زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وحسبنا أن السماء انشقت
عندما يسرد أبناء وبنات جيلي ذكريات الطفولة والصبا لعيالهم يحسبهم العيال ديناصورات أفلتت من الانقراض، ولكن نفس هؤلاء العيال يحسدوننا عندما نتحدث عن التعليم المجاني وكيف كانت الحكومة تؤوي وتطعم عيال المدارس، بل وتوفر النظارات الطبية لمن يعانون من ضعف القدرة على الإبصار.
وذات ليلة إثنين (وهو اليوم الذي كان مخصصا في جميع أنحاء السودان للنشاط الثقافي والأدبي في المدارس) كنت في المدرسة المتوسطة، مكلفا بتقديم محاضرة ضمن نشاط الجمعية الادبية عن «سبل كسب العيش في السودان»، وهو مقرر الجغرافيا العتيق الذي كان يتضمن رحلات الى مختلف أقاليم السودان، لمعرفة كيف يعيش الناس وكيف يكسبون الرزق. وانتهت المحاضرة وقدم لي أحد المدرسين جائزة، كانت علبة حسنة الشكل عليها كلام باللغة الانجليزية «من خارج المقرر»، واحتفظت بالعلبة مدة طويلة وأنا لا أعرف ما فائدتها أو قيمتها، وبعد أكثر من سنة أو سنتين سافرت بتلك العلبة إلى مدينة كوستي لزيارة والدي، وعرضتها على قريب لي نشأ في المدينة، ثم جلسنا في مكان منعزل وأتينا بسكين ومطرقة وأزلنا غطاءها ووجدنا بداخلها مواد كريهة الرائحة تجوس فيها ديدان صغيرة، وعرفت لاحقا أنها كانت علبة كرز. وانتهت صلاحيتها، وضاعت عليّ بذلك طفرة طبقية مبكرة، ولم أعرف طعم الكرز إلا بعد مرور نحو عشرين سنة على نيلي تلك الجائزة.
ومن مكاسب الطفولة التي نجمت عن العيش في شمال السودان النوبي أنني صرت مهيأ نفسيا وعقليا لأهوال يوم القيامة، لأنني شهدت جانبا منها، وكانت المرة الأولى وأنا تلميذ في مدرسة بدين الابتدائية، وكان الجو شتائيا عندما ظهر سيف أبيض طويل ومتجانس الشكل بعرض السماء، فانفجرت آلاف الحناجر بالعويل والصراخ: ويي بيووو وي بيوو. هذه هي الصرخة النوبية التي تقابلها باللهجة المصرية: يا لهوي يا لهوتيني يا تلات لهويني.. يا مصيبتي. وكان الأكثر إيمانا يستنجدون بلسان نوبي فصيح: وو نور كمبو كقر.. يا الله يا قوي يا عزيز.. ثم بدأ قرع الطبول، استغفر الله كانوا يقرعون آنية الزيت والجاز المعدنية الفارغة، فالطبول ليست عنصرا من عناصر الثقافة الفنية أو الدينية في النوبة، وبدأ كل بيت في إعداد البليلة، من اللوبياء والذرة الشامية، فهذه عادتنا عند كسوف الشمس وخسوف القمر، وبإزاء كل الظواهر الطبيعية التي لم نكن نعرف لها تفسيرا. ولكن غالبية الناس كانت في حالة انهيار كامل بعد ان أدركوا أنهم لم يحسنوا الاستعداد ليوم القيامة، وها هي السماء تنشطر نصفين، وستهوي على رؤوسهم بعد قليل، فاندفع الناس يطلبون الصفح والعفو من أمهاتهم وآبائهم وأقاربهم وجيرانهم، ومنهم من سدد دينا كان قد ظل ينكره على مدى عشر سنوات أو أكثر. وهرع بعض الحكماء إلى جدي الشيخ حاج فرحان وكان فقيها عالما وقارئا وكاتبا وشاعرا ويقضي معظم ساعات يومه في التأمل والاطلاع، ووجدوه ثابت الجأش وهو يقرأ: إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، ولم يعجب ذلك بعض من كانوا يريدون من الشيخ أن يطمئنهم بأن الأمر لا يتعلق بقيام الساعة، وصاح أحدهم بما معناه: ما هذا يا شيخ؟ أتيناك طالبين الطمأنينة فتشق علينا السماء والأرض؟ ولكن حاج فرحان واصل تلاوة القرآن من دون أن يبدو عليه هلع أو وجل.
وفجأة لاحظ أحدهم أن السيف الذي كان يشق السماء صار يخبو، بل اختفت أجزاء منه، منهم المتشائم الذي قال إن الجزء الذي اختفى من السيف أو الخيط الأبيض لا بد أنه سقط على الخرطوم لأن أهلها فاسدون، ويقال إن عندهم دكاكين تبيع الخمر الملون المصنوع في بلاد الخواجات، ومنهم من قال إن الجزء الذي اختفي من الخيط عبارة عن فجوة ستسقط منها النيازك والشهب فيهلك الجميع. ولكن الطمأنينة عادت إلى القلوب بعد ان اختفى السيف الابيض تماما من دون ان تأتي نفخة الصور. وظل أمر ذلك الخيط المرعب لغزا لأهل بلدتنا، وبعدها بسنوات كنت في الخرطوم ورأيت نفس ذلك الخيط في السماء، وبدأت أهمهم بسورتي الزلزلة والانشقاق، فصاح من كان معي متسائلا عن سر طنطنتي، فأشرت الى السماء بيد مرتجفة، فقال: شنو؟ ماذا؟ فقلت له بصوت مبحوح: هل أنت شايف الخيط الأبيض داك؟ انفجر رفيقي السخيف ضاحكا وشرح لي ان الخيط ينجم عن نفث الدخان من الطائرات «النفاثة»، وقال لي كلاما طويلا عن تكثف البخار. وفي ذلك اليوم أحسست لأول مرة بالانتماء إلى القرن العشرين، ولكن «بالتجنس».
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك