العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وحسبنا أن السماء انشقت

عندما‭ ‬يسرد‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬جيلي‭ ‬ذكريات‭ ‬الطفولة‭ ‬والصبا‭ ‬لعيالهم‭ ‬يحسبهم‭ ‬العيال‭ ‬ديناصورات‭ ‬أفلتت‭ ‬من‭ ‬الانقراض،‭ ‬ولكن‭ ‬نفس‭ ‬هؤلاء‭ ‬العيال‭ ‬يحسدوننا‭ ‬عندما‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬التعليم‭ ‬المجاني‭ ‬وكيف‭ ‬كانت‭ ‬الحكومة‭ ‬تؤوي‭ ‬وتطعم‭ ‬عيال‭ ‬المدارس،‭ ‬بل‭ ‬وتوفر‭ ‬النظارات‭ ‬الطبية‭ ‬لمن‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الإبصار‭.‬

وذات‭ ‬ليلة‭ ‬إثنين‭ (‬وهو‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مخصصا‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬السودان‭ ‬للنشاط‭ ‬الثقافي‭ ‬والأدبي‭ ‬في‭ ‬المدارس‭) ‬كنت‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة،‭ ‬مكلفا‭ ‬بتقديم‭ ‬محاضرة‭ ‬ضمن‭ ‬نشاط‭ ‬الجمعية‭ ‬الادبية‭ ‬عن‭ ‬‮«‬سبل‭ ‬كسب‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬السودان‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مقرر‭ ‬الجغرافيا‭ ‬العتيق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتضمن‭ ‬رحلات‭ ‬الى‭ ‬مختلف‭ ‬أقاليم‭ ‬السودان،‭ ‬لمعرفة‭ ‬كيف‭ ‬يعيش‭ ‬الناس‭ ‬وكيف‭ ‬يكسبون‭ ‬الرزق‭. ‬وانتهت‭ ‬المحاضرة‭ ‬وقدم‭ ‬لي‭ ‬أحد‭ ‬المدرسين‭ ‬جائزة،‭ ‬كانت‭ ‬علبة‭ ‬حسنة‭ ‬الشكل‭ ‬عليها‭ ‬كلام‭ ‬باللغة‭ ‬الانجليزية‭ ‬‮«‬من‭ ‬خارج‭ ‬المقرر‮»‬،‭ ‬واحتفظت‭ ‬بالعلبة‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬فائدتها‭ ‬أو‭ ‬قيمتها،‭ ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬سنتين‭ ‬سافرت‭ ‬بتلك‭ ‬العلبة‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬كوستي‭ ‬لزيارة‭ ‬والدي،‭ ‬وعرضتها‭ ‬على‭ ‬قريب‭ ‬لي‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬ثم‭ ‬جلسنا‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬منعزل‭ ‬وأتينا‭ ‬بسكين‭ ‬ومطرقة‭ ‬وأزلنا‭ ‬غطاءها‭ ‬ووجدنا‭ ‬بداخلها‭ ‬مواد‭ ‬كريهة‭ ‬الرائحة‭ ‬تجوس‭ ‬فيها‭ ‬ديدان‭ ‬صغيرة،‭ ‬وعرفت‭ ‬لاحقا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬علبة‭ ‬كرز‭. ‬وانتهت‭ ‬صلاحيتها،‭ ‬وضاعت‭ ‬عليّ‭ ‬بذلك‭ ‬طفرة‭ ‬طبقية‭ ‬مبكرة،‭ ‬ولم‭ ‬أعرف‭ ‬طعم‭ ‬الكرز‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬نحو‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬نيلي‭ ‬تلك‭ ‬الجائزة‭.‬

ومن‭ ‬مكاسب‭ ‬الطفولة‭ ‬التي‭ ‬نجمت‭ ‬عن‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬مهيأ‭ ‬نفسيا‭ ‬وعقليا‭ ‬لأهوال‭ ‬يوم‭ ‬القيامة،‭ ‬لأنني‭ ‬شهدت‭ ‬جانبا‭ ‬منها،‭ ‬وكانت‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬وأنا‭ ‬تلميذ‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬بدين‭ ‬الابتدائية،‭ ‬وكان‭ ‬الجو‭ ‬شتائيا‭ ‬عندما‭ ‬ظهر‭ ‬سيف‭ ‬أبيض‭ ‬طويل‭ ‬ومتجانس‭ ‬الشكل‭ ‬بعرض‭ ‬السماء،‭ ‬فانفجرت‭ ‬آلاف‭ ‬الحناجر‭ ‬بالعويل‭ ‬والصراخ‭: ‬ويي‭ ‬بيووو‭ ‬وي‭ ‬بيوو‭. ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الصرخة‭ ‬النوبية‭ ‬التي‭ ‬تقابلها‭ ‬باللهجة‭ ‬المصرية‭: ‬يا‭ ‬لهوي‭ ‬يا‭ ‬لهوتيني‭ ‬يا‭ ‬تلات‭ ‬لهويني‭.. ‬يا‭ ‬مصيبتي‭. ‬وكان‭ ‬الأكثر‭ ‬إيمانا‭ ‬يستنجدون‭ ‬بلسان‭ ‬نوبي‭ ‬فصيح‭: ‬وو‭ ‬نور‭ ‬كمبو‭ ‬كقر‭.. ‬يا‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬قوي‭ ‬يا‭ ‬عزيز‭.. ‬ثم‭ ‬بدأ‭ ‬قرع‭ ‬الطبول،‭ ‬استغفر‭ ‬الله‭ ‬كانوا‭ ‬يقرعون‭ ‬آنية‭ ‬الزيت‭ ‬والجاز‭ ‬المعدنية‭ ‬الفارغة،‭ ‬فالطبول‭ ‬ليست‭ ‬عنصرا‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الثقافة‭ ‬الفنية‭ ‬أو‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬النوبة،‭ ‬وبدأ‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬البليلة،‭ ‬من‭ ‬اللوبياء‭ ‬والذرة‭ ‬الشامية،‭ ‬فهذه‭ ‬عادتنا‭ ‬عند‭ ‬كسوف‭ ‬الشمس‭ ‬وخسوف‭ ‬القمر،‭ ‬وبإزاء‭ ‬كل‭ ‬الظواهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬لها‭ ‬تفسيرا‭. ‬ولكن‭ ‬غالبية‭ ‬الناس‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انهيار‭ ‬كامل‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬أدركوا‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يحسنوا‭ ‬الاستعداد‭ ‬ليوم‭ ‬القيامة،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬السماء‭ ‬تنشطر‭ ‬نصفين،‭ ‬وستهوي‭ ‬على‭ ‬رؤوسهم‭ ‬بعد‭ ‬قليل،‭ ‬فاندفع‭ ‬الناس‭ ‬يطلبون‭ ‬الصفح‭ ‬والعفو‭ ‬من‭ ‬أمهاتهم‭ ‬وآبائهم‭ ‬وأقاربهم‭ ‬وجيرانهم،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬سدد‭ ‬دينا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬ظل‭ ‬ينكره‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭. ‬وهرع‭ ‬بعض‭ ‬الحكماء‭ ‬إلى‭ ‬جدي‭ ‬الشيخ‭ ‬حاج‭ ‬فرحان‭ ‬وكان‭ ‬فقيها‭ ‬عالما‭ ‬وقارئا‭ ‬وكاتبا‭ ‬وشاعرا‭ ‬ويقضي‭ ‬معظم‭ ‬ساعات‭ ‬يومه‭ ‬في‭ ‬التأمل‭ ‬والاطلاع،‭ ‬ووجدوه‭ ‬ثابت‭ ‬الجأش‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭: ‬إذا‭ ‬السماء‭ ‬انشقت،‭ ‬وأذنت‭ ‬لربها‭ ‬وحقت،‭ ‬وإذا‭ ‬الأرض‭ ‬مدت،‭ ‬وألقت‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬وتخلت،‭ ‬ولم‭ ‬يعجب‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬يريدون‭ ‬من‭ ‬الشيخ‭ ‬أن‭ ‬يطمئنهم‭ ‬بأن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بقيام‭ ‬الساعة،‭ ‬وصاح‭ ‬أحدهم‭ ‬بما‭ ‬معناه‭: ‬ما‭ ‬هذا‭ ‬يا‭ ‬شيخ؟‭ ‬أتيناك‭ ‬طالبين‭ ‬الطمأنينة‭ ‬فتشق‭ ‬علينا‭ ‬السماء‭ ‬والأرض؟‭ ‬ولكن‭ ‬حاج‭ ‬فرحان‭ ‬واصل‭ ‬تلاوة‭ ‬القرآن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يبدو‭ ‬عليه‭ ‬هلع‭ ‬أو‭ ‬وجل‭.‬

وفجأة‭ ‬لاحظ‭ ‬أحدهم‭ ‬أن‭ ‬السيف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشق‭ ‬السماء‭ ‬صار‭ ‬يخبو،‭ ‬بل‭ ‬اختفت‭ ‬أجزاء‭ ‬منه،‭ ‬منهم‭ ‬المتشائم‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬اختفى‭ ‬من‭ ‬السيف‭ ‬أو‭ ‬الخيط‭ ‬الأبيض‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬سقط‭ ‬على‭ ‬الخرطوم‭ ‬لأن‭ ‬أهلها‭ ‬فاسدون،‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬عندهم‭ ‬دكاكين‭ ‬تبيع‭ ‬الخمر‭ ‬الملون‭ ‬المصنوع‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الخواجات،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬اختفي‭ ‬من‭ ‬الخيط‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬فجوة‭ ‬ستسقط‭ ‬منها‭ ‬النيازك‭ ‬والشهب‭ ‬فيهلك‭ ‬الجميع‭. ‬ولكن‭ ‬الطمأنينة‭ ‬عادت‭ ‬إلى‭ ‬القلوب‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬اختفى‭ ‬السيف‭ ‬الابيض‭ ‬تماما‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬تأتي‭ ‬نفخة‭ ‬الصور‭. ‬وظل‭ ‬أمر‭ ‬ذلك‭ ‬الخيط‭ ‬المرعب‭ ‬لغزا‭ ‬لأهل‭ ‬بلدتنا،‭ ‬وبعدها‭ ‬بسنوات‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬ورأيت‭ ‬نفس‭ ‬ذلك‭ ‬الخيط‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬وبدأت‭ ‬أهمهم‭ ‬بسورتي‭ ‬الزلزلة‭ ‬والانشقاق،‭ ‬فصاح‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬معي‭ ‬متسائلا‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬طنطنتي،‭ ‬فأشرت‭ ‬الى‭ ‬السماء‭ ‬بيد‭ ‬مرتجفة،‭ ‬فقال‭: ‬شنو؟‭ ‬ماذا؟‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬بصوت‭ ‬مبحوح‭: ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬شايف‭ ‬الخيط‭ ‬الأبيض‭ ‬داك؟‭ ‬انفجر‭ ‬رفيقي‭ ‬السخيف‭ ‬ضاحكا‭ ‬وشرح‭ ‬لي‭ ‬ان‭ ‬الخيط‭ ‬ينجم‭ ‬عن‭ ‬نفث‭ ‬الدخان‭ ‬من‭ ‬الطائرات‭ ‬‮«‬النفاثة‮»‬،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬كلاما‭ ‬طويلا‭ ‬عن‭ ‬تكثف‭ ‬البخار‭. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬أحسست‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ولكن‭ ‬‮«‬بالتجنس‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا