زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
واتهمني بالغش في الامتحان
كانت السنوات التي قضيتها في جامعة الخرطوم شديدة الخصوبة، أكاديميا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا، ومن الناحية الأكاديمية درسنا كل شيء على أيدي عمالقة في مجالات تخصصهم، ففي مجال اللغة العربية – وعلى سبيل المثال لا الحصر- كان هناك الأديب والعالم اللغوي الفذ عبدالله الطيب، وبروفيسور غنيمي هلال الموسوعي العارف بآداب الصين وإسبانيا وفرنسا معرفة تخصصية، وكان بروفيسور تمّام أول من درس اللغويات والصوتيات باللغة العربية في تاريخ جامعتنا العتيدة، أما غنيمي (المصري) فقد تعمق في دراسة الأدب السوداني وطرح على كليتنا (الآداب) دراسة الشعر الصوفي السوداني، وكان وهو يحدثنا عن هذا اللون الشعري تنتابه نوبات «دروشة» فيتكلم بلا توقف وهو لا ينظر إلى الطلاب، وأحيانا يهمهم بكلام تعجز أذنه هو عن التقاطه. ولأننا كنا نحبه جدا فقد كنا نجلس أمامه كالخشب المسندة لا نفرفر ولا ننطق بشيء. (في ذات ندوة عن النقد الأدبي خاض في الموضوع محاضر ديناصور وكان واضحا أنه لا يعتبر أي شيء كتب بعد القرن الثاني عشر «أدباً»، فانتفض بروفيسور غنيمي واقفا وهو يصيح: بس .. مش ممكن.. انا عندي ضغط.. إيه ده؟ مش ممكن!).
وبالنسبة لي كان الانتماء والانحياز لشعبة اللغة الإنجليزية تاما وكاملا، فقد كنت ولا أزال عاشقا لتلك اللغة، وبادلتني عشقا بعشق فصارت سلاحي عندما دخلت الحياة العملية، كان رئيس الشعبة على أيامنا بروفيسور مكميلان، وكان إنجليزيا من الطراز التقليدي، وكان هناك حبيب الجماهير جون أباظة. إنجليزي معتق ينحدر من العائلة الأباظية في مصر، ومشهور عالميا كأبرز دارسي ونقّاد مسرح شكسبير. في أول سنة في الكلية كاد أباظة أن يوديني في داهية، ففي امتحان نصف العام كنت الطالب الوحيد الذي لم تظهر نتائجه في الأدب الإنجليزي، وسألت بعض الأساتذة الذين يدرسون بعض فروع تلك المادة وطمأنوني بأنني أحرزت درجات طيبة في الفروع التي تخصهم، وأخيرا ذهبت الى أباظة فأخرج ورقتي وعليها علامات استفهام عديدة.. خير يا مستر بظبظ!! اتهمني بأنني دخلت الامتحان، حاملا معي كتابا لـ«برادلي» أحد مشاهير نقاد شكسبير ونقلت منه بالمسطرة.. حلفت له بالطلاق أن ذلك لم يحدث فكان رده ما معناه: مش لما تتجوز الأول. المهم، هو يتهم، وأنا أنكر، فصار يقرأ لي مقاطع مما نقلت عن برادلي وكاد فكه الأسفل ينفصل عن بقية رأسه عندما وجدني أكمل كل عبارة شفاهة من دون أن أنظر الى الورقة.. شلت الدهشة لسانه بعضا من الوقت وصاح: وات؟ هل تقصد انك تحفظ مقتطفات من كلام برادلي الأبله هذا عن ظهر قلب؟ قلت «نعم».. فصاح مجددا: آند واي دو يو دو ذات؟ ولِمَ تفعل ذلك؟ قلت له إنني لا أتعمد الحفظ ولكنني أحفظ أي شيء أقرأه عدة مرات، وكي أؤكد له ذلك رددت أمامه مقاطع من شعر شكسبير من مسرحيات وسوناتات مختلفة. هنا تحول الاتهام بالغش والسرقة الى «إعجاب» ولكنه قال لي بحزم: دونت كووت برادلي (لا تنقل نصا عن برادلي) وحدثني مطولا عن ان برادلي ناقد ساذج كثير الشطح والنطح.
إيييه ما دائم إلا الله.. اليوم عندما يسألني مسؤول ما عن اسمي الثلاثي، أنظر إلى أعلى ثم أهمهم: جعفر آآآآآ جعفر عتريس.. لا إدريس.. غبوش.. استغفر الله.. معمر عباس.. جعفر عجرم .. لا.. أظن عباس، ولو جاء مثل هذا السؤال في مطار «عينك ما تشوف حتى النور»، وخلال التحري في أكثر من حادث مروري سألتني الشرطة عن رقم سيارتي، فقلت لهم: مش عارف.. الرقم مكتوب في اللوحة فيطلبون رخصة السيارة ورخصة السواقة كي يتأكدوا من أن السيارة ليست مسروقة.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك