عالم يتغير

فوزية رشيد
البقاء خارج قوانين الصمود!
{ لا شيء يشبه غزة اليوم، ولا أحد يشبه شعبها! وحيث غريزة البقاء تتضافر مع التشبث بالأرض والوقوف بإرادة من الخيال في وجه التهجير، خارج قوانين الصمود التي نعرفها، وخارج المنطق والمستحيل! نشاهد معا المشهد السريالي الداخل في فضاء الأسطورة، حيث الرياح الصقيعية الباردة، تعصف بالخيام المهترئة على شاطئ البحر الممتد بهدير أمواجه العالية، ولكأن اهتراء الخيام على ضفته يتحدى عملاقاً أسطوريا، والأطفال يناوشون الأرض بإصرار وسط المستنقعات وركام المنازل والتدمير الهائل الذي لحق بكل شيء، فهنا لا أسس منطقية للمشهد ولا حتى للمعيشة الآدمية في أبسط وسائلها، فيما التهديد يلاحق عذاباتهم اللامتناهية باستمرار القتال والقتل!
{ هنا والمفاوضات جارية ومتوقفة معاً، يقف الخجل نفسه ذائباً في نفسه، أمام بشر من أطفال ونساء ورجال وكأنهم ليسوا مثل باقي البشر! هم خارج القوانين حتى قوانين الطبيعة نفسها ببردها القارص، فنتساءل كيف بإمكان هؤلاء أن يصمدوا هكذا، وغطاؤهم الخيام الممزقة فقط ومن دون غذاء يلبي احتياجاتهم، ومن دون مصارف صحية، وماء للشرب والاستحمام وقضاء الحاجات البيولوجية الطبيعية؟!
*كيف تصمد النساء الحوامل والأطفال الرضع وكبار السن والمرضى، والوحل والدمار وحتى ركام الأشلاء والمدافن الجماعية التي يبحثون فيها عن أطراف أقاربهم وأبنائهم وأمهاتهم تحيط بهم، وحيث يجتمع رماد الموت مع غريزة البقاء لمن يفعل المستحيل لكي يبقى تحت أنقاض الحجر وليس البيوت! فلا بيوت هنا، وإنما حجارة وشظايا وقاذورات ومستنقعات، وخيام ممزقة تقف مهلهلة في وجه رياح البر والبحر الشاسع الذي تستلقي غزة في أحضانه من دون دفء، فيما تتلاعب أمواج البحر الهائجة بابتسامات الطفولة التي فقدت طفولتها في براثن الحرب والإبادة والتطهير العرقي، ولكأن المشهد برمته قادم من خيال كائن يعبث بما تبقى من إنسانية تتحدى كل شيء، حتى دمار الضمير الدولي، بما هو أقرب مرة أخرى إلى الخيال!
{ في مكان من ركام المدن يتم تبادل الأسرى، وفي مكان آخر تتعطل مفاوضات المرحلة الثانية، وفي مكان ثالث تجتهد بعض الدول في إيقاف مخيلة الرئيس الأمريكي بتهجير المواطنين في غزة! وفي مكان رابع يقف الوحش الخارج من خرافات التاريخ مهددا بمواصلة الإبادة! فيما المشهد المروع على أنقاض ما تم سابقاً، يُجلي بوضوح مرأى أطفال ورجال ونساء يبحثون في الركام الهائل عن قطعة خشب أو خرق ممزقة أو أوانٍ كانت في يوم ما مستكينة، فيما كان يسمى بيوتهم على أرض غزّة! ها هم يبحثون عن أي شيء قد ينفع في أي شيء!
{ ها هنا البحر الهائج برياحه الباردة، بل الشديدة البرودة، يداعب الخراب الممتد أمامه، وقد كان يوماً بيوتا وشوارع وملاعب ومطاعم ومدارس ومستشفيات، وكأنه بدوره يعلن للعالم أن هؤلاء الذين يعيشون ويتشبثون بالأرض خارج أي منطق يستحقون الحياة أكثر من غيرهم، لأنهم يعطون درساً في معنى الحياة ومعنى الإيمان والوطن ومعجزة البقاء! وهم بعيدون بُعد السماء عن ترف العالم الآخر الذي يراقب صمودهم، فيشعر المراقبون أنهم يراقبون بشراً من عالم آخر، لا يملكون إلا الإيمان فقط، وغريزة البقاء! فيما هم يعيشون في دفء بيوتهم وتوافر احتياجاتهم ووسائل معيشتهم، يتبرمون ويشتكون ويعانون من أحوال نفسية أقلها الاكتئاب! فيدركون أنهم من معدن صدئ هش أمام هؤلاء المكتوون بآثار حرب الإبادة، يعانقون قسوة رياح البحر والبرد وسط الدمار، ولا يوجد لديهم شيء... أي شيء، ومع ذلك باقون وصامدون، معدنهم ذهب أو ألماس، كلما زاد احتراقاً زاد ندرة، والحمد لله لا تفارق ألسنتهم بابتسامة جريحة تقول للآخرين المتفرجين، والقتلة السفاحين الذين يعبثون بهم وبأرضهم: (نحن هنا باقون) ورغم كل شيء!
{ من هؤلاء؟! وكيف يعيشون؟! أي طاقة وقدرة على التحمل يملكونها؟! أي يقين أسطوري يبقيهم على قيد الحياة رغم كل آلامهم وأوجاعهم ومكابداتهم وأحزانهم على من فقدوا وما فقدوا؟! بأي إرادة يواجهون الذئب الصهيوني وهو يهدد باستمرار القتال رغم استمرار المفاوضات! ونحن نسأل أي قتال بعد كل هذا ومع من؟! أمع أطفال شردهم الجوع ونساء يأكلهم القهر ويصبرون، ورجال يدقون مساميرهم الصدئة في أخشاب خيامهم المهترئة علها تصمد معهم وبهم في وجه الرياح؟!
{ هل بقي شيء ليتم تدميره بعد، أو كائنات لكي يتم قتلها؟!
ألم تكتف الوحوش الدموية من إبادة (60 ألفا) أغلبهم من النساء والأطفال؟! ألم تشبع شهية القتل من الذين تحت الأنقاض ولا أحد يعرف عددهم؟! متى يتحرك العالم لإيقاف هذه الوحوش الدموية المتكئة على خرافات التاريخ وزيف الأساطير والمرويات؟!
{ يا لهول ما يحدث، ويا لخجل أرواحنا وهي تراقب عذابات شعب لا يزال العالم، رغم فداحة ما حدث، يتفرج على محنته! بل ويستمع لفذلكة أحدهم بأن يجعل (غزة ريفييرا الشرق الأوسط التي سوف تستقطب أثرياء العالم من كل مكان بعد تهجير شعبها)! ولكأن هذا الرئيس التاجر ومعه وجوه المتطرفين في الكيان، لا يدركون أي معجزة يجترحها أهل غزة لمجرد البقاء! البقاء في أرضهم رغم كل الخراب! فهل يفهم هؤلاء أي شعب يواجهون؟! ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم ووحشيتهم وفذلكتهم ولو قليلاً؟! أي عالم نعيش؟!
إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك