زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لماذا أنا فلتة!
يحزُّ في نفسي كثيرا أن معظم معارفي لا يعرفون أنني فلتة من فلتات الزمان! كيف؟ ما قولك في شخص أكمل تعليمه الجامعي وتزوج وأنجب عيالا ثم صار له أحفاد؟ عادي؟ ما هو غير عادي هو أن ذلك الشخص - الذي هو أنا - لم يتعاط قرص دواء حتى تجاوز الـ15، ولم يحقنه طبيب بإبرة إلا وهو في نحو العشرين. ولم يكن ذلك لأنني كنت معافى من العلل، بل لأن المنطقة التي عشت فيها سنوات حياتي الأولى لم تكن تعرف الطب الحديث، وكانت في بلدتنا «شفخانة، (كلمة تركية تعني مكان الاستشفاء)، وكان بها نحو خمسة أصناف من الأدوية السائلة يشرف على توصيفها شخص يسمى مساعد حكيم، وهو اللقب الذي كان يفوز به الممرض ذو الخبرة الطويلة، ليتم تكليفه برعاية المرضى في الشفخانة».
وأذكر يوم سقطت صريع دوسنتاريا خبيثة، وأنا طالب في المرحلة المتوسطة وأقيم في السكن الداخلي الملحق بالمدرسة بعيدا عن أهلي، وعندما اشتدت عليّ وطأة المرض اضطررت الى اللجوء الى الشفخانة، وكان المساعد الطبي المشرف عليها سكيرا تفوح منه رائحة الخمر من على مسافة يجوز فيها قصر الصلاة، وسقاني سائلا اسمه «المزيج الأبيض»، وكان عقارا مسهِّلا (ليس ملينا، بل مسهلا)، والدوسنتاريا أصلا إسهال متواصل، فكيف يكون حالك عندما تتناول عليها مادة مسهلة، ولما ساءت حالتي وأصبحت عاجزا عن الحركة فتم إبلاغ اهلي بحالتي فأعادوني الى البيت، ومكثت عدة ايام أتعاطى مختلف انواع العلف. برضو مفيش فايدة. فسافرت بي أمي الى مدينة دنقلا حيث المستشفى الكبير، وهناك أخذت كوكتيلا من البودرة والأدوية السائلة، في سياق نظام غذائي صارم يبعدني عن الأطعمة التي تستفز الجهاز الهضمي، وتعافيت.
كنا وقتها قد سمعنا بالحقن، ولكن لم يكن يتعالج بها إلا «الناس الواصلين اللي عندهم واسطات قوية»، المهم ان أمي انبهرت بالمستشفى وما فيه من إمكانات، ورأت لأول مرة في حياتها طبيبا حقيقيا يختلف عن مساعدي الحكيم الذين كانوا يديرون شفخانات بلدتنا، وعندما دخلت كلية الآداب بجامعة الخرطوم نصحتني ان أعمل طبيبا فور تخرجي! وكان مساعد حكيم في بلدتنا «بدين» مستقيما وغير سكير، ولكنه كان من أنصار «الطب البديل».. تذهب اليه وانت تشكو من حمى سببت لك الهذيان فيقرر أنك لابد وقد وطأت بيبي جن اي شيطانا رضيعا فأصابتك الحمى، فيكتب لك بعض التعاويذ في صحن خزفي، لتغسلها لاحقا وتشرب المحلول «المبارك»، وبعض الشخابيط على ورق لتحرقها وتتنسم دخانها (بخور)، ويقرأ بعض الكلمات و«يتف» على وجهك.. من منطلق ان البصقة المباركة تسبب أمراضا جلدية للجان فيضطر للهرب من جسمك بـ«جلده»، فقد كانت كل الأمراض في تقديره تنشأ عن ضربات الجن أو العين الحاسدة. ومنا من قضى نحبه بعد تلك الوصفات، ومنا من أفلت وأدرك عصر الباراستيمول والاسبرين، ثم «الإشاعة» السينية والمقطعية والرنين المغناطيسي.
إلى يومنا هذا يتحدث العوام في السودان عن أن الطبيب طلب مني التصوير بـ«الإشاعة»، وإلى عهد قريب كان من يجري عملية زائدة أو «لوز» كمن عاد من الحج في أربعينيات القرن الماضي: يتدفق على بيته المهنئون ويظل ينحر الذبائح على مدى شهر كامل، وفي مستشفيات منطقة الخليج تضطر أطقم التمريض الى تجاهل اللوائح الخاصة بمواعيد الزيارات، إذا كان هناك مريض سوداني، لأن الناس يأتونه بالعشرات على امتداد ساعات اليوم والليل. وكنت ذات مرة نزيل مستشفى حمد العام في الدوحة، وسقوني سوائل شطفت كل ما دخل بطني خلال اسبوع كامل لإعدادي لتصوير جهازي الهضمي بالمنظار، ثم زارني نفر من الأصدقاء حاملين معهم سندويتشات فول وطعمية (فلافل) تجنن: يا زول خد لك لقمتين، ولا تخاف على بطنك، وصارت اللقمتان عشرة، وفي الصباح أدخلوني غرفة المنظار وسمعت الطبيب يقول: ها الزلمي
بياكل حصى؟ مو معقول غسلنا معدته ليلة كامله وبعدها مليانه بلاوي ومطبات ما تسمح بمرور المنظار!!
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك