العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لماذا أنا فلتة!

يحزُّ‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬كثيرا‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬معارفي‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬أنني‭ ‬فلتة‭ ‬من‭ ‬فلتات‭ ‬الزمان‭! ‬كيف؟‭ ‬ما‭ ‬قولك‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬أكمل‭ ‬تعليمه‭ ‬الجامعي‭ ‬وتزوج‭ ‬وأنجب‭ ‬عيالا‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬له‭ ‬أحفاد؟‭ ‬عادي؟‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬عادي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ - ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أنا‭ - ‬لم‭ ‬يتعاط‭ ‬قرص‭ ‬دواء‭ ‬حتى‭ ‬تجاوز‭ ‬الـ15،‭ ‬ولم‭ ‬يحقنه‭ ‬طبيب‭ ‬بإبرة‭ ‬إلا‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬العشرين‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬معافى‭ ‬من‭ ‬العلل،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬عشت‭ ‬فيها‭ ‬سنوات‭ ‬حياتي‭ ‬الأولى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعرف‭ ‬الطب‭ ‬الحديث،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬‮«‬شفخانة،‭ (‬كلمة‭ ‬تركية‭ ‬تعني‭ ‬مكان‭ ‬الاستشفاء‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬بها‭ ‬نحو‭ ‬خمسة‭ ‬أصناف‭ ‬من‭ ‬الأدوية‭ ‬السائلة‭ ‬يشرف‭ ‬على‭ ‬توصيفها‭ ‬شخص‭ ‬يسمى‭ ‬مساعد‭ ‬حكيم،‭ ‬وهو‭ ‬اللقب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يفوز‭ ‬به‭ ‬الممرض‭ ‬ذو‭ ‬الخبرة‭ ‬الطويلة،‭ ‬ليتم‭ ‬تكليفه‭ ‬برعاية‭ ‬المرضى‭ ‬في‭ ‬الشفخانة‮»‬‭.‬

وأذكر‭ ‬يوم‭ ‬سقطت‭ ‬صريع‭ ‬دوسنتاريا‭ ‬خبيثة،‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬وأقيم‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬الداخلي‭ ‬الملحق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬أهلي،‭ ‬وعندما‭ ‬اشتدت‭ ‬عليّ‭ ‬وطأة‭ ‬المرض‭ ‬اضطررت‭ ‬الى‭ ‬اللجوء‭ ‬الى‭ ‬الشفخانة،‭ ‬وكان‭ ‬المساعد‭ ‬الطبي‭ ‬المشرف‭ ‬عليها‭ ‬سكيرا‭ ‬تفوح‭ ‬منه‭ ‬رائحة‭ ‬الخمر‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬يجوز‭ ‬فيها‭ ‬قصر‭ ‬الصلاة،‭ ‬وسقاني‭ ‬سائلا‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬المزيج‭ ‬الأبيض‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬عقارا‭ ‬مسهِّلا‭ (‬ليس‭ ‬ملينا،‭ ‬بل‭ ‬مسهلا‭)‬،‭ ‬والدوسنتاريا‭ ‬أصلا‭ ‬إسهال‭ ‬متواصل،‭ ‬فكيف‭ ‬يكون‭ ‬حالك‭ ‬عندما‭ ‬تتناول‭ ‬عليها‭ ‬مادة‭ ‬مسهلة،‭ ‬ولما‭ ‬ساءت‭ ‬حالتي‭ ‬وأصبحت‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬الحركة‭ ‬فتم‭ ‬إبلاغ‭ ‬اهلي‭ ‬بحالتي‭ ‬فأعادوني‭ ‬الى‭ ‬البيت،‭ ‬ومكثت‭ ‬عدة‭ ‬ايام‭ ‬أتعاطى‭ ‬مختلف‭ ‬انواع‭ ‬العلف‭. ‬برضو‭ ‬مفيش‭ ‬فايدة‭. ‬فسافرت‭ ‬بي‭ ‬أمي‭ ‬الى‭ ‬مدينة‭ ‬دنقلا‭ ‬حيث‭ ‬المستشفى‭ ‬الكبير،‭ ‬وهناك‭ ‬أخذت‭ ‬كوكتيلا‭ ‬من‭ ‬البودرة‭ ‬والأدوية‭ ‬السائلة،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬نظام‭ ‬غذائي‭ ‬صارم‭ ‬يبعدني‭ ‬عن‭ ‬الأطعمة‭ ‬التي‭ ‬تستفز‭ ‬الجهاز‭ ‬الهضمي،‭ ‬وتعافيت‭. ‬

كنا‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬سمعنا‭ ‬بالحقن،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتعالج‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬‮«‬الناس‭ ‬الواصلين‭ ‬اللي‭ ‬عندهم‭ ‬واسطات‭ ‬قوية‮»‬،‭ ‬المهم‭ ‬ان‭ ‬أمي‭ ‬انبهرت‭ ‬بالمستشفى‭ ‬وما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬إمكانات،‭ ‬ورأت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬طبيبا‭ ‬حقيقيا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬مساعدي‭ ‬الحكيم‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يديرون‭ ‬شفخانات‭ ‬بلدتنا،‭ ‬وعندما‭ ‬دخلت‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬الخرطوم‭ ‬نصحتني‭ ‬ان‭ ‬أعمل‭ ‬طبيبا‭ ‬فور‭ ‬تخرجي‭! ‬وكان‭ ‬مساعد‭ ‬حكيم‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬‮«‬بدين‮»‬‭ ‬مستقيما‭ ‬وغير‭ ‬سكير،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬‮«‬الطب‭ ‬البديل‮»‬‭.. ‬تذهب‭ ‬اليه‭ ‬وانت‭ ‬تشكو‭ ‬من‭ ‬حمى‭ ‬سببت‭ ‬لك‭ ‬الهذيان‭ ‬فيقرر‭ ‬أنك‭ ‬لابد‭ ‬وقد‭ ‬وطأت‭ ‬بيبي‭ ‬جن‭ ‬اي‭ ‬شيطانا‭ ‬رضيعا‭ ‬فأصابتك‭ ‬الحمى،‭ ‬فيكتب‭ ‬لك‭ ‬بعض‭ ‬التعاويذ‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬خزفي،‭ ‬لتغسلها‭ ‬لاحقا‭ ‬وتشرب‭ ‬المحلول‭ ‬‮«‬المبارك‮»‬،‭ ‬وبعض‭ ‬الشخابيط‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬لتحرقها‭ ‬وتتنسم‭ ‬دخانها‭ (‬بخور‭)‬،‭ ‬ويقرأ‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬و‮«‬يتف‮»‬‭ ‬على‭ ‬وجهك‭.. ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬ان‭ ‬البصقة‭ ‬المباركة‭ ‬تسبب‭ ‬أمراضا‭ ‬جلدية‭ ‬للجان‭ ‬فيضطر‭ ‬للهرب‭ ‬من‭ ‬جسمك‭ ‬بـ‮«‬جلده‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬الأمراض‭ ‬في‭ ‬تقديره‭ ‬تنشأ‭ ‬عن‭ ‬ضربات‭ ‬الجن‭ ‬أو‭ ‬العين‭ ‬الحاسدة‭. ‬ومنا‭ ‬من‭ ‬قضى‭ ‬نحبه‭ ‬بعد‭ ‬تلك‭ ‬الوصفات،‭ ‬ومنا‭ ‬من‭ ‬أفلت‭ ‬وأدرك‭ ‬عصر‭ ‬الباراستيمول‭ ‬والاسبرين،‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬الإشاعة‮»‬‭ ‬السينية‭ ‬والمقطعية‭ ‬والرنين‭ ‬المغناطيسي‭.‬

‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬يتحدث‭ ‬العوام‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الطبيب‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬التصوير‭ ‬بـ«الإشاعة‮»‬،‭ ‬وإلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬يجري‭ ‬عملية‭ ‬زائدة‭ ‬أو‭ ‬‮«‬لوز‮»‬‭ ‬كمن‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬الحج‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭: ‬يتدفق‭ ‬على‭ ‬بيته‭ ‬المهنئون‭ ‬ويظل‭ ‬ينحر‭ ‬الذبائح‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬شهر‭ ‬كامل،‭ ‬وفي‭ ‬مستشفيات‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬تضطر‭ ‬أطقم‭ ‬التمريض‭ ‬الى‭ ‬تجاهل‭ ‬اللوائح‭ ‬الخاصة‭ ‬بمواعيد‭ ‬الزيارات،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مريض‭ ‬سوداني،‭ ‬لأن‭ ‬الناس‭ ‬يأتونه‭ ‬بالعشرات‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬ساعات‭ ‬اليوم‭ ‬والليل‭. ‬وكنت‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬نزيل‭ ‬مستشفى‭ ‬حمد‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬الدوحة،‭ ‬وسقوني‭ ‬سوائل‭ ‬شطفت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬دخل‭ ‬بطني‭ ‬خلال‭ ‬اسبوع‭ ‬كامل‭ ‬لإعدادي‭ ‬لتصوير‭ ‬جهازي‭ ‬الهضمي‭ ‬بالمنظار،‭ ‬ثم‭ ‬زارني‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬حاملين‭ ‬معهم‭ ‬سندويتشات‭ ‬فول‭ ‬وطعمية‭ (‬فلافل‭) ‬تجنن‭: ‬يا‭ ‬زول‭ ‬خد‭ ‬لك‭ ‬لقمتين،‭ ‬ولا‭ ‬تخاف‭ ‬على‭ ‬بطنك،‭ ‬وصارت‭ ‬اللقمتان‭ ‬عشرة،‭ ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬أدخلوني‭ ‬غرفة‭ ‬المنظار‭ ‬وسمعت‭ ‬الطبيب‭ ‬يقول‭: ‬ها‭ ‬الزلمي‭ ‬

بياكل‭ ‬حصى؟‭ ‬مو‭ ‬معقول‭ ‬غسلنا‭ ‬معدته‭ ‬ليلة‭ ‬كامله‭ ‬وبعدها‭ ‬مليانه‭ ‬بلاوي‭ ‬ومطبات‭ ‬ما‭ ‬تسمح‭ ‬بمرور‭ ‬المنظار‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا