العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وصادمت الحضارة البريطانية

نعم‭ ‬كتب‭ ‬صمويل‭ ‬هنتنغتون‭ ‬عن‭ ‬صدام‭ ‬الحضارات،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يعش‭ ‬التجربة‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬أنا،‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬إيفادي‭ ‬وآخرين‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬لدراسة‭ ‬فنون‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني،‭ ‬وبدأ‭ ‬الصدام‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬الخرطوم،‭ ‬متمثلا‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬ركوب‭ ‬طائرة‭ ‬نفاثة‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬قاطعين‭ ‬آلاف‭ ‬الأميال،‭ ‬وكانت‭ ‬معنا‭ ‬زميلة‭ ‬واحدة‭ ‬حديثة‭ ‬عهد‭ ‬بالزواج،‭ ‬وفي‭ ‬المطار‭ ‬أوصاني‭ ‬زوجها‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬آخذ‭ ‬بالي‭ ‬منها‭ ‬لأنها‭ ‬تخاف‭ ‬ركوب‭ ‬الطائرات‮»‬،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬‮«‬ولا‭ ‬يهمك‮»‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الرد‭ ‬الأمين‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الطلب‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬ان‭ ‬يكون‭: ‬انت‭ ‬تستعين‭ ‬بعبد‭ ‬المعين‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬من‭ ‬يعينه‭. ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الرحلة‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬كانت‭ ‬فرحة‭ ‬السفر‭ ‬قد‭ ‬أنستني‭ ‬ولهتني‭ ‬عن‭ ‬الخوف‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬تجاويف‭ ‬قولوني‭ ‬من‭ ‬الطائرات،‭ ‬ثم‭ ‬أعلن‭ ‬الكابتن‭ ‬اننا‭ ‬سنهبط‭ ‬لفترة‭ ‬قصيرة‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬فرانكفورت‭ ‬في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬ومددت‭ ‬رأسي‭ ‬لأملأ‭ ‬عيني‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬سمعت‭ ‬عنها‭ ‬كثيرا،‭ ‬عبر‭ ‬النافذة،‭ ‬فارتد‭ ‬إلى‭ ‬البصر‭ ‬خاسئا‭ ‬وامتلأت‭ ‬رعبا‭. ‬رأيت‭ ‬الطائرة‭ ‬تشق‭ ‬تلالا‭ ‬صخرية‭ ‬داكنة‭ ‬اللون،‭ ‬ورأيت‭ ‬أضواء‭ ‬تخطف‭ ‬البصر‭ ‬تشع‭ ‬من‭ ‬جناحي‭ ‬الطائرة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تهتز‭ ‬وتعلو‭ ‬وتهبط‭ ‬كما‭ ‬شاحنة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬جبلي‭ ‬غير‭ ‬ممهد،‭ ‬وكان‭ ‬ما‭ ‬حسبته‭ ‬صخرا‭ ‬كتلا‭ ‬من‭ ‬السحاب‭ ‬المتجهم‭ ‬الذي‭ ‬يجعلك‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬أرنبة‭ ‬أنفك،‭ ‬وأحسست‭ ‬بصعوبة‭ ‬في‭ ‬التنفس‭ ‬ثم‭ ‬انتبهت‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬زميلتي‭ ‬ممسكة‭ ‬بتلابيبي،‭ ‬وكانت‭ ‬ترتعد‭ ‬ولسانها‭ ‬مشلول،‭ ‬قلت‭ ‬لها‭: ‬يا‭ ‬بنت‭ ‬الناس‭ ‬توكلي‭ ‬على‭ ‬الله،‭ ‬فكل‭ ‬نفس‭ ‬ذائقة‭ ‬الموت‭ ‬ويبقى‭ ‬وجه‭ ‬ربك‭ ‬ذو‭ ‬الجلال‭ ‬والإكرام‭.. ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬الله‭ ‬محمد‭ ‬رسول‭.. ‬ومن‭ ‬كانت‭ ‬منيته‭ ‬بأرض‭ ‬فليس‭ ‬يموت‭ ‬في‭ ‬أرضٍ‭ ‬سواها‭.. ‬لا‭ ‬أجزم‭ ‬بأنني‭ ‬نطقت‭ ‬بتلك‭ ‬الكلمات‭ ‬بصوت‭ ‬مسموع،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أنها‭ ‬رأت‭ ‬أن‭ ‬خوفي‭ ‬أضعاف‭ ‬خوفها،‭ ‬فأرخت‭ ‬قبضتها‭ ‬على‭ ‬عنقي،‭ ‬وصارت‭ ‬تتلو‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الذكر‭ ‬الحكيم،‭.. ‬ثم‭ ‬سمعنا‭ ‬أصواتا‭ ‬مرعبة‭ ‬وأيقنا‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬النهاية‮»‬‭: ‬جيك‭... ‬ززززيك‭... ‬إييييك‭.. ‬ثم‭ ‬خفضت‭ ‬الطائرة‭ ‬سرعتها‭ ‬وقررت‭ ‬إلقاء‭ ‬نظرة‭ ‬وداع‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬وفوجئت‭ ‬بأننا‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬ومن‭ ‬حولنا‭ ‬مباني‭ ‬مطار‭ ‬فرانكشتاين‭ ‬المسمى‭ ‬زورا‭ ‬فرانكفورت‭. ‬وانفتح‭ ‬باب‭ ‬الطائرة‭ ‬وهبط‭ ‬منها‭ ‬بعض‭ ‬الركاب‭ ‬وسرت‭ ‬وراءهم‭ ‬إلى‭ ‬رأس‭ ‬سلم‭ ‬الهبوط‭ ‬فسألني‭ ‬مضيف‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬نهاية‭ ‬رحلتي،‭ ‬فأجبت‭ ‬بالنفي‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬إنني‭ ‬فقط‭ ‬أريد‭ ‬وضع‭ ‬رجلي‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬ألمانيا‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬لي‭ ‬الزعم‭ ‬بأنني‭ ‬زرت‭ ‬ألمانيا‭ ‬عندما‭ ‬أكتب‭ ‬الـ«سي‭. ‬في‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬سيرتي‭ ‬الذاتية‭ ‬لاحقا‭. ‬

ثم‭ ‬انطلقنا‭ ‬الى‭ ‬مطار‭ ‬هيثرو‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وواجهنا‭ ‬عند‭ ‬الهبوط‭ ‬فيه‭ ‬نفس‭ ‬الأهوال‭: ‬مطبات‭ ‬هوائية‭ ‬تقاذفت‭ ‬الطائرة‭ ‬وجعلتني‭ ‬أردد‭ ‬مجددا‭: ‬ما‭ ‬دائم‭ ‬إلا‭ ‬الله‭. ‬ولكننا‭ ‬هبطنا‭ ‬بسلام،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مستعدين‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬أهوال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬المطار،‭ ‬وكان‭ ‬أولها‭ ‬السلم‭ ‬الكهربائي‭. ‬فشلنا‭ ‬في‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬وسيلة‭ ‬غيره‭ ‬تقودنا‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬نقاط‭ ‬الجوازات‭ ‬والأمتعة‭ ‬وبوابات‭ ‬الخروج‭. ‬وتوكلنا‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬ووضعنا‭ ‬أرجلنا‭ ‬على‭ ‬العتبة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬السلم‭. ‬كانت‭ ‬مشكلتي‭ ‬ان‭ ‬صديقا‭ ‬لي‭ ‬كلفني‭ ‬بتوصيل‭ ‬كيس‭ ‬به‭ ‬منقه‭ ‬هندية‭ (‬منقه‭ ‬هو‭ ‬الاسم‭ ‬هندي‭ ‬الأصلي‭ ‬لهذه‭ ‬الفاكهة‭ ‬ولكن‭ ‬معظم‭ ‬العرب‭ ‬يأخذ‭ ‬بالتسمية‭ ‬الإفرنجية‭ ‬‮«‬مانجو‮»‬‭) ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وكنت‭ ‬ممسكا‭ ‬بالكيس‭ ‬بيدي‭ ‬اليسرى‭ ‬وبحافة‭ ‬السلم‭ ‬بيدي‭ ‬اليمنى‭ ‬ولكنني‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بتوازن‭ ‬جسمي،‭ ‬ولسوء‭ ‬حظي‭ ‬كانت‭ ‬أمامي‭ ‬مباشرة‭ ‬سيدة‭ ‬سودانية‭ ‬ضخمة‭ ‬الجثة‭ ‬صار‭ ‬الثوب‭ ‬الفضفاض‭ ‬الذي‭ ‬تلف‭ ‬بها‭ ‬جسمه‭ ‬يطير‭ ‬ويغطي‭ ‬وجهي،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬بدورها‭ ‬تتأرجح،‭ ‬ثم‭ ‬أوشكت‭ ‬على‭ ‬السقوط‭ ‬على‭ ‬ظهري‭ ‬وبكل‭ ‬قلة‭ ‬حياء‭ ‬مددت‭ ‬يدي‭ ‬اليسرى‭ ‬مستنجدا‭ ‬بتلك‭ ‬السيدة‭ ‬فانفلت‭ ‬الكيس‭ ‬الذي‭ ‬به‭ ‬المنقه‭ (‬المانجو‭) ‬وفجأة‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬وتلك‭ ‬السيدة‭ ‬نشكل‭ ‬كومة‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬السلم‭ ‬الذي‭ ‬انبعثت‭ ‬منه‭ ‬رائحة‭ ‬عصير‭ ‬المنقه‭ ‬الشهي،‭ ‬وصدرت‭ ‬عن‭ ‬السلم‭ ‬الكهربائي‭ ‬شهقة‭ ‬ثم‭ ‬شخر‭ ‬ثم‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬العمل‭.. ‬وبكل‭ ‬براءة‭ ‬تسللت‭ ‬مبتعدا‭ ‬عن‭ ‬السلم‭ ‬وأنا‭ ‬موقن‭ ‬بأنه‭ ‬سيتم‭ ‬تحميلي‭ ‬تكاليف‭ ‬صيانة‭ ‬السلم‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬ضربت‮»‬‭ ‬أسلاكه‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬تشبعت‭ ‬بعصير‭ ‬المنقه‭. ‬ولكن‭ ‬العالمون‭ ‬في‭ ‬المطار‭ ‬اكتفوا‭ ‬بإلقاء‭ ‬نظرات‭ ‬ازدراء‭ ‬علي‭ ‬وعلى‭ ‬‮«‬الزولة‮»‬‭... ‬وعبرنا‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا