا،‭ ‬وكنا‭ ‬جميعا‭ ‬نسيء‭ ‬الظن‭ ‬بالخواجات‭ ‬وبالتالي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬واردا‭ ‬ان‭ ‬نتحرك‭ ‬بسيارتي‭ ‬تاكسي‭ ‬منفصلتين،‭ ‬وخاصة‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬وجهتنا،‭ ‬وفجأة‭ ‬وقف‭ ‬أمامنا‭ ‬رجل‭ ‬أسمر‭ ‬نحيف‭ ‬وسألنا‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬وسيلة‭ ‬نقل،‭ ‬وقال‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬لديه‭ ‬‮«‬فان‮»‬‭ ‬تتسع‭ ‬لنا‭ ‬جميعا،‭ ‬وأنه‭ ‬سيساعدنا‭ ‬على‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬فندق‭ ‬‮«‬على‭ ‬قد‭ ‬حالنا‮»‬،‭ ‬ولما‭ ‬رأى‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬عيوننا‭ ‬من‭ ‬نواياه،‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬إنه‭ ‬صومالي‭ ‬فانفرجت‭ ‬أساريرنا،‭ ‬وركبنا‭ ‬سيارته‭ ‬وانطلق‭ ‬بنا‭ ‬الى‭ ‬وسط‭ ‬لندن‭ ‬ودخلنا‭ ‬منطقة‭ ‬بادينغتون،‭ ‬فصار‭ ‬يتوقف‭ ‬ويدخل‭ ‬كل‭ ‬فندق‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬ثم‭ ‬يخرج‭ ‬إما‭ ‬لأن‭ ‬الأسعار‭ ‬مرتفعة،‭ ‬و‭ ‬إما‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬غرف‭ ‬كافية‭. ‬للأمانة‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬أقول‭ ‬إننا‭ ‬كنا‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬غرفتين‭ ‬فقط‭: ‬واحدة‭ ‬تضمنا‭ ‬نحن‭ ‬الأربعة‭ ‬شبان‭ ‬وثانية‭ ‬لسيدة‭ ‬كانت‭ ‬زميلتنا،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬ترشيد‭ ‬الإنفاق‭. ‬وأخيرا‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬فندق‭ ‬بالمواصفات‭ ‬التي‭ ‬نريدها‭ ‬وأنزل‭ ‬أمتعتنا‭ ‬وتقاضى‭ ‬منا‭ ‬مبلغا‭ ‬اكتشفنا‭ ‬لاحقا‭ ‬أنه‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬رمزي‭. ‬لهذا‭ ‬يقال‭ ‬ان‭ ‬الجنس‭ ‬على‭ ‬الجنس‭ ‬رحمة‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬2007‭ ‬كنت‭ ‬متوجها‭ ‬مع‭ ‬عائلتي‭ ‬من‭ ‬لندن‭ ‬إلى‭ ‬غلاسغو‭ ‬في‭ ‬اسكتلندا‭ ‬بالقطار،‭ ‬وفي‭ ‬محطة‭ ‬كنقز‭ ‬كروس،‭ ‬لم‭ ‬يوضع‭ ‬رقم‭ ‬قطارنا‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬موعد‭ ‬المغادرة‭ ‬صار‭ ‬وشيكا،‭ ‬وتوجهت‭ ‬إلى‭ ‬عامل‭ ‬بالمحطة‭ ‬آسيوي‭ ‬الملامح‭ ‬وسألته‭ ‬عن‭ ‬الرصيف‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬عليه‭ ‬قطارنا،‭ ‬فأتى‭ ‬بعربة‭ ‬كهربائية‭ ‬رفع‭ ‬عليها‭ ‬أمتعتنا‭ ‬وركبنا‭ ‬معه‭ ‬فتوقف‭ ‬بنا‭ ‬أمام‭ ‬عربة‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬القطار،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬تذاكرنا‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬العادية،‭ ‬ولكنه‭ ‬واصل‭ ‬رفع‭ ‬الأمتعة‭ ‬ثم‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬وأفراد‭ ‬عائلتي‭ ‬الصعود‭ ‬وقال‭: ‬هذه‭ ‬عربة‭ ‬أضيفت‭ ‬للقطار‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬لحظة‭ ‬وليست‭ ‬عليها‭ ‬حجوزات‭ ‬وستبقون‭ ‬فيها‭ ‬بمفردكم‭ ‬طوال‭ ‬الرحلة‭ ‬بل‭ ‬لن‭ ‬يمر‭ ‬عليكم‭ ‬مفتش‭ ‬التذاكر،‭ ‬ولأنني‭ ‬بحكم‭ ‬التجارب‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬محطات‭ ‬القطارات‭ ‬والمطارات‭ ‬يتوقعون‭ ‬منك‭ ‬البقشيش‭ ‬نظير‭ ‬أي‭ ‬خدمة‭ ‬يقدمونها‭ ‬لك،‭ ‬فقد‭ ‬أدخلت‭ ‬يدي‭ ‬في‭ ‬جيبي‭ ‬ولكنه‭ ‬نظر‭ ‬إليّ‭ ‬بغضب‭ ‬وقال‭: ‬دونت‭ ‬دو‭ ‬ذات‭ ‬براذر‭. ‬لا‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭ ‬يا‭ ‬أخي‭. ‬أنا‭ ‬مسلم‭ ‬كيني‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬هندي‭ ‬واسمي‭ ‬عبد‭..... ‬ويسعدني‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬خدمة‭ ‬لعائلة‭ ‬مسلمة‭.‬

بعد‭ ‬تجربة‭ ‬أول‭ ‬زيارة‭ ‬للندن‭ ‬للدراسة،‭ ‬زرت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬واكتشفت‭ ‬أنه‭ ‬بعكس‭ ‬ما‭ ‬يتخيل‭ ‬الكثيرون‭ ‬فإن‭ ‬الإنسان‭ ‬يزداد‭ ‬تمسكا‭ ‬واعتدادا‭ ‬بأصله‭ ‬ودينه‭ ‬كلما‭ ‬كان‭ ‬غريبا‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬ما‭. ‬الذين‭ ‬تجرفهم‭ ‬الثقافات‭ ‬والسلوكيات‭ ‬الأجنبية‭ ‬قلة‭ ‬قليلة‭. ‬فمثلا‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬أردد‭ ‬كثيرا‭ ‬أنني‭ ‬عربي‭ ‬بالتجنس‭ ‬والاستنساخ‭ ‬القهري،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬أؤكد‭ ‬انتمائي‭ ‬لكل‭ ‬عربي‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عربي‭ ‬عندما‭ ‬أكون‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬غربي‭ ‬او‭ ‬آسيوي‭ ‬خارج‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭.. ‬والروابط‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬المهاجر‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬بالجنسيات‭ ‬أو‭ ‬اللون‭ ‬أو‭ ‬العرق‭. ‬وعندما‭ ‬حتمت‭ ‬الظروف‭ ‬ان‭ ‬تنتقل‭ ‬عائلتي‭ ‬للعيش‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1994،‭ ‬كان‭ ‬جاري‭ ‬مسلما‭ ‬من‭ ‬تنزانيا،‭ ‬وكرس‭ ‬الساعات‭ ‬الطوال‭ ‬لمساعدتي‭ ‬في‭ ‬تسجيل‭ ‬عيالي‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬ثم‭ ‬شراء‭ ‬وترخيص‭ ‬سيارة‭.. ‬وخلال‭ ‬أول‭ ‬زيارة‭ ‬لي‭ ‬للندن‭ ‬للدارسة‭ ‬وعندما‭ ‬عانينا‭ ‬من‭ ‬مشكلة‭ ‬الطعام‭ ‬لخوفنا‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬الخنزير‭ ‬عرفنا‭ ‬مجددا‭ ‬كيف‭ ‬ان‭ ‬الجنس‭ ‬على‭ ‬الجنس‭ ‬رحمة،‭ ‬من‭ ‬مصريين‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬فينسبوري‭ ‬بارك،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬يديرون‭ ‬مطعما‭ ‬لدجاج‭ ‬كنتاكي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬أهم‭ ‬اكتشاف‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وصرنا‭ ‬زبائن‭ ‬دائمين‭ ‬فيه،‭ ‬لأنهم‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يعطوننا‭ ‬سوى‭ ‬القطع‭ ‬الممتلئة‭ ‬لحما‭. ‬صدور‭ ‬وأفخاذ‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬قطعة‭ ‬أو‭ ‬قطعتين‭ ‬‮«‬بونص‮»‬‭ ‬فوق‭ ‬البيعة،‭ ‬ثم‭ ‬طلبوا‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أزورهم‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬يوميا،‭ ‬ونعمت‭ ‬بوجبات‭ ‬مجانية‭ ‬من‭ ‬الدجاج،‭ ‬لأن‭ ‬المطبوخ‭ ‬منه‭ ‬غير‭ ‬المباع‭ ‬كان‭ ‬يجد‭ ‬طريقه‭ ‬الى‭ ‬الزبالة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا