العدد : ١٧١٧٤ - الاثنين ٣١ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٤ - الاثنين ٣١ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

مسطول رغم أنفي

سردت‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬أسبوع‭ ‬وقائع‭ ‬جعلتني‭ ‬محط‭ ‬اتهام‭ ‬باستخدام‭ ‬حشيشة‭ ‬البنقو،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬أدى‭ ‬تعاطي‭ ‬ذلك‭ ‬المخدر‭ ‬إلى‭ ‬رسوب‭ ‬طالب‭ ‬كان‭ ‬زميلي‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وكنت‭ ‬اعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬مسؤولا‭ ‬عن‭ ‬مساره‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬وفي‭ ‬فورة‭ ‬الغضب‭ ‬داهمت‭ ‬خزانة‭ ‬ملابسه‭ ‬وصادرت‭ ‬ما‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬بنقو‭ ‬وألقيت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مقلب‭ ‬القمامة،‭ ‬واكتشف‭ ‬صاحبنا‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل،‭ ‬ووقف‭ ‬قبالة‭ ‬شباك‭ ‬غرفتي‭ ‬وهو‭ ‬يصرخ‭: ‬جعفر‭ ‬وين‭ ‬البنقو؟‭ ‬فلازمتني‭ ‬الشبهات‭ ‬حينا‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬ولو‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الدعابة‭.‬

طالعت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬إعلانا‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬عن‭ ‬رغبة‭ ‬السفارة‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬في‭ ‬توظيف‭ ‬ضابط‭ ‬إعلام‭/ ‬مترجم،‭ ‬وتقدمت‭ ‬للوظيفة‭ ‬وفوجئت‭ ‬بأنهم‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬مني‭ ‬شهادات‭ ‬أو‭ ‬إفادات،‭ ‬بل‭ ‬قالوا‭ ‬بصريح‭ ‬العبارة‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يهمهم‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬الشخص‭ ‬مؤهلا‭ ‬للوظيفة‭ ‬بأن‭ ‬يجتاز‭ ‬الامتحان‭ ‬التحريري‭ ‬والشفهي‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬الشهادة‭ ‬المتوسطة‭. ‬وجلست‭ ‬للامتحان،‭ ‬وبعدها‭ ‬بكذا‭ ‬يوم‭ ‬أبلغوني‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬نجحت‮»‬‭ ‬وحددوا‭ ‬لي‭ ‬موعدا‭ ‬للمقابلة‭ ‬الشخصية‭ ‬‮«‬انترفيو‮»‬،‭ ‬وعشية‭ ‬اليوم‭ ‬المحدد‭ ‬قمت‭ ‬باختيار‭ ‬أحسن‭ ‬ما‭ ‬عندي‭ ‬من‭ ‬ملابس،‭ ‬واستعرت‭ ‬ربطة‭ ‬عنق‭ (‬كرافتة‭) ‬من‭ ‬فاعل‭ ‬خير‭.‬

وفي‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬المحدد‭ ‬للمقابلة‭ (‬الإنترفيو‭) ‬جاءني‭ ‬صديق‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬سمع‭ ‬بأن‭ ‬الاختيار‭ ‬لوظيفة‭ ‬السفارة‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬شخص‭ ‬مسنود‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬شخصية‭ ‬سياسية‭ ‬معروفة،‭ ‬فلعنت‭ ‬خاش‭ ‬الخواجات‭ ‬الذين‭ ‬انتقل‭ ‬إليهم‭ ‬فيروس‭ ‬المحاباة،‭ ‬وتوجهت‭ ‬مع‭ ‬ذاك‭ ‬الصديق‭ ‬الى‭ ‬سكن‭ ‬لبعض‭ ‬العزاب،‭ ‬فوجدت‭ ‬نحو‭ ‬ثمانية‭ ‬أشخاص‭ ‬يجلسون‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مغلقة‭ ‬الباب‭ ‬والنوافذ‭ ‬مشبعة‭ ‬بالبخور‭ ‬بدرجة‭ ‬تؤدي‭ ‬الى‭ ‬ضيق‭ ‬في‭ ‬التنفس،‭ ‬لأن‭ ‬رائحة‭ ‬البخور‭ ‬اختلطت‭ ‬مع‭ ‬رائحة‭ ‬التبغ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قسم‭ ‬منهم‭ ‬يدخنه‭ ‬بشراهة،‭ ‬وبعد‭ ‬نحو‭ ‬ساعة‭ ‬سألني‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬موعد‭ (‬الانترفيو‭) ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬البريطانية‭ ‬فأخبرته‭ ‬بحكاية‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬فاز‭ ‬بالوظيفة‭ ‬بالواسطة،‭ ‬ولكن‭ ‬معظمهم‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬يُصدّق،‭ ‬وألحوا‭ ‬علي‭ ‬كي‭ ‬أذهب‭ ‬الى‭ ‬السفارة‭ ‬لإجراء‭ ‬الانترفيو،‭ ‬‮«‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬لن‭ ‬تخسر‭ ‬شيئا‭ ‬بذهابك‭ ‬الى‭ ‬هناك‮»‬،‭ ‬وبما‭ ‬ان‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬بيتي‭ ‬لارتداء‭ ‬الملابس‭ ‬التي‭ ‬جهزتها‭ ‬للانترفيو‭ ‬كانت‭ ‬ستؤخرني‭ ‬عن‭ ‬الموعد‭ ‬المضروب‭ ‬لها،‭ ‬فقد‭ ‬استعرت‭ ‬قميصا‭ ‬وحذاء‭ ‬من‭ ‬شلة‭ ‬العزاب،‭ ‬وتوجه‭ ‬ثلاثة‭ ‬منهم‭ ‬معي‭ ‬الى‭ ‬السفارة‭ ‬كي‭ ‬يضمنوا‭ ‬أنني‭ ‬سأجري‭ ‬الانترفيو‭ ‬ولن‭ ‬‮«‬أزوغ‮»‬‭  ‬منه‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬عن‭ ‬إسناد‭ ‬الوظيفة‭ ‬لشخص‭ ‬مسنود‭.‬

صعدت‭ ‬مبنى‭ ‬السفارة‭ ‬وجلست‭ ‬قبالة‭ ‬المستشار‭ ‬والملحق‭ ‬الثقافي‭ ‬ورددت‭ ‬على‭ ‬أسئلتهم‭ ‬بعفوية‭ ‬شديدة‭ ‬وأنا‭ ‬‮«‬على‭ ‬راحتي‮»‬،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬تجاويف‭ ‬قلبي‭ ‬وأمعائي‭ ‬مقتنعا‭ ‬أن‭ ‬الانترفيو‭ ‬شكلي‭ ‬وان‭ ‬الوظيفة‭ ‬طارت‭ ‬مني‭ ‬سلفا‭. ‬وهكذا‭ ‬جلست‭ ‬أبادلهم‭ ‬القفشات‭ ‬والدعابات‭ ‬وفوجئت‭ ‬بانتهاء‭ ‬الانترفيو‭ ‬بالمستشار‭ ‬يقول‭ ‬لي‭: ‬كنت‭ ‬صاحب‭ ‬أفضل‭ ‬نتيجة‭ ‬في‭ ‬الامتحان‭ ‬التحريري‭ ‬ونحن‭ ‬نعرض‭ ‬عليك‭ ‬الوظيفة‭ ‬وشروطها‭ ‬ومزاياها‭ ‬كذا‭ ‬وكذا،‭ ‬ولما‭ ‬سمعت‭ ‬رقم‭ ‬الراتب‭ ‬خرجت‭ ‬عيني‭ ‬اليسرى‭ ‬عن‭ ‬محجرها‭ (‬يعني‭ ‬إحوليت‭ ‬يا‭ ‬رجالة‭)‬،‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬السفارة‭ ‬وأبلغت‭ ‬رفاقي‭ ‬أنني‭ ‬فزت‭ ‬بالوظيفة‭ ‬فصاروا‭ ‬يصيحون‭: ‬يييهووو‭! ‬وعدت‭ ‬الى‭ ‬بيت‭ ‬العزاب‭ ‬وأمضينا‭ ‬بضع‭ ‬ساعات‭ ‬في‭ ‬الضحك‭ ‬المتواصل‭.‬

بعد‭ ‬التحاقي‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬بنحو‭ ‬اسبوعين‭ ‬سألني‭ ‬المستشار‭: ‬ليه‭ ‬أنت‭ ‬ثقيل‭ ‬الظل‭ ‬بينما‭ ‬كنت‭ ‬خلال‭ ‬الانترفيو‭ ‬مرحا‭ ‬وصاحب‭ ‬دعابة‭.. ‬أفشيت‭ ‬له‭ ‬السر‭: ‬العزاب‭ ‬الذين‭ ‬وجدتهم‭ ‬جالسين‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬يملأها‭ ‬البخور‭.. ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬نحو‭ ‬أربعة‭ ‬يدخنون‭ ‬البنقو‭ (‬يكتبها‭ ‬المصريون‭ ‬البانجو‭) ‬وكان‭ ‬دور‭ ‬البخور‭ ‬‮«‬التغطية‮»‬‭ ‬على‭ ‬رائحة‭ ‬البنقو‭ ‬الكريهة،‭ ‬ولأن‭ ‬الغرفة‭ ‬كانت‭ ‬صغيرة‭ ‬ونوافذها‭ ‬مغلقة‭ ‬فقد‭ ‬انسطل‭ ‬ابو‭ ‬الجعافر‭ ‬بنظام‭ ‬التدخين‭ ‬السلبي passive smoking‭ ‬يعني‭ ‬شفطت‭ ‬الهواء‭ ‬الملوث‭ ‬بالبنقو‭.. ‬عرفت‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬من‭ ‬قرناء‭ ‬السوء‭ ‬أولئك‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬انسطلت‭ ‬فيه‭ ‬لأنني‭ ‬أصبت‭ ‬بصداع‭ ‬فظيع‭ ‬بعد‭ ‬مجالستي‭ ‬لهم‭ ‬بساعات،‭ ‬وقالوا‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬انبساطي‭ ‬والضحك‭ ‬والتهريج‭ ‬الذي‭ ‬مارسته‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬كان‭ ‬فوق‭ ‬العادة‭ ‬بتأثير‭ ‬ذلك‭ ‬المخدر‭.. ‬وتذكر‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أفز‭ ‬بتلك‭ ‬الوظيفة‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬مسطولا،‭ ‬بل‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬قواي‭ ‬العقلية‭ ‬عندما‭ ‬جلست‭ ‬للامتحان‭ ‬التحريري،‭ ‬ولو‭ ‬جلست‭ ‬للامتحان‭ ‬وأنا‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬الانسطال‭ ‬السلبي‭ ‬لأجبت‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭: ‬ما‭ ‬هي‭ ‬اليونسكو؟‭ ‬بأنها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬القهوة،‭ ‬وأن‭ ‬اليونايتد‭ ‬نيشنز‭ ‬United Nations‭ ‬فريق‭ ‬في‭ ‬الدوري‭ ‬الإنجليزي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا