عالم يتغير

فوزية رشيد
الحنين إلى زمن مضى أم إلى أنفسنا؟!
{ كثير من المخضرمين وكبار السن وحتى من هم في منتصف العمر، ما أن يتأملوا وضع العصر الراهن وزخمه، أو ربما عصرهم في الزمن الراهن، حتى يشغفهم الحنين إلى الماضي، فيتحدثوا عن الزمن الجميل، حيث الهدوء أكثر جرَّاء بطء الأحداث! فهو حنين معكوس لما يتم جرفه من الحياة بسرعة رهيبة في كل شيء في زمننا المعاصر، فتسارع الأحداث واختلاط الأفكار، وانقلاب القيم وتبدل الأطباع والسلوكيات، والشغف الكبير بالمظاهر والماديات كلها معا تشغل في العقل حيزا كبيرا، خاصة أن وسائل التواصل والعم «جوجل»، وكثرة المعلومات التي يرشح منها القليل المفيد، فيما الكثرة تدخل في اللغو والتبادل السطحي للأفكار، وقليلون يحسنون التعامل مع الثورة التكنولوجية، وثورة التواصل وثورة المعلومات، لتدخل الغالبية في طابور الانشغال والاشتغال بالتوافه، حتى رصد أحدهم الزمن بأنه يدور حاليا وفق نظام التفاهة!
{ من هنا يكون حنين الكبار إلى زمن مضى، هو حنين أيضاً ليس فقط إلى سمات عصر مختلف كان يتسم بتوازن أكبر، وإنما هو حنين إلى مرحلة كانت فيها براءة الطفولة بحيرة أسئلتها، وتوهج العمر في الشباب ومنتصف العمر، وما يحمله ذلك التوهج من أحلام كبيرة، وطموحات عريضة، فإذا الآن يجد أصحاب الحنين إلى الماضي أنفسهم وسط كهولة العمر، وكأن الزمن يطوي نفسه سريعا، ومع الانطواء الزمني، وفي حنين القلب إلى الهدوء والراحة، يجد أن كل شيء يتسارع، وكأن البرق يخطف الأبصار!، فإما أن تسرع مع جريان الزمن والأحداث والانقلاب في المفاهيم، وإما أن تبقى بعيدا فتبتعد عن الحياة نفسها بشكل تدريجي ! فقد شبعت الروح من غواية التجارب، وتراكمت الخبرات، ولكن في وسط حافل بتجارب جديدة، وأخلاقيات وقيم جديدة، فيطل الحنين برأسه مرارا إلى زمن أكثر نظاما وتنظيما، وإلى قيم أكثر وضوحا ورسوخا، وإلى علاقات عائلية وأسرية أكثر حميمية، وأحياء قديمة مشبعة بالطيبة والمحبة، رغم الفقر ومشاكل ذلك الزمن الباذخ في هدأته على ضفاف البحر والنخيل!
{ الحنين إلى الزمن الجميل كما تم وصفه، هو في الحقيقة حنين لمن عايش ذلك الزمن وتخطاه سريعا إلى زمن آخر، يجد نفسه في غربة شائكة بين ما مضى، وما يتشكل كل يوم، بإيقاع سريع مختلف وفي كل مناحي الحياة! وفي الواقع فالحنين هو هنا لأنفسنا كما كانت في طفولتها وشبابها، ولذلك البريق الذي كان يحفّ بها أينما اتجهت، رغم التحديات والمكابدات، وللبعض رغم شظف العيش!
{ هو حنين إلى تلك القلوب الرائعة التي مرت في وهج العمر وهو في أوله وأوسطه، فإذا به يفقد الكثير منها، فيرحل الآباء بما كانوا يحملونه من نعيم الأبوة، وترحل الأمهات بكل ما يمثلنه من واحات الراحة والطمأنينة، ويرحل كثير من الأقارب والأصدقاء، ليخلو العمر من بهجة وفتنة العلاقات الحميمة، فلا يبقى لأصحاب الحنين إلا مضغ متعة أوقات كانت، وأفراح لم يبق من مذاقها إلاّ استرجاع الذاكرة حولها! وفي لحظتها يشعر كم كان العالم أليفا مع زوجة رحلت، أو زوج رحل أو أقارب كانوا يشيعون الدفء في أوقات التجمع العائلي!
{ لكأنه برزخ من نوع آخر يفصل الماضي عن الحاضر رغم أن الزمن فيها متصل ولم ينقطع، ولكن الذي انقطع هو رتم الحياة كما كان في مراحل مررنا بها، فغابت وجوهها عنا، ليتركوا المساحة شاسعة للحنين والذكريات، فهنا كان بيتنا القديم، وكان الجد يمشي ببط نحو غايته في السوق، وهنا كان الوالد يذهب مشيا إلى عمله، مرتحلاً في الشوارع القديمة! وهنا كانت الأم تعد الأكل وتحضر السفرة، ليتجمع أفراد العائلة دون نقصان! وهنا كانت العمة تجلس، والخالة تسترجع أحداثا مضت! وهنا موقع التلفزيون اليتيم والبرامج المحدودة التي تنتهي مع العاشرة مساءً! وهنا على السطح تتم مسامرة النجوم والقمر، وهناك يصرخ طفل ويركض خلف أخوه أو أخته في مرحلة عمرية عنوانها الاندفاع والمشاكسة!
{ الحنين يراود فقط من يمتلك الذكريات! ومن عايش مراحل مختلفة من مراحل العمر، فيما الحياة نفسها تمضي بكل ألوانها نحو ألوان أخرى، وتتشكل تجاربها بسرعة الومض ولا تبالي! نحن فقط نشعر بتسارعها، وبغربلتها للأعمار، وبدخولها عصراً سمته ثورة التكنولوجيا والعوالم الافتراضية! هل الحنين إذا إلى الزمن أم إلى أنفسنا في زمن مضى؟! وإلا ما معنى الحنين إلى الماضي والحياة مستمرة؟ هل تغير الزمن أم الناس هم الذين تغيروا؟! وهل كانت رحلة الحياة حقيقة أم حلما؟! أين ذلك الطفل الذي كُنَّاه؟! وأين ذلك الشاب الذي رحل ورحلت معه ملامحه التي كانت؟! وهل بقي شيء غير الحنين إليهما، والأزمان تطوي نفسها كصفحات كتاب، لنقرأ قصتنا في هذه الحياة!
إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك