زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وصادمت الحضارة البريطانية
نعم كتب صمويل هنتنغتون عن صدام الحضارات، ولكنه لم يعش التجربة كما فعلت أنا، حين تم إيفادي وآخرين الى لندن لدراسة فنون العمل التلفزيوني، وبدأ الصدام في مطار الخرطوم، متمثلا في تجربة ركوب طائرة نفاثة لأول مرة، قاطعين آلاف الأميال، وكانت معنا زميلة واحدة حديثة عهد بالزواج، وفي المطار أوصاني زوجها بأن «آخذ بالي منها لأنها تخاف ركوب الطائرات»، فقلت له «ولا يهمك»، في حين أن الرد الأمين على ذلك الطلب كان ينبغي ان يكون: انت تستعين بعبد المعين الذي هو بحاجة الى من يعينه. في القسم الأول من الرحلة الى لندن كانت فرحة السفر قد أنستني ولهتني عن الخوف الكامن في تجاويف قولوني من الطائرات، ثم أعلن الكابتن اننا سنهبط لفترة قصيرة في مطار فرانكفورت في ألمانيا، ومددت رأسي لأملأ عيني من تلك المدينة التي سمعت عنها كثيرا، عبر النافذة، فارتد إلى البصر خاسئا وامتلأت رعبا. رأيت الطائرة تشق تلالا صخرية داكنة اللون، ورأيت أضواء تخطف البصر تشع من جناحي الطائرة التي بدأت تهتز وتعلو وتهبط كما شاحنة في طريق جبلي غير ممهد، وكان ما حسبته صخرا كتلا من السحاب المتجهم الذي يجعلك لا ترى أبعد من أرنبة أنفك، وأحسست بصعوبة في التنفس ثم انتبهت الى ان زميلتي ممسكة بتلابيبي، وكانت ترتعد ولسانها مشلول، قلت لها: يا بنت الناس توكلي على الله، فكل نفس ذائقة الموت ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.. لا إله إلا الله محمد رسول.. ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرضٍ سواها.. لا أجزم بأنني نطقت بتلك الكلمات بصوت مسموع، ولكن من المؤكد أنها رأت أن خوفي أضعاف خوفها، فأرخت قبضتها على عنقي، وصارت تتلو ما تيسر لها من الذكر الحكيم،.. ثم سمعنا أصواتا مرعبة وأيقنا أنها «النهاية»: جيك... ززززيك... إييييك.. ثم خفضت الطائرة سرعتها وقررت إلقاء نظرة وداع على الدنيا وفوجئت بأننا على الأرض ومن حولنا مباني مطار فرانكشتاين المسمى زورا فرانكفورت. وانفتح باب الطائرة وهبط منها بعض الركاب وسرت وراءهم إلى رأس سلم الهبوط فسألني مضيف ما إذا كانت تلك نهاية رحلتي، فأجبت بالنفي وقلت له إنني فقط أريد وضع رجلي على أرض ألمانيا حتى يتسنى لي الزعم بأنني زرت ألمانيا عندما أكتب الـ«سي. في»، أي سيرتي الذاتية لاحقا.
ثم انطلقنا الى مطار هيثرو في لندن، وواجهنا عند الهبوط فيه نفس الأهوال: مطبات هوائية تقاذفت الطائرة وجعلتني أردد مجددا: ما دائم إلا الله. ولكننا هبطنا بسلام، من دون أن نكون مستعدين للتعامل مع أهوال القرن العشرين في المطار، وكان أولها السلم الكهربائي. فشلنا في العثور على وسيلة غيره تقودنا الى حيث نقاط الجوازات والأمتعة وبوابات الخروج. وتوكلنا على الله ووضعنا أرجلنا على العتبة الأولى من السلم. كانت مشكلتي ان صديقا لي كلفني بتوصيل كيس به منقه هندية (منقه هو الاسم هندي الأصلي لهذه الفاكهة ولكن معظم العرب يأخذ بالتسمية الإفرنجية «مانجو») إلى شخص في لندن، وكنت ممسكا بالكيس بيدي اليسرى وبحافة السلم بيدي اليمنى ولكنني فشلت في الاحتفاظ بتوازن جسمي، ولسوء حظي كانت أمامي مباشرة سيدة سودانية ضخمة الجثة صار الثوب الفضفاض الذي تلف بها جسمه يطير ويغطي وجهي، فقد كانت بدورها تتأرجح، ثم أوشكت على السقوط على ظهري وبكل قلة حياء مددت يدي اليسرى مستنجدا بتلك السيدة فانفلت الكيس الذي به المنقه (المانجو) وفجأة وجدت نفسي وتلك السيدة نشكل كومة على أعلى السلم الذي انبعثت منه رائحة عصير المنقه الشهي، وصدرت عن السلم الكهربائي شهقة ثم شخر ثم توقف عن العمل.. وبكل براءة تسللت مبتعدا عن السلم وأنا موقن بأنه سيتم تحميلي تكاليف صيانة السلم الذي «ضربت» أسلاكه بعد ان تشبعت بعصير المنقه. ولكن العالمون في المطار اكتفوا بإلقاء نظرات ازدراء علي وعلى «الزولة»... وعبرنا.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك