زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
معاركنا مع اللغة العربية
ما زلت امتطي خيل الذكريات، عائدا الى جذوري، لأن شهر الصوم الفضيل فيها كان بنكهة مميزة، لم أجدها في أي مكان داخل السودان أو خارجه، فلرمضان في كل بلد ميسم خاص ومذاق خاص، ولهذا يحرص كل مسلم على استقبال الضيف في بلده وهو بين أهله، ولكن المقادير أتت بي إلى منطقة الخليج، فلم يعد من سبيل إلى الجذور، وهي عندي جزيرة بدين النهرية في شمال السودان، سوى النهل من سنام الذاكرة
كنت كنوبي شديد النفور من اللغة العربية، خاصة وأننا كنا نتعرض لعقاب بدني قاس إذا ضبطنا المعلمون ونحن نتكلم بالنوبية، وفي المرحلة المتوسطة انتبه احد المدرسين الى ان مستوى إلمامي باللغة الإنجليزية أفضل بكثير من مستوى إلمامي بالعربية، وأهداني ديواني الخمائل والجداول لإيليا أبو ماضي وبسبب التكرار الذي يعلم الحمار حفظت قصائد الديوانين، وركبني الغرور وقلت لنفسي: أنت مش أقل من إيليا والمتنبي، فلماذا لا تبدأ بالشعر الغنائي، وجاءني شيطان الشعر أثناء درس في اللغة العربية، فانتزعت ورقة من الكراسة وكتبت فيها استهلال أخطر قصيدة غزلية في الشعر المعاصر، وفجأة وجدت مدرس اللغة العربية وكان طوله نحو مترين، وعرضه متر و74 سنتيمترا، وسمكه متران إلا ربع، يقف الى جانبي ثم ينتزع الورقة من يدي وبعدها بثوان هوى بيده على قفاي: طاخ: ما هذا يا حمار؟ هذه حصة للدارسة وليس للمسخرة يا ابن ال........ (ونسب أبي الى نوع من الحيوانات الأليفة المشهود لها بالوفاء). كان مطلع القصيدة المجهضة (وقد أشرت إليها عشرات المرات في مقالاتي) يقول: من نارك يا جافي *** أنا طالب المطافي، حبيب تنهش النيران قلبه بسبب هجر المحبوب، فاضطر الى الاستنجاد بسيارة إطفاء، وفي هذا مزج بين المعاصرة والأصالة
وعانيت مثل كثيرين من الطلاب النوبيين من عدم إجادة لغة التخاطب اليومية (العامية) السائدة في السودان، وما زلت أذكر يوم وقف أحد زملائي في حجرة الدراسة رافعا يده ليقول للمدرس: ممكن تشرهي (تشرحي) المسألة مرّة تاني؟ فصاح المدرس: أنا أرجل منك ومن أبوك يا عجم يا بجم، فأراد الطالب أن يكحلها: آسف، بس، انت ليه زالانة (زعلانة)؟ فانفجر المدرس ضاحكا: أنا ما زالانة.. أنا فرهانة (فرحانة) لأني عندي تلميذ فصيح بهدلني وبهدل اللغة.
كما في معظم أنحاء السودان، كان التعليم في منطقتنا يبدأ بالخلوة، وهذا اسم يطلق في السودان على اي مركز لتحفيظ القرآن وتعليم مبادئ القراءة والكتابة خارج إطار التعليم النظامي، وكان لي عم يلقب بموسوليني رائدا في مجال الجمع ما بين الخلوة والروضة الحديثة، وكان يدرس الصغار مبادئ القراءة والكتابة والحساب. ولكن بدون كراسات، فقد كان على كل طفل أن يمسح التراب الذي أمامه ويجعله متساوي التضاريس ليكتب بأصابعه عليه، وكان موسوليني يستعين احيانا بصبية نابهين ليساعدوه في شؤون التدريس، وكان أحد اولئك المعاونين متغطرسا ويبحث عن أية ذريعة لضرب التلاميذ، وذات يوم قال لهم اكتبوا كلمة أسد فكتب أحدهم كلمة عسل، وبداهة فقد نال ضربة، والمعلم الصغير يقول: أسد يكتبوه كده يا هُمارة، (حمار تصير في النوبية «همار» وبما أن النوبية ليس فيها تذكير وتأنيث فإن حمار تصبح «همارة»)، ومسح صاحبنا رقعة الأرض التي أمام التلميذ الذي لا يميز بين الأسد والعسل، ليريه كيف تكتب الكلمة على النحو الصحيح. وفوجئ الصغار به وهو يصرخ من الألم!! وما حدث هو أن ذلك التلميذ الشقي كان قد قرر ان يعاقب المعلم الصغير على غطرسته، فأتى بشرك (فخ) صيد الطيور ودفنه أمامه، بعد ان ربطه بخيط الى خاصرته، وتعمد كتابة كلمة «أسد» خطأ، وهكذا انطبق الشرك بقوة على يد المعلم الصغير وهو يمسح التراب الذي دُفن فيه الشرك، فكان صراخه، ولم يكن من سبيل امام الطفل الشقي سوى الهرب، ولكن الشرك الذي كان مربوطا بسرواله كان مطبقا بإحكام على يد المعلم، فلم يجد الطفل مناصا من أن يقول: ما بدهاش، وأن يهرب تاركا سرواله معلقا في يد المعلم مع الشرك.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك