العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٧٦ - الأربعاء ٠٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

شتان ما بين مدرس ومدرس

كلما‭ ‬تذكرت‭ ‬سنوات‭ ‬دراستي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬كلما‭ ‬ازددت‭ ‬تعلُّقا‭ ‬ببيت‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬لمحمود‭ ‬سامي‭ ‬البارودي‭:‬

خلقت‭ ‬ألوفا،‭ ‬لو‭ ‬رُدِدت‭ ‬الى‭ ‬الصبا‭/ ‬لفارقت‭ ‬شيبي‭ ‬موجع‭ ‬القلب‭ ‬باكيا

بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ممكنا‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬الانسان‭ ‬الى‭ ‬أطوار‭ ‬نشأته‭ ‬الأولى،‭ ‬لكنت‭ ‬أول‭ ‬الرافضين‭ ‬لذلك،‭ ‬فما‭ ‬علق‭ ‬بذهني‭ ‬عن‭ ‬مرحلتي‭ ‬الدراسة‭ ‬الابتدائية‭ ‬والمتوسطة،‭ ‬هو‭ ‬الضرب‭ ‬الموجع‭ ‬الذي‭ ‬أدمى‭ ‬مؤخراتنا،‭ ‬والذي‭ ‬قل‭ ‬ان‭ ‬أفلت‭ ‬أحدنا‭ ‬منا‭ ‬منه‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬على‭ ‬الأقل‭. ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثانية‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬بدين‭ ‬الأولية‭ ‬ابتلانا‭ ‬الله‭ ‬بمدرس‭ ‬‮«‬زُهجي‮»‬،‭ ‬و«على‭ ‬الهبشة‮»‬،‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يتشاجر‭ ‬مع‭ ‬ظله‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬عن‭ ‬الشخص‭ ‬العصبي،‭ ‬وكان‭ ‬غريب‭ ‬الأطوار،‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬فور‭ ‬دخوله‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬واضعا‭ ‬أمامه‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الأحذية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقذف‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬وجوهنا‭ ‬كلما‭ ‬أخطأنا‭ ‬في‭ ‬تسميع‭ ‬القرآن‭ ‬أو‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يوجهها‭ ‬الينا،‭ ‬وكان‭ ‬مقرر‭ ‬الدين‭ ‬يقوم‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬التلقين‭ ‬الببغاوي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الحفظ‭ ‬غير‭ ‬المصحوب‭ ‬او‭ ‬المسبوق‭ ‬بالشرح،‭ ‬وكنا‭ ‬ندرس‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬‮«‬العبادات‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬بطريقة‭ ‬الحفظ‭ ‬غيبا،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬فهم‭: ‬الفور‭ ‬والدلك‭ (‬الوضوء‭). ‬الطمأنينة‭ ‬والاعتدال‭ (‬الصلاة‭). ‬الجهر‭ ‬في‭ ‬محل‭ ‬الجهر‭ ‬والسر‭ ‬في‭ ‬محل‭ ‬السر‭ (‬الصلاة‭).. ‬جدعة،‭ ‬بنت‭ ‬لبون‭ (‬الزكاة‭)‬،‭ ‬والأحذية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مدرسنا‭ ‬سامحه‭ ‬الله‭ ‬يطلقها‭ ‬في‭ ‬وجوهنا،‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يلحق‭ ‬بالإنسان‭ ‬عاهات‭ ‬مستديمة‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬أحذية‭ ‬بلدية‭ ‬من‭ ‬الجلد‭ ‬الذي‭ ‬يصبح‭ ‬يابسا‭ ‬بطول‭ ‬الاستخدام‭ ‬والتعرض‭ ‬للماء،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬يتخلصون‭ ‬من‭ ‬الحذاء‭ ‬القديم‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تعذر‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬منفذ‭ ‬فيه‭ ‬لمسمار‭ ‬جديد،‭ ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬الأحذية‭ ‬الملقاة‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صارت‭ ‬غير‭ ‬صالحة‭ ‬للترقيع‭ ‬‮«‬مصفحة‮»‬،‭ ‬ويزن‭ ‬النعل‭ ‬وحده‭ ‬نحو‭ ‬كيلو‭ ‬جرام،‭ ‬وتخيل‭ ‬كيلو‭ ‬جراما‭ ‬من‭ ‬المسامير‭ ‬موجها‭ ‬نحو‭ ‬وجهك‭ ‬وعمرك‭ ‬نحو‭ ‬سبع‭ ‬أو‭ ‬ثماني‭ ‬سنوات‭. ‬هاج‭ ‬ذلك‭ ‬المدرس‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬وكاد‭ ‬ان‭ ‬يمارس‭ ‬بحقنا‭ ‬القتل‭ ‬العمد‭ ‬مع‭ ‬سبق‭ ‬الإصرار‭ ‬والترصد،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬مطلوبا‭ ‬منا‭ ‬ان‭ ‬نحفظ‭ ‬انشودة‭ ‬‮«‬طلع‭ ‬البدر‭ ‬علينا‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬المحدد‭ ‬‮«‬للتسميع‮»‬‭ ‬طلب‭ ‬منا‭ ‬ان‭ ‬نؤديها‭ ‬سويا،‭ ‬فوقف‭ ‬نحو‭ ‬50‭ ‬تلميذا‭ ‬من‭ ‬النوبيين‭ ‬مرددين‭: ‬تلأ‭ ‬البدر‭ ‬ألينا‭/ ‬من‭ ‬سنيات‭ ‬الوداء‭/ ‬جئت‭ ‬شرفت‭ ‬المدينة‭/ ‬مرهبا‭ ‬يا‭ ‬هير‭ ‬داء‭. ‬لم‭ ‬نفهم‭ ‬سر‭ ‬هيجان‭ ‬المدرس‭ ‬واندفاع‭ ‬الشتائم‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬كالرصاص‭: ‬يا‭ ‬أولاد‭ ‬الكلب‭ ‬يا‭ ‬عجم‭ ‬يا‭ ‬بجم‭. ‬سيد‭ ‬الخلق‭ ‬وشفيعنا‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬‮«‬خير‭ ‬داء‮»‬،‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬حرف‭/‬صوت‭ ‬العين‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬نطقنا‭ ‬‮«‬طلع‭ ‬البدر‭ ‬علينا‮»‬‭ ‬‮«‬تلأ‭ ‬البدر‭ ‬ألينا‮»‬،‭ ‬وصارت‭ ‬‮«‬مرحبا‭ ‬يا‭ ‬خير‭ ‬داع‮»‬،‭ ‬‮«‬مرهبا‭ ‬يا‭ ‬هير‭ ‬داء‮»‬‭ ‬–‭ ‬وحاشا‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬نحن‭ ‬النوبيين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬نبدأ‭ ‬عملا‭ ‬جماعيا‭ ‬إلا‭ ‬بأنشودة‭ ‬‮«‬الصلاة‭ ‬على‭ ‬النبي‮»‬‭ ‬أن‭ ‬نعتبر‭ ‬دواء‭ ‬الأمة‭ ‬ومن‭ ‬أتاها‭ ‬بالشفاء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬علة،‭ ‬‮«‬داء‮»‬،‭ ‬بس‭ ‬نعمل‭ ‬إيه‭ ‬في‭ ‬ألسنتنا‭ ‬المربوطة‭. ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬المدرس‭ ‬انهال‭ ‬على‭ ‬الواقفين‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأمامي‭ ‬بالضرب‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬طاشت‭ ‬الأحذية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬متسلحا‭ ‬بها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعلمنا‭ ‬كيف‭ ‬‮«‬نزوغ‮»‬‭ ‬منها‭.. ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬ذلك‭ ‬المدرس‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬مدرستنا‭ ‬فقد‭ ‬اختفى‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬غريبة،‭ ‬وسمعنا‭ ‬لاحقا‭ ‬انه‭ ‬نقل‭ ‬الى‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬وأنه‭ ‬قتل‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬المتمردين‭ ‬هناك‭. ‬

وسبحان‭ ‬الله‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬نقيض‭ ‬هذا‭ ‬المدرس‭ ‬الفظ،‭ ‬وكان‭ ‬شخصا‭ ‬هادئا‭ ‬واسمه‭ ‬‮«‬الهادي‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يدرسنا‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الهادي‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬رجليه‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬الدراسة،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يسحب‭ ‬كرسيا‭ ‬ويجلس‭ ‬عليه‭ ‬فور‭ ‬دخوله‭ ‬الغرفة،‭ ‬ويقدم‭ ‬دروسه‭ ‬بصوت‭ ‬خفيض،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يتقيد‭ ‬بالمنهج‭ ‬المحدد‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يسرح‭ ‬خارج‭ ‬المقرر‭ ‬ليقول‭ ‬لنا‭ ‬كلاما‭ ‬جميلا‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬وأدباء‭ ‬لم‭ ‬نسمع‭ ‬بمعظمهم‭. ‬وأستطيع‭ ‬أن‭ ‬أجزم‭ ‬بأنه‭ ‬أستاذنا‭ ‬الهادي‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬اسم‭ ‬طالب‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬صوفيا‭ ‬في‭ ‬محراب‭ ‬الأدب،‭ ‬ورقيقا‭ ‬لا‭ ‬ينطق‭ ‬بكلمة‭ ‬قاسية‭ ‬بحق‭ ‬أحد‭.‬

وشتان‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مدرس‭ ‬يضرب‭ ‬طلابه‭ ‬بالنعال‭ ‬وآخر‭ ‬يصطحبهم‭ ‬في‭ ‬جولات‭ ‬بديعة‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬الشعر‭ ‬والأدب‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا