العدد : ١٧١٤٦ - الاثنين ٠٣ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ رمضان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٤٦ - الاثنين ٠٣ مارس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ رمضان ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

البقاء خارج قوانين الصمود!

{ لا‭ ‬شيء‭ ‬يشبه‭ ‬غزة‭ ‬اليوم،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يشبه‭ ‬شعبها‭! ‬وحيث‭ ‬غريزة‭ ‬البقاء‭ ‬تتضافر‭ ‬مع‭ ‬التشبث‭ ‬بالأرض‭ ‬والوقوف‭ ‬بإرادة‭ ‬من‭ ‬الخيال‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬التهجير،‭ ‬خارج‭ ‬قوانين‭ ‬الصمود‭ ‬التي‭ ‬نعرفها،‭ ‬وخارج‭ ‬المنطق‭ ‬والمستحيل‭! ‬نشاهد‭ ‬معا‭ ‬المشهد‭ ‬السريالي‭ ‬الداخل‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الأسطورة،‭ ‬حيث‭ ‬الرياح‭ ‬الصقيعية‭ ‬الباردة،‭ ‬تعصف‭ ‬بالخيام‭ ‬المهترئة‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬البحر‭ ‬الممتد‭ ‬بهدير‭ ‬أمواجه‭ ‬العالية،‭ ‬ولكأن‭ ‬اهتراء‭ ‬الخيام‭ ‬على‭ ‬ضفته‭ ‬يتحدى‭ ‬عملاقاً‭ ‬أسطوريا،‭ ‬والأطفال‭ ‬يناوشون‭ ‬الأرض‭ ‬بإصرار‭ ‬وسط‭ ‬المستنقعات‭ ‬وركام‭ ‬المنازل‭ ‬والتدمير‭ ‬الهائل‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬فهنا‭ ‬لا‭ ‬أسس‭ ‬منطقية‭ ‬للمشهد‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬للمعيشة‭ ‬الآدمية‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬وسائلها،‭ ‬فيما‭ ‬التهديد‭ ‬يلاحق‭ ‬عذاباتهم‭ ‬اللامتناهية‭ ‬باستمرار‭ ‬القتال‭ ‬والقتل‭!‬

{ هنا‭ ‬والمفاوضات‭ ‬جارية‭ ‬ومتوقفة‭ ‬معاً،‭ ‬يقف‭ ‬الخجل‭ ‬نفسه‭ ‬ذائباً‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬أمام‭ ‬بشر‭ ‬من‭ ‬أطفال‭ ‬ونساء‭ ‬ورجال‭ ‬وكأنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬مثل‭ ‬باقي‭ ‬البشر‭! ‬هم‭ ‬خارج‭ ‬القوانين‭ ‬حتى‭ ‬قوانين‭ ‬الطبيعة‭ ‬نفسها‭ ‬ببردها‭ ‬القارص،‭ ‬فنتساءل‭ ‬كيف‭ ‬بإمكان‭ ‬هؤلاء‭ ‬أن‭ ‬يصمدوا‭ ‬هكذا،‭ ‬وغطاؤهم‭ ‬الخيام‭ ‬الممزقة‭ ‬فقط‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬غذاء‭ ‬يلبي‭ ‬احتياجاتهم،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬مصارف‭ ‬صحية،‭ ‬وماء‭ ‬للشرب‭ ‬والاستحمام‭ ‬وقضاء‭ ‬الحاجات‭ ‬البيولوجية‭ ‬الطبيعية؟‭!‬

*كيف‭ ‬تصمد‭ ‬النساء‭ ‬الحوامل‭ ‬والأطفال‭ ‬الرضع‭ ‬وكبار‭ ‬السن‭ ‬والمرضى،‭ ‬والوحل‭ ‬والدمار‭ ‬وحتى‭ ‬ركام‭ ‬الأشلاء‭ ‬والمدافن‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬يبحثون‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬أطراف‭ ‬أقاربهم‭ ‬وأبنائهم‭ ‬وأمهاتهم‭ ‬تحيط‭ ‬بهم،‭ ‬وحيث‭ ‬يجتمع‭ ‬رماد‭ ‬الموت‭ ‬مع‭ ‬غريزة‭ ‬البقاء‭ ‬لمن‭ ‬يفعل‭ ‬المستحيل‭ ‬لكي‭ ‬يبقى‭ ‬تحت‭ ‬أنقاض‭ ‬الحجر‭ ‬وليس‭ ‬البيوت‭! ‬فلا‭ ‬بيوت‭ ‬هنا،‭ ‬وإنما‭ ‬حجارة‭ ‬وشظايا‭ ‬وقاذورات‭ ‬ومستنقعات،‭ ‬وخيام‭ ‬ممزقة‭ ‬تقف‭ ‬مهلهلة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬رياح‭ ‬البر‭ ‬والبحر‭ ‬الشاسع‭ ‬الذي‭ ‬تستلقي‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬أحضانه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دفء،‭ ‬فيما‭ ‬تتلاعب‭ ‬أمواج‭ ‬البحر‭ ‬الهائجة‭ ‬بابتسامات‭ ‬الطفولة‭ ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬طفولتها‭ ‬في‭ ‬براثن‭ ‬الحرب‭ ‬والإبادة‭ ‬والتطهير‭ ‬العرقي،‭ ‬ولكأن‭ ‬المشهد‭ ‬برمته‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬كائن‭ ‬يعبث‭ ‬بما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬إنسانية‭ ‬تتحدى‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬حتى‭ ‬دمار‭ ‬الضمير‭ ‬الدولي،‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬الخيال‭!‬

{ ‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬ركام‭ ‬المدن‭ ‬يتم‭ ‬تبادل‭ ‬الأسرى،‭ ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬تتعطل‭ ‬مفاوضات‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية،‭ ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬ثالث‭ ‬تجتهد‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬إيقاف‭ ‬مخيلة‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬بتهجير‭ ‬المواطنين‭ ‬في‭ ‬غزة‭! ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬رابع‭ ‬يقف‭ ‬الوحش‭ ‬الخارج‭ ‬من‭ ‬خرافات‭ ‬التاريخ‭ ‬مهددا‭ ‬بمواصلة‭ ‬الإبادة‭! ‬فيما‭ ‬المشهد‭ ‬المروع‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬سابقاً،‭ ‬يُجلي‭ ‬بوضوح‭ ‬مرأى‭ ‬أطفال‭ ‬ورجال‭ ‬ونساء‭ ‬يبحثون‭ ‬في‭ ‬الركام‭ ‬الهائل‭ ‬عن‭ ‬قطعة‭ ‬خشب‭ ‬أو‭ ‬خرق‭ ‬ممزقة‭ ‬أو‭ ‬أوانٍ‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬مستكينة،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬بيوتهم‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬غزّة‭! ‬ها‭ ‬هم‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬قد‭ ‬ينفع‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شيء‭!‬

{ ها‭ ‬هنا‭ ‬البحر‭ ‬الهائج‭ ‬برياحه‭ ‬الباردة،‭ ‬بل‭ ‬الشديدة‭ ‬البرودة،‭ ‬يداعب‭ ‬الخراب‭ ‬الممتد‭ ‬أمامه،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬يوماً‭ ‬بيوتا‭ ‬وشوارع‭ ‬وملاعب‭ ‬ومطاعم‭ ‬ومدارس‭ ‬ومستشفيات،‭ ‬وكأنه‭ ‬بدوره‭ ‬يعلن‭ ‬للعالم‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬ويتشبثون‭ ‬بالأرض‭ ‬خارج‭ ‬أي‭ ‬منطق‭ ‬يستحقون‭ ‬الحياة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرهم،‭ ‬لأنهم‭ ‬يعطون‭ ‬درساً‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬الحياة‭ ‬ومعنى‭ ‬الإيمان‭ ‬والوطن‭ ‬ومعجزة‭ ‬البقاء‭! ‬وهم‭ ‬بعيدون‭ ‬بُعد‭ ‬السماء‭ ‬عن‭ ‬ترف‭ ‬العالم‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يراقب‭ ‬صمودهم،‭ ‬فيشعر‭ ‬المراقبون‭ ‬أنهم‭ ‬يراقبون‭ ‬بشراً‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬آخر،‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬إلا‭ ‬الإيمان‭ ‬فقط،‭ ‬وغريزة‭ ‬البقاء‭! ‬فيما‭ ‬هم‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬دفء‭ ‬بيوتهم‭ ‬وتوافر‭ ‬احتياجاتهم‭ ‬ووسائل‭ ‬معيشتهم،‭ ‬يتبرمون‭ ‬ويشتكون‭ ‬ويعانون‭ ‬من‭ ‬أحوال‭ ‬نفسية‭ ‬أقلها‭ ‬الاكتئاب‭! ‬فيدركون‭ ‬أنهم‭ ‬من‭ ‬معدن‭ ‬صدئ‭ ‬هش‭ ‬أمام‭ ‬هؤلاء‭ ‬المكتوون‭ ‬بآثار‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة،‭ ‬يعانقون‭ ‬قسوة‭ ‬رياح‭ ‬البحر‭ ‬والبرد‭ ‬وسط‭ ‬الدمار،‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬لديهم‭ ‬شيء‭... ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬باقون‭ ‬وصامدون،‭ ‬معدنهم‭ ‬ذهب‭ ‬أو‭ ‬ألماس،‭ ‬كلما‭ ‬زاد‭ ‬احتراقاً‭ ‬زاد‭ ‬ندرة،‭ ‬والحمد‭ ‬لله‭ ‬لا‭ ‬تفارق‭ ‬ألسنتهم‭ ‬بابتسامة‭ ‬جريحة‭ ‬تقول‭ ‬للآخرين‭ ‬المتفرجين،‭ ‬والقتلة‭ ‬السفاحين‭ ‬الذين‭ ‬يعبثون‭ ‬بهم‭ ‬وبأرضهم‭: (‬نحن‭ ‬هنا‭ ‬باقون‭) ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭!‬

{ من‭ ‬هؤلاء؟‭! ‬وكيف‭ ‬يعيشون؟‭! ‬أي‭ ‬طاقة‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬التحمل‭ ‬يملكونها؟‭! ‬أي‭ ‬يقين‭ ‬أسطوري‭ ‬يبقيهم‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬آلامهم‭ ‬وأوجاعهم‭ ‬ومكابداتهم‭ ‬وأحزانهم‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬فقدوا‭ ‬وما‭ ‬فقدوا؟‭! ‬بأي‭ ‬إرادة‭ ‬يواجهون‭ ‬الذئب‭ ‬الصهيوني‭ ‬وهو‭ ‬يهدد‭ ‬باستمرار‭ ‬القتال‭ ‬رغم‭ ‬استمرار‭ ‬المفاوضات‭! ‬ونحن‭ ‬نسأل‭ ‬أي‭ ‬قتال‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬ومع‭ ‬من؟‭! ‬أمع‭ ‬أطفال‭ ‬شردهم‭ ‬الجوع‭ ‬ونساء‭ ‬يأكلهم‭ ‬القهر‭ ‬ويصبرون،‭ ‬ورجال‭ ‬يدقون‭ ‬مساميرهم‭ ‬الصدئة‭ ‬في‭ ‬أخشاب‭ ‬خيامهم‭ ‬المهترئة‭ ‬علها‭ ‬تصمد‭ ‬معهم‭ ‬وبهم‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الرياح؟‭!‬

{ هل‭ ‬بقي‭ ‬شيء‭ ‬ليتم‭ ‬تدميره‭ ‬بعد،‭ ‬أو‭ ‬كائنات‭ ‬لكي‭ ‬يتم‭ ‬قتلها؟‭!‬

ألم‭ ‬تكتف‭ ‬الوحوش‭ ‬الدموية‭ ‬من‭ ‬إبادة‭ (‬60‭ ‬ألفا‭) ‬أغلبهم‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال؟‭! ‬ألم‭ ‬تشبع‭ ‬شهية‭ ‬القتل‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬عددهم؟‭! ‬متى‭ ‬يتحرك‭ ‬العالم‭ ‬لإيقاف‭ ‬هذه‭ ‬الوحوش‭ ‬الدموية‭ ‬المتكئة‭ ‬على‭ ‬خرافات‭ ‬التاريخ‭ ‬وزيف‭ ‬الأساطير‭ ‬والمرويات؟‭!‬

{ يا‭ ‬لهول‭ ‬ما‭ ‬يحدث،‭ ‬ويا‭ ‬لخجل‭ ‬أرواحنا‭ ‬وهي‭ ‬تراقب‭ ‬عذابات‭ ‬شعب‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬العالم،‭ ‬رغم‭ ‬فداحة‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬يتفرج‭ ‬على‭ ‬محنته‭! ‬بل‭ ‬ويستمع‭ ‬لفذلكة‭ ‬أحدهم‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ (‬غزة‭ ‬ريفييرا‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تستقطب‭ ‬أثرياء‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬بعد‭ ‬تهجير‭ ‬شعبها‭)! ‬ولكأن‭ ‬هذا‭ ‬الرئيس‭ ‬التاجر‭ ‬ومعه‭ ‬وجوه‭ ‬المتطرفين‭ ‬في‭ ‬الكيان،‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬أي‭ ‬معجزة‭ ‬يجترحها‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬لمجرد‭ ‬البقاء‭! ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬أرضهم‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الخراب‭! ‬فهل‭ ‬يفهم‭ ‬هؤلاء‭ ‬أي‭ ‬شعب‭ ‬يواجهون؟‭! ‬ألا‭ ‬يخجل‭ ‬هؤلاء‭ ‬من‭ ‬أنفسهم‭ ‬ووحشيتهم‭ ‬وفذلكتهم‭ ‬ولو‭ ‬قليلاً؟‭! ‬أي‭ ‬عالم‭ ‬نعيش؟‭! ‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا