زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
واصطدمنا بالقرن العشرين
كان حديثي معكم بالأمس عما كان من أمر خيط الطائرة النفاثة التي لم يكن أهل بلدتنا قد سمعوا بها، وحسبوا دخانها الذي ظل مرسوما في الفضاء، إيذانا بالقيامة ونفخ الصور باعتبار أن السماء انشقت، ثم التحقت بمدرسة البرقيق الوسطى، ولم يكن يحيط بها اي مبنى، بل كانت الأرض التي من حولها من الجهات الأربع خالية نمارس فيها اللعب والشيطنة، وذات يوم وبينما كنا في الحصة الثالثة سمعنا دويا يصم الآذان، ولأن تلك الحصة تعقب وجبة الفطور مباشرة، فقد حسبت الدوي ناجما عن تعاطي الفول، لأن الفول يسبب النعاس والهذيان، ولكن الكراسي والأدراج بدأت في الاهتزاز ولمحنا عبر النوافذ طائرا عملاقا يروح ويجيء فوق مبنى المدرسة، ومرة أخرى انطلقت صيحات نوبية: ويبيوووو ويبيو. يا للهول ويا للمصيبة! واندفعنا خارجين من غرف الدراسة عبر الأبواب والشبابيك، وانطلق بعضنا صوب السوق، وآخرون صوب «بلدة» كرمة البلد القريبة، ولكن الطائر الوحشي ظل يطاردنا فنتقهقر إلى المدرسة. كنا نحو 160 طالبا في زمن كان فيه الحد الأقصى للطلاب في كل غرفة دراسة 40 طالبا، وكنا جميعا نبكي ونصرخ ومعظمنا ينوح (باللغة النوبية): وو يو (يا يمّة).. وو نور/أرتي (يا الله)، وحاول المدرسون تطويقنا وتهدئتنا ولكن لم يكن هناك مجال لـ«قم للمعلم وفه التبجيلا»، فقد انفلتت الأوضاع، فالمسألة حياة أو موت ولا مجال للانضباط واحترام المعلم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. وفجأة سكت هدير ذلك الطائر الخرافي، فتحركنا ببطء في مختلف الاتجاهات لمعرفة الوجهة التي طار إليها. ونجح المدرسون في تهدئتنا وطلبوا منا الانتظام في طابور طويل وساروا بنا الى الفسحة الشمالية المتاخمة للمدرسة، وكان الطائر جاثما هناك بلا حراك، فانفلتت الأوضاع مجددا وجرينا في كل الاتجاهات مبتعدين عنه، ثم لاحظنا أن بعض الاشخاص يقفون قريبا من الطائر دون ان يمسهم سوء، فاستجمعنا شجاعتنا واقتربنا منه قليلا. وسمعنا ناظر المدرسة يقول كلاما عن الهليكوبتر وعن فريق من المساحين جاءوا ليحددوا موقع مستشفى مقترح، وأنهم حلقوا مرارا فوق المدرسة بحثا عن موقع مناسب تهبط فيه الهليكوبتر. انقلب خوفنا سرورا، بل وتجرأ بعضنا على لمس «الهلاك-وبتر» بأيديهم... وفي نوبة سخاء قال قائد الهليكوبتر إنه مستعد لحمل تلميذين والطيران بهما لبضع دقائق فوق المنطقة، فاندفعنا جميعا فارين صوب المدرسة. وظلت سنة الهليكوبتر جزءا من التقويم في منطقتنا مثل مجاعة «سنة ستة» (1306ه- 1988م) و«توسين قم» أي سنة الفيضان، والمقصود بها عام 1946 الذي شهد فيضانا مدمرا.
يتردد كثيرا على ألسنة قادة التمرد في ولاية دارفور في غرب السودان أن أهل الإقليم تعرضوا للتعريب القسري، وشاهدهم على ذلك أن المدرسين كانوا يعاقبون كل من يضبط متلبسا بالحديث بلغة محلية، عندئذ فقط أدركت أننا في منطقة النوبة كنا ضحايا التطهير اللغوي لسنوات طويلة دون وعي منا بذلك، فقد كنا نتعرض لضرب مبرح في المدرسة الوسطى إذا ضبطونا نتكلم باللغة النوبية، ولو كان المدرسون الجنجويد (تسمية أطلقها متمردو دارفور على من يصفونهم بالعرب ويتهمونهم بالإغارة عليهم والفتك بهم وقالوا ان الكلمة تحوير لعبارة «جن على جواد»). لو كان أولئك المدرسون يعرفون مقدار الأذى الذي كنا نُلحِقه باللغة العربية، لتركونا نبرطم كما نشاء بل ولشجعونا على عدم التحدث بالعربية. وعلى كل حال فقد أتى تعريبنا قسرا بنتائج «إيجابية»، فقد صار إلمامنا بالعربية أفضل، وساعدنا على ذلك وجود أقلية من قبائل ناطقة بالعربية، كان التعامل معها يرغمنا على التحدث بالعربية، وهكذا وفي المدرسة المتوسطة عانى بعضنا من اللغات الأجنبية وهما العربية والانجليزية، وكانت الإنجليزية أخف وطأة على قلوبنا وعقولنا لأنها مثل لغتنا النوبية لا تعرف التذكير والتأنيث، وليس فيها مثنى، وياما عانينا وتعرضنا لعقوبات قاسية لمخاطبتنا هذا المعلم أو ذاك بصيغة المؤنث.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك