زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
شتان ما بين مدرس ومدرس
كلما تذكرت سنوات دراستي في المرحلة الابتدائية، كلما ازددت تعلُّقا ببيت من شعر لمحمود سامي البارودي:
خلقت ألوفا، لو رُدِدت الى الصبا/ لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
بعبارة أخرى، ولو كان ممكنا أن يعود الانسان الى أطوار نشأته الأولى، لكنت أول الرافضين لذلك، فما علق بذهني عن مرحلتي الدراسة الابتدائية والمتوسطة، هو الضرب الموجع الذي أدمى مؤخراتنا، والذي قل ان أفلت أحدنا منا منه مرة في الأسبوع على الأقل. في السنة الثانية لي في مدرسة بدين الأولية ابتلانا الله بمدرس «زُهجي»، و«على الهبشة»، من النوع الذي يتشاجر مع ظله كما نقول في السودان عن الشخص العصبي، وكان غريب الأطوار، يجلس على الكرسي فور دخوله حجرة الدراسة واضعا أمامه عددا من الأحذية القديمة التي كان يقذف بها في وجوهنا كلما أخطأنا في تسميع القرآن أو الإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها الينا، وكان مقرر الدين يقوم أساسا على التلقين الببغاوي الذي هو الحفظ غير المصحوب او المسبوق بالشرح، وكنا ندرس شيئا من «العبادات» ولكن أيضا بطريقة الحفظ غيبا، من دون فهم: الفور والدلك (الوضوء). الطمأنينة والاعتدال (الصلاة). الجهر في محل الجهر والسر في محل السر (الصلاة).. جدعة، بنت لبون (الزكاة)، والأحذية القديمة التي كان مدرسنا سامحه الله يطلقها في وجوهنا، كانت من النوع الذي يلحق بالإنسان عاهات مستديمة لأنها كانت أحذية بلدية من الجلد الذي يصبح يابسا بطول الاستخدام والتعرض للماء، ولم يكن الناس في ذلك الزمان يتخلصون من الحذاء القديم إلا بعد تعذر الحصول على منفذ فيه لمسمار جديد، وهكذا كانت الأحذية الملقاة في الشوارع بعد أن صارت غير صالحة للترقيع «مصفحة»، ويزن النعل وحده نحو كيلو جرام، وتخيل كيلو جراما من المسامير موجها نحو وجهك وعمرك نحو سبع أو ثماني سنوات. هاج ذلك المدرس ذات مرة وكاد ان يمارس بحقنا القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، فقد كان مطلوبا منا ان نحفظ انشودة «طلع البدر علينا»، وفي اليوم المحدد «للتسميع» طلب منا ان نؤديها سويا، فوقف نحو 50 تلميذا من النوبيين مرددين: تلأ البدر ألينا/ من سنيات الوداء/ جئت شرفت المدينة/ مرهبا يا هير داء. لم نفهم سر هيجان المدرس واندفاع الشتائم من فمه كالرصاص: يا أولاد الكلب يا عجم يا بجم. سيد الخلق وشفيعنا يوم القيامة «خير داء»، بسبب عدم وجود حرف/صوت العين في اللغة النوبية نطقنا «طلع البدر علينا» «تلأ البدر ألينا»، وصارت «مرحبا يا خير داع»، «مرهبا يا هير داء» – وحاشا أن نكون نحن النوبيين الذين لا نبدأ عملا جماعيا إلا بأنشودة «الصلاة على النبي» أن نعتبر دواء الأمة ومن أتاها بالشفاء من كل علة، «داء»، بس نعمل إيه في ألسنتنا المربوطة. المهم أن المدرس انهال على الواقفين في الصف الأمامي بالضرب بعد ان طاشت الأحذية القديمة التي كان متسلحا بها بعد أن تعلمنا كيف «نزوغ» منها.. ولم يبق ذلك المدرس طويلا في مدرستنا فقد اختفى في ظروف غريبة، وسمعنا لاحقا انه نقل الى مدرسة في جنوب السودان وأنه قتل على أيدي المتمردين هناك.
وسبحان الله وجدت في المرحلة الثانوية نقيض هذا المدرس الفظ، وكان شخصا هادئا واسمه «الهادي»، وكان يدرسنا الأدب العربي، ولم يكن الهادي يقف على رجليه قط في غرفة الدراسة، بل كان يسحب كرسيا ويجلس عليه فور دخوله الغرفة، ويقدم دروسه بصوت خفيض، ولم يكن يتقيد بالمنهج المحدد بل كان يسرح خارج المقرر ليقول لنا كلاما جميلا عن شعراء وأدباء لم نسمع بمعظمهم. وأستطيع أن أجزم بأنه أستاذنا الهادي هذا لم يكن يعرف اسم طالب واحد في المدرسة، فقد كان صوفيا في محراب الأدب، ورقيقا لا ينطق بكلمة قاسية بحق أحد.
وشتان ما بين مدرس يضرب طلابه بالنعال وآخر يصطحبهم في جولات بديعة في عوالم الشعر والأدب.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك