العدد : ١٧٣٣٧ - الأربعاء ١٠ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٨ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٧ - الأربعاء ١٠ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٨ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

معاركنا مع اللغة العربية

ما‭ ‬زلت‭ ‬امتطي‭ ‬خيل‭ ‬الذكريات،‭ ‬عائدا‭ ‬الى‭ ‬جذوري،‭ ‬لأن‭ ‬شهر‭ ‬الصوم‭ ‬الفضيل‭ ‬فيها‭ ‬كان‭ ‬بنكهة‭ ‬مميزة،‭ ‬لم‭ ‬أجدها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬داخل‭ ‬السودان‭ ‬أو‭ ‬خارجه،‭ ‬فلرمضان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬ميسم‭ ‬خاص‭ ‬ومذاق‭ ‬خاص،‭ ‬ولهذا‭ ‬يحرص‭ ‬كل‭ ‬مسلم‭ ‬على‭ ‬استقبال‭ ‬الضيف‭ ‬في‭ ‬بلده‭ ‬وهو‭ ‬بين‭ ‬أهله،‭ ‬ولكن‭ ‬المقادير‭ ‬أتت‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬الجذور،‭ ‬وهي‭ ‬عندي‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬النهرية‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬سوى‭ ‬النهل‭ ‬من‭ ‬سنام‭ ‬الذاكرة‭ ‬

كنت‭ ‬كنوبي‭ ‬شديد‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬خاصة‭ ‬وأننا‭ ‬كنا‭ ‬نتعرض‭ ‬لعقاب‭ ‬بدني‭ ‬قاس‭ ‬إذا‭ ‬ضبطنا‭ ‬المعلمون‭ ‬ونحن‭ ‬نتكلم‭ ‬بالنوبية،‭ ‬وفي‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬انتبه‭ ‬احد‭ ‬المدرسين‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬مستوى‭ ‬إلمامي‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أفضل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬إلمامي‭ ‬بالعربية،‭ ‬وأهداني‭ ‬ديواني‭ ‬الخمائل‭ ‬والجداول‭ ‬لإيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬وبسبب‭ ‬التكرار‭ ‬الذي‭ ‬يعلم‭ ‬الحمار‭ ‬حفظت‭ ‬قصائد‭ ‬الديوانين،‭ ‬وركبني‭ ‬الغرور‭ ‬وقلت‭ ‬لنفسي‭: ‬أنت‭ ‬مش‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬إيليا‭ ‬والمتنبي،‭ ‬فلماذا‭ ‬لا‭ ‬تبدأ‭ ‬بالشعر‭ ‬الغنائي،‭ ‬وجاءني‭ ‬شيطان‭ ‬الشعر‭ ‬أثناء‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فانتزعت‭ ‬ورقة‭ ‬من‭ ‬الكراسة‭ ‬وكتبت‭ ‬فيها‭ ‬استهلال‭ ‬أخطر‭ ‬قصيدة‭ ‬غزلية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬المعاصر،‭ ‬وفجأة‭ ‬وجدت‭ ‬مدرس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وكان‭ ‬طوله‭ ‬نحو‭ ‬مترين،‭ ‬وعرضه‭ ‬متر‭ ‬و74‭ ‬سنتيمترا،‭ ‬وسمكه‭ ‬متران‭ ‬إلا‭ ‬ربع،‭ ‬يقف‭ ‬الى‭ ‬جانبي‭ ‬ثم‭ ‬ينتزع‭ ‬الورقة‭ ‬من‭ ‬يدي‭ ‬وبعدها‭ ‬بثوان‭ ‬هوى‭ ‬بيده‭ ‬على‭ ‬قفاي‭: ‬طاخ‭: ‬ما‭ ‬هذا‭ ‬يا‭ ‬حمار؟‭ ‬هذه‭ ‬حصة‭ ‬للدارسة‭ ‬وليس‭ ‬للمسخرة‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬ال‭........ (‬ونسب‭ ‬أبي‭ ‬الى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحيوانات‭ ‬الأليفة‭ ‬المشهود‭ ‬لها‭ ‬بالوفاء‭). ‬كان‭ ‬مطلع‭ ‬القصيدة‭ ‬المجهضة‭ (‬وقد‭ ‬أشرت‭ ‬إليها‭ ‬عشرات‭ ‬المرات‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭) ‬يقول‭: ‬من‭ ‬نارك‭ ‬يا‭ ‬جافي‭ ‬***‭ ‬أنا‭ ‬طالب‭ ‬المطافي،‭ ‬حبيب‭ ‬تنهش‭ ‬النيران‭ ‬قلبه‭ ‬بسبب‭ ‬هجر‭ ‬المحبوب،‭ ‬فاضطر‭ ‬الى‭ ‬الاستنجاد‭ ‬بسيارة‭ ‬إطفاء،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬مزج‭ ‬بين‭ ‬المعاصرة‭ ‬والأصالة

وعانيت‭ ‬مثل‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬النوبيين‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬إجادة‭ ‬لغة‭ ‬التخاطب‭ ‬اليومية‭ (‬العامية‭) ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أذكر‭ ‬يوم‭ ‬وقف‭ ‬أحد‭ ‬زملائي‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬رافعا‭ ‬يده‭ ‬ليقول‭ ‬للمدرس‭: ‬ممكن‭ ‬تشرهي‭ (‬تشرحي‭) ‬المسألة‭ ‬مرّة‭ ‬تاني؟‭ ‬فصاح‭ ‬المدرس‭: ‬أنا‭ ‬أرجل‭ ‬منك‭ ‬ومن‭ ‬أبوك‭ ‬يا‭ ‬عجم‭ ‬يا‭ ‬بجم،‭ ‬فأراد‭ ‬الطالب‭ ‬أن‭ ‬يكحلها‭: ‬آسف،‭ ‬بس،‭ ‬انت‭ ‬ليه‭ ‬زالانة‭ (‬زعلانة‭)‬؟‭ ‬فانفجر‭ ‬المدرس‭ ‬ضاحكا‭: ‬أنا‭ ‬ما‭ ‬زالانة‭.. ‬أنا‭ ‬فرهانة‭ (‬فرحانة‭) ‬لأني‭ ‬عندي‭ ‬تلميذ‭ ‬فصيح‭ ‬بهدلني‭ ‬وبهدل‭ ‬اللغة‭.‬

كما‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬أنحاء‭ ‬السودان،‭ ‬كان‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬يبدأ‭ ‬بالخلوة،‭ ‬وهذا‭ ‬اسم‭ ‬يطلق‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬على‭ ‬اي‭ ‬مركز‭ ‬لتحفيظ‭ ‬القرآن‭ ‬وتعليم‭ ‬مبادئ‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬التعليم‭ ‬النظامي،‭ ‬وكان‭ ‬لي‭ ‬عم‭ ‬يلقب‭ ‬بموسوليني‭ ‬رائدا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الجمع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الخلوة‭ ‬والروضة‭ ‬الحديثة،‭ ‬وكان‭ ‬يدرس‭ ‬الصغار‭ ‬مبادئ‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬والحساب‭. ‬ولكن‭ ‬بدون‭ ‬كراسات،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬طفل‭ ‬أن‭ ‬يمسح‭ ‬التراب‭ ‬الذي‭ ‬أمامه‭ ‬ويجعله‭ ‬متساوي‭ ‬التضاريس‭ ‬ليكتب‭ ‬بأصابعه‭ ‬عليه،‭ ‬وكان‭ ‬موسوليني‭ ‬يستعين‭ ‬احيانا‭ ‬بصبية‭ ‬نابهين‭ ‬ليساعدوه‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬التدريس،‭ ‬وكان‭ ‬أحد‭ ‬اولئك‭ ‬المعاونين‭ ‬متغطرسا‭ ‬ويبحث‭ ‬عن‭ ‬أية‭ ‬ذريعة‭ ‬لضرب‭ ‬التلاميذ،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬قال‭ ‬لهم‭ ‬اكتبوا‭ ‬كلمة‭ ‬أسد‭ ‬فكتب‭ ‬أحدهم‭ ‬كلمة‭ ‬عسل،‭ ‬وبداهة‭ ‬فقد‭ ‬نال‭ ‬ضربة،‭ ‬والمعلم‭ ‬الصغير‭ ‬يقول‭: ‬أسد‭ ‬يكتبوه‭ ‬كده‭ ‬يا‭ ‬هُمارة،‭ (‬حمار‭ ‬تصير‭ ‬في‭ ‬النوبية‭ ‬‮«‬همار‮»‬‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬النوبية‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬تذكير‭ ‬وتأنيث‭ ‬فإن‭ ‬حمار‭ ‬تصبح‭ ‬‮«‬همارة‮»‬‭)‬،‭  ‬ومسح‭ ‬صاحبنا‭ ‬رقعة‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬أمام‭ ‬التلميذ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬الأسد‭ ‬والعسل،‭ ‬ليريه‭ ‬كيف‭ ‬تكتب‭ ‬الكلمة‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الصحيح‭. ‬وفوجئ‭ ‬الصغار‭ ‬به‭ ‬وهو‭ ‬يصرخ‭ ‬من‭ ‬الألم‭!! ‬وما‭ ‬حدث‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬التلميذ‭ ‬الشقي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قرر‭ ‬ان‭ ‬يعاقب‭ ‬المعلم‭ ‬الصغير‭ ‬على‭ ‬غطرسته،‭ ‬فأتى‭ ‬بشرك‭ (‬فخ‭) ‬صيد‭ ‬الطيور‭ ‬ودفنه‭ ‬أمامه،‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬ربطه‭ ‬بخيط‭ ‬الى‭ ‬خاصرته،‭ ‬وتعمد‭ ‬كتابة‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬أسد‮»‬‭ ‬خطأ،‭ ‬وهكذا‭ ‬انطبق‭ ‬الشرك‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬المعلم‭ ‬الصغير‭ ‬وهو‭ ‬يمسح‭ ‬التراب‭ ‬الذي‭ ‬دُفن‭ ‬فيه‭ ‬الشرك،‭ ‬فكان‭ ‬صراخه،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬امام‭ ‬الطفل‭ ‬الشقي‭ ‬سوى‭ ‬الهرب،‭ ‬ولكن‭ ‬الشرك‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مربوطا‭ ‬بسرواله‭ ‬كان‭ ‬مطبقا‭ ‬بإحكام‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬المعلم،‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬الطفل‭ ‬مناصا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقول‭: ‬ما‭ ‬بدهاش،‭ ‬وأن‭ ‬يهرب‭ ‬تاركا‭ ‬سرواله‭ ‬معلقا‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬المعلم‭ ‬مع‭ ‬الشرك‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا