العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

واصطدمنا بالقرن العشرين

كان‭ ‬حديثي‭ ‬معكم‭ ‬بالأمس‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬خيط‭ ‬الطائرة‭ ‬النفاثة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أهل‭ ‬بلدتنا‭ ‬قد‭ ‬سمعوا‭ ‬بها،‭ ‬وحسبوا‭ ‬دخانها‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬مرسوما‭ ‬في‭ ‬الفضاء،‭ ‬إيذانا‭ ‬بالقيامة‭ ‬ونفخ‭ ‬الصور‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬السماء‭ ‬انشقت،‭ ‬ثم‭ ‬التحقت‭ ‬بمدرسة‭ ‬البرقيق‭ ‬الوسطى،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭ ‬اي‭ ‬مبنى،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬الأربع‭ ‬خالية‭ ‬نمارس‭ ‬فيها‭ ‬اللعب‭ ‬والشيطنة،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬وبينما‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬الحصة‭ ‬الثالثة‭ ‬سمعنا‭ ‬دويا‭ ‬يصم‭ ‬الآذان،‭ ‬ولأن‭ ‬تلك‭ ‬الحصة‭ ‬تعقب‭ ‬وجبة‭ ‬الفطور‭ ‬مباشرة،‭ ‬فقد‭ ‬حسبت‭ ‬الدوي‭ ‬ناجما‭ ‬عن‭ ‬تعاطي‭ ‬الفول،‭ ‬لأن‭ ‬الفول‭ ‬يسبب‭ ‬النعاس‭ ‬والهذيان،‭ ‬ولكن‭ ‬الكراسي‭ ‬والأدراج‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬الاهتزاز‭ ‬ولمحنا‭ ‬عبر‭ ‬النوافذ‭ ‬طائرا‭ ‬عملاقا‭ ‬يروح‭ ‬ويجيء‭ ‬فوق‭ ‬مبنى‭ ‬المدرسة،‭ ‬ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬انطلقت‭ ‬صيحات‭ ‬نوبية‭: ‬ويبيوووو‭ ‬ويبيو‭. ‬يا‭ ‬للهول‭ ‬ويا‭ ‬للمصيبة‭! ‬واندفعنا‭ ‬خارجين‭ ‬من‭ ‬غرف‭ ‬الدراسة‭ ‬عبر‭ ‬الأبواب‭ ‬والشبابيك،‭ ‬وانطلق‭ ‬بعضنا‭ ‬صوب‭ ‬السوق،‭ ‬وآخرون‭ ‬صوب‭ ‬‮«‬بلدة‮»‬‭ ‬كرمة‭ ‬البلد‭ ‬القريبة،‭ ‬ولكن‭ ‬الطائر‭ ‬الوحشي‭ ‬ظل‭ ‬يطاردنا‭ ‬فنتقهقر‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭. ‬كنا‭ ‬نحو‭ ‬160‭ ‬طالبا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬الحد‭ ‬الأقصى‭ ‬للطلاب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬غرفة‭ ‬دراسة‭ ‬40‭ ‬طالبا،‭ ‬وكنا‭ ‬جميعا‭ ‬نبكي‭ ‬ونصرخ‭ ‬ومعظمنا‭ ‬ينوح‭ (‬باللغة‭ ‬النوبية‭): ‬وو‭ ‬يو‭ (‬يا‭ ‬يمّة‭).. ‬وو‭ ‬نور‭/‬أرتي‭ (‬يا‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬وحاول‭ ‬المدرسون‭ ‬تطويقنا‭ ‬وتهدئتنا‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬مجال‭ ‬لـ«قم‭ ‬للمعلم‭ ‬وفه‭ ‬التبجيلا‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬انفلتت‭ ‬الأوضاع،‭ ‬فالمسألة‭ ‬حياة‭ ‬أو‭ ‬موت‭ ‬ولا‭ ‬مجال‭ ‬للانضباط‭ ‬واحترام‭ ‬المعلم‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬لا‭ ‬ينفع‭ ‬فيه‭ ‬مال‭ ‬ولا‭ ‬بنون‭. ‬وفجأة‭ ‬سكت‭ ‬هدير‭ ‬ذلك‭ ‬الطائر‭ ‬الخرافي،‭ ‬فتحركنا‭ ‬ببطء‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الاتجاهات‭ ‬لمعرفة‭ ‬الوجهة‭ ‬التي‭ ‬طار‭ ‬إليها‭. ‬ونجح‭ ‬المدرسون‭ ‬في‭ ‬تهدئتنا‭ ‬وطلبوا‭ ‬منا‭ ‬الانتظام‭ ‬في‭ ‬طابور‭ ‬طويل‭ ‬وساروا‭ ‬بنا‭ ‬الى‭ ‬الفسحة‭ ‬الشمالية‭ ‬المتاخمة‭ ‬للمدرسة،‭ ‬وكان‭ ‬الطائر‭ ‬جاثما‭ ‬هناك‭ ‬بلا‭ ‬حراك،‭ ‬فانفلتت‭ ‬الأوضاع‭ ‬مجددا‭ ‬وجرينا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭ ‬مبتعدين‭ ‬عنه،‭ ‬ثم‭ ‬لاحظنا‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الاشخاص‭ ‬يقفون‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬الطائر‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يمسهم‭ ‬سوء،‭ ‬فاستجمعنا‭ ‬شجاعتنا‭ ‬واقتربنا‭ ‬منه‭ ‬قليلا‭. ‬وسمعنا‭ ‬ناظر‭ ‬المدرسة‭ ‬يقول‭ ‬كلاما‭ ‬عن‭ ‬الهليكوبتر‭ ‬وعن‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬المساحين‭ ‬جاءوا‭ ‬ليحددوا‭ ‬موقع‭ ‬مستشفى‭ ‬مقترح،‭ ‬وأنهم‭ ‬حلقوا‭ ‬مرارا‭ ‬فوق‭ ‬المدرسة‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬موقع‭ ‬مناسب‭ ‬تهبط‭ ‬فيه‭ ‬الهليكوبتر‭. ‬انقلب‭ ‬خوفنا‭ ‬سرورا،‭ ‬بل‭ ‬وتجرأ‭ ‬بعضنا‭ ‬على‭ ‬لمس‭ ‬‮«‬الهلاك‭-‬وبتر‮»‬‭ ‬بأيديهم‭... ‬وفي‭ ‬نوبة‭ ‬سخاء‭ ‬قال‭ ‬قائد‭ ‬الهليكوبتر‭ ‬إنه‭ ‬مستعد‭ ‬لحمل‭ ‬تلميذين‭ ‬والطيران‭ ‬بهما‭ ‬لبضع‭ ‬دقائق‭ ‬فوق‭ ‬المنطقة،‭ ‬فاندفعنا‭ ‬جميعا‭ ‬فارين‭ ‬صوب‭ ‬المدرسة‭. ‬وظلت‭ ‬سنة‭ ‬الهليكوبتر‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬التقويم‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬مثل‭ ‬مجاعة‭ ‬‮«‬سنة‭ ‬ستة‮»‬‭ (‬1306ه‭- ‬1988م‭) ‬و«توسين‭ ‬قم‮»‬‭ ‬أي‭ ‬سنة‭ ‬الفيضان،‭ ‬والمقصود‭ ‬بها‭ ‬عام‭ ‬1946‭ ‬الذي‭ ‬شهد‭ ‬فيضانا‭ ‬مدمرا‭.‬

يتردد‭ ‬كثيرا‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬قادة‭ ‬التمرد‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬دارفور‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬السودان‭ ‬أن‭ ‬أهل‭ ‬الإقليم‭ ‬تعرضوا‭ ‬للتعريب‭ ‬القسري،‭ ‬وشاهدهم‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المدرسين‭ ‬كانوا‭ ‬يعاقبون‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يضبط‭ ‬متلبسا‭ ‬بالحديث‭ ‬بلغة‭ ‬محلية،‭ ‬عندئذ‭ ‬فقط‭ ‬أدركت‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬النوبة‭ ‬كنا‭ ‬ضحايا‭ ‬التطهير‭ ‬اللغوي‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬منا‭ ‬بذلك،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نتعرض‭ ‬لضرب‭ ‬مبرح‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الوسطى‭ ‬إذا‭ ‬ضبطونا‭ ‬نتكلم‭ ‬باللغة‭ ‬النوبية،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬المدرسون‭ ‬الجنجويد‭ (‬تسمية‭ ‬أطلقها‭ ‬متمردو‭ ‬دارفور‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يصفونهم‭ ‬بالعرب‭ ‬ويتهمونهم‭ ‬بالإغارة‭ ‬عليهم‭ ‬والفتك‭ ‬بهم‭ ‬وقالوا‭ ‬ان‭ ‬الكلمة‭ ‬تحوير‭ ‬لعبارة‭ ‬‮«‬جن‭ ‬على‭ ‬جواد‮»‬‭). ‬لو‭ ‬كان‭ ‬أولئك‭ ‬المدرسون‭ ‬يعرفون‭ ‬مقدار‭ ‬الأذى‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نُلحِقه‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬لتركونا‭ ‬نبرطم‭ ‬كما‭ ‬نشاء‭ ‬بل‭ ‬ولشجعونا‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التحدث‭ ‬بالعربية‭. ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬فقد‭ ‬أتى‭ ‬تعريبنا‭ ‬قسرا‭ ‬بنتائج‭ ‬‮«‬إيجابية‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬صار‭ ‬إلمامنا‭ ‬بالعربية‭ ‬أفضل،‭ ‬وساعدنا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬وجود‭ ‬أقلية‭ ‬من‭ ‬قبائل‭ ‬ناطقة‭ ‬بالعربية،‭ ‬كان‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬يرغمنا‭ ‬على‭ ‬التحدث‭ ‬بالعربية،‭ ‬وهكذا‭ ‬وفي‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬عانى‭ ‬بعضنا‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬وهما‭ ‬العربية‭ ‬والانجليزية،‭ ‬وكانت‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أخف‭ ‬وطأة‭ ‬على‭ ‬قلوبنا‭ ‬وعقولنا‭ ‬لأنها‭ ‬مثل‭ ‬لغتنا‭ ‬النوبية‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬التذكير‭ ‬والتأنيث،‭ ‬وليس‭ ‬فيها‭ ‬مثنى،‭ ‬وياما‭ ‬عانينا‭ ‬وتعرضنا‭ ‬لعقوبات‭ ‬قاسية‭ ‬لمخاطبتنا‭ ‬هذا‭ ‬المعلم‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬بصيغة‭ ‬المؤنث‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا