العدد : ١٧١٧٥ - الثلاثاء ٠١ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٥ - الثلاثاء ٠١ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

إلى لندن بخاتم زواج

خلال‭ ‬عملي‭ ‬مدرسا‭ ‬للغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬السودانية،‭ ‬تقرر‭ ‬ابتعاثي‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬لدراسة‭ ‬فنيات‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬توطئة‭ ‬للانضمام‭ ‬الى‭ ‬إدارة‭ ‬التلفزيون‭ ‬التعليمي‭. ‬وشككت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الحكاية‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬إنّ‮»‬،‭ ‬فكيف‭ ‬يتم‭ ‬ترشيحي‭ ‬لبعثة‭ ‬دراسية‭ ‬لم‭ ‬أتقدم‭ ‬بطلب‭ ‬للفوز‭ ‬بها،‭ ‬وليست‭ ‬عندي‭ ‬‮«‬واسطة‮»‬‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬التربية،‭ ‬ولكن‭ ‬إجراءات‭ ‬البعثة‭ ‬اكتملت،‭ ‬وثبت‭ ‬بذلك‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬خطأ‭ ‬بإساءة‭ ‬الظن‭ ‬بمن‭ ‬بأيديهم‭ ‬القرار،‭ ‬ورقصت‭ ‬فرحا‭ ‬وطربا‭ ‬لأنني‭ ‬متوجه‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬عاصمة‭ ‬العروبة،‭ ‬ومركز‭ ‬الدنيا‭ ‬بوصفها‭ ‬حاضنة‭ ‬خط‭ ‬غرينتش‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬خط‭ ‬الطول‭ ‬صفر،‭ ‬الذي‭ ‬يُحسب‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬قياسا‭ ‬عليه‭. ‬لندن‭ ‬بمسارحها‭ ‬ومتاحفها‭ ‬وبرلمانها‭ ‬العتيق‭. ‬صبرت‭ ‬ونلت‭ ‬يا‭ ‬أبا‭ ‬الجعافر،‭ ‬وستكون‭ ‬موقع‭ ‬حسد‭ ‬العماليق‭ ‬والسنافر‭.‬

كنت‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬خطبت‭ ‬فتاة‭ ‬وقطعت‭ ‬شوطا‭ ‬طيبا‭ ‬في‭ ‬الاستعداد‭ ‬لتوفير‭ ‬تكاليف‭ ‬الزواج‭. ‬من‭ ‬باب‭ ‬الأمانة‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬أقول‭ ‬إنها‭ ‬من‭ ‬تولى‭ ‬مسؤولية‭ ‬توفير‭ ‬تلك‭ ‬التكاليف،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬نفقتها،‭ ‬بل‭ ‬بأن‭ ‬جعلتها‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬إدارة‭ ‬شؤوني‭ ‬المالية،‭ ‬كانت‭ ‬لدي‭ ‬ثلاثة‭ ‬موارد‭ ‬مالية‭: ‬الراتب‭ ‬الشهري‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬التربية،‭ ‬ومكافأة‭ ‬شهرية‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬التلفزيون‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬فيها‭ ‬بصفة‭ ‬‮«‬متدرب‮»‬،‭ ‬ودخل‭ ‬إضافي‭ ‬من‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬فصول‭ ‬دراسية‭ ‬مسائية‭ ‬كان‭ ‬يديرها‭ ‬اتحاد‭ ‬المعلمين،‭ ‬فصرت‭ ‬أسلمها‭ ‬شهريا‭ ‬مبلغا‭ ‬معينا‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬سبهلليا‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬المالية‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬الادخار‭ ‬ولا‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬البنوك،‭ ‬وكان‭ ‬الاتفاق‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬المبالغ‭ ‬التي‭ ‬أسلمها‭ ‬إياها‭ ‬سقفا‭ ‬معينا،‭ ‬تدرك‭ ‬هي‭ ‬عنده‭ ‬أن‭ ‬الميزانية‭ ‬اكتملت،‭ ‬فنستكمل‭ ‬إجراءات‭ ‬الزواج‭.‬

ثم‭ ‬حدث‭ ‬انقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬جعلت‭ ‬الأحوال‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬مضطربة،‭ ‬وتم‭ ‬فرض‭ ‬حظر‭ ‬تجول‭ ‬طويل‭ ‬الأمد‭ ‬على‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬توأم‭ ‬الخرطوم‭ ‬العاصمة،‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نقيم‭ ‬فيها،‭ ‬فقررنا‭ ‬عقد‭ ‬القران،‭ ‬وبس‭.. ‬يعني‭ ‬نتزوج‭ ‬شرعا‭ ‬ثم‭ ‬نواصل‭ ‬بعد‭ ‬الفاصل،‭ ‬أي‭ ‬نحدد‭ ‬تاريخا‭ ‬لاحقا‭ ‬للزفاف،‭ ‬وفي‭ ‬حفل‭ ‬عائلي‭ ‬جاء‭ ‬المأذون‭ ‬وكتب‭ ‬الكتاب‭ ‬وتناول‭ ‬الضيوف‭ ‬الطعام‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬وبدأوا‭ ‬في‭ ‬الهرب‭ ‬الى‭ ‬بيوتهم،‭ ‬لأن‭ ‬حظر‭ ‬التجوال‭ ‬كان‭ ‬ساريا،‭ ‬لأن‭ ‬الحكومات‭ ‬العسكرية‭ ‬تفقد‭ ‬توازنها‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬تحرك‭ ‬ضدها‭ ‬فتعاقب‭ ‬سكان‭ ‬العاصمة‭ ‬جميعا‭ ‬بشل‭ ‬حركتهم‭ ‬من‭ ‬مطلع‭ ‬كل‭ ‬مساء‭ ‬الى‭ ‬مطلع‭ ‬الفجر،‭ ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحفل‭ ‬تحركت‭ ‬بسيارة‭ ‬صديق‭ ‬وأنا‭ ‬مدرك‭ ‬بأنني‭ ‬كـ«عريس‭ ‬جديد‮»‬‭ ‬قد‭ ‬أقضي‭ ‬ليلتي‭ ‬حبيسا‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬للشرطة‭ ‬او‭ ‬الجيش،‭ ‬ولكن‭ ‬ربك‭ ‬ستر‭ ‬ولم‭ ‬تعترض‭ ‬طريقنا‭ ‬دورية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أوصلني‭ ‬صاحبي‭ ‬الى‭ ‬البيت

وظللت‭ ‬لعدة‭ ‬أيام‭ ‬أفكر‭ ‬فيما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬قراري‭ ‬بالزواج‭ ‬سليما‭!! ‬لم‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬اختياري‭ ‬للزوجة‭ ‬موفقا،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬زاوية‭: ‬هل‭ ‬أنا‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬زوجة‭ ‬وعيال؟‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أصلح‭ ‬لدور‭ ‬الزوج‭ ‬التقليدي‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬الى‭ ‬البيت‭ ‬عند‭ ‬انتهاء‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬عمل‭ ‬حاملا‭ ‬الصحف‭ ‬وبطيخة‭ ‬وكيسا‭ ‬به‭ ‬الجرجير‭ ‬والطماطم‭ ‬والبندول،‭ ‬وكانت‭ ‬لي‭ ‬علاقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬واسعة‭ ‬وأسهم‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النشاطات‭ ‬الثقافية،‭ ‬ومسيسا‭ ‬بدرجة‭ ‬قد‭ ‬تعيدني‭ ‬الى‭ ‬السجن‭ ‬مجددا،‭ ‬وكان‭ ‬الزواج‭ ‬يعني‭ ‬إعادة‭ ‬رسم‭ ‬خريطة‭ ‬حياتي‭ ‬بحيث‭ ‬تصبح‭ ‬الزوجة‭ ‬هي‭ ‬مركز‭ ‬الدائرة‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬الدائرة‭ ‬صغيرة‭ ‬المحيط،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تستغرق‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬المركز‭ ‬وقتا‭ ‬طويلا‭. ‬المهم‭ ‬أنني‭ ‬مثل‭ ‬معظم‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الجنسين‭ ‬حديثي‭ ‬العهد‭ ‬بالزواج،‭ ‬ظللت‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬لا‭ ‬أصدق‭ ‬أنني‭ ‬أصبحت‭ (‬متزوجا‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬حالتي‭ ‬طالت‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬لأن‭ ‬المجتمع‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الزواج‭ ‬الشرعي‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬بل‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬زفاف‭ ‬وزيطة‭ ‬وهيصة،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬تقرر‭ ‬تأجيل‭ ‬تلك‭ ‬الأشياء‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬عودتي‭ ‬من‭ ‬لندن،‭ ‬ولم‭ ‬يضايقني‭ ‬ذلك‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أملك‭ ‬الموارد‭ ‬للمضي‭ ‬قدما‭ ‬في‭ ‬إجراءات‭ ‬الزواج،‭ ‬وسيعني‭ ‬السفر‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬راتبي‭ ‬الشهري‭ ‬كاملا‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬لأنني‭ ‬سأتقاضى‭ ‬نفقات‭ ‬الدراسة‭ ‬والإعاشة‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬حكومة‭ ‬ألمانيا‭ (‬الغربية‭) ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬قدم‭ ‬لنا‭ ‬المنحة‭ ‬الدراسية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الدعم‭ ‬الذي‭ ‬ظلت‭ ‬تقدمه‭ ‬للتلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬منذ‭ ‬إنشائه‭.‬

وبهذا‭ ‬تكون‭ ‬حكومة‭ ‬ألمانيا‭ ‬قد‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬نفقات‭ ‬زواجي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا