العدد : ١٧١٠٣ - الأحد ١٩ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٠٣ - الأحد ١٩ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ رجب ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ورقة من ملف جدي (2)

لم‭ ‬أحظ‭ ‬برؤية‭ ‬جدي‭ ‬وجدتي‭ ‬لأبي،‭ ‬أي‭ ‬أنهما‭ ‬توفيا‭ ‬قبل‭ ‬مولدي،‭ ‬ولكن‭ ‬بلغني‭ ‬أن‭ ‬جدتي‭ ‬تلك‭ ‬كانت‭ ‬قوية‭ ‬الشخصية،‭ ‬وذات‭ ‬كلمة‭ ‬نافذة‭ ‬في‭ ‬عائلتها،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬جدي‭ ‬‮«‬سبهلليا‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬أعني‭ ‬أن‭ ‬سيرته‭ ‬تشي‭ ‬بأنه‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬ضارب‭ ‬الدنيا‭ ‬صرمة‮»‬،‭ ‬والصرمة‭ ‬هي‭ ‬الحذاء‭ ‬القديم،‭ ‬وقد‭ ‬توفي‭ -‬رحمه‭ ‬الله‭- ‬وترك‭ ‬لورثته‭ ‬12‭ ‬حمارا‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الفاخر،‭ ‬وقطعة‭ ‬أرض‭ ‬لا‭ ‬ينبت‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬الصبار،‭ ‬الذي‭ ‬يشتق‭ ‬اسمه‭ ‬من‭ ‬الصبر‭ ‬على‭ ‬الجفاف‭ ‬وفقر‭ ‬التربة‭. ‬وكان‭ ‬يملك‭ ‬مساحات‭ ‬شاسعة‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬الخصبة،‭ ‬ولكنه‭ ‬كلما‭ ‬رأى‭ ‬حمارا‭ ‬قوي‭ ‬البنية‭ ‬رشيق‭ ‬الحركة‭ ‬عرض‭ ‬على‭ ‬صاحبه‭ ‬قطعة‭ ‬أرض‭ ‬مقابل‭ ‬الحمار،‭ ‬وهكذا‭ ‬ضاعت‭ ‬أراضيه‭ ‬الصالحة‭ ‬للزراعة‭ ‬بسبب‭ ‬حبه‭ ‬الشديد‭ ‬للحمير‭. ‬وللناس‭ ‬فيما‭ ‬يعشقون‭ ‬مذاهب،‭ ‬وخذ‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أنني‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬الخيل‭ ‬ركوبة‭ ‬السلاطين‭ ‬والحمير‭ ‬والجمال‭ ‬ركوبة‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭.‬

والقارئ‭ ‬قد‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬رجل‭ ‬استبدل‭ ‬الأرض‭ ‬الزراعية‭ ‬بحمير،‭ ‬وقد‭ ‬يعتبره‭ ‬غبيا‭ ‬لأننا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬صارت‭ ‬فيه‭ ‬قيمة‭ ‬خمسمائة‭ ‬متر‭ ‬مربع‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬الجرداء‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬سيارة‭ ‬رولز‭ ‬رويس‭. ‬ولكن‭ ‬جدّي‭ ‬وجدّك‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬عاشوا‭ ‬حياتهم‭ ‬بالطول‭ ‬والعرض‭. ‬حياة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الهموم‭ ‬والوساوس‭. ‬لم‭ ‬يتلوثوا‭ ‬بالكولا‭ ‬أو‭ ‬الشامبو‭ ‬أو‭ ‬الآيس‭ ‬كريم‭. ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬يملك‭ ‬أطنانا‭ ‬من‭ ‬الأموال‭ ‬لما‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬بنك‭ (‬حتى‭ ‬بافتراض‭ ‬أنه‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬بنوك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭) ‬بل‭ ‬رتب‭ ‬طريقة‭ ‬للتخلص‭ ‬منها‭ ‬بما‭ ‬يجلب‭ ‬السعادة‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬أسرته‭ ‬وجيرانه‭. ‬

جدّي‭ ‬لأمي‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬أرضا‭ ‬خصبة‭ ‬تسقيها‭ ‬مضخات‭ ‬ميكانيكية،‭ ‬ومنذ‭ ‬وفاة‭ ‬خالي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بالزراعة‭ ‬فيها‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬صارت‭ ‬تدار‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عائلة‭ ‬كانت‭ ‬تساعده‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الحقل،‭ ‬ويدخل‭ ‬عائدها‭ ‬كاملا‭ ‬في‭ ‬جيبها‭ (‬جيب‭ ‬تلك‭ ‬العائلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تربطنا‭ ‬بها‭ ‬أي‭ ‬صلة‭ ‬قرابة‭ ‬أو‭ ‬نسب‭). ‬لم‭ ‬يناقش‭ ‬الورثة‭ ‬أمر‭ ‬تلك‭ ‬الأرض‭ ‬ولم‭ ‬يفكروا‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬انتزاعها‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬العائلة،‭ ‬وتأجيرها‭ ‬لشخص‭ ‬بموجب‭ ‬شروط‭ ‬واضحة‭ ‬لتقاسم‭ ‬عائدات‭ ‬المحاصيل‭ ‬المزروعة‭ ‬فيها‭. ‬والسرّ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأرض‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬مازالت‭ ‬تعرف‭ ‬‮«‬العيب‮»‬‭ ‬وتحترم‭ ‬العشرة‭ ‬وحق‭ ‬الجوار‭. ‬وطالما‭ ‬تلك‭ ‬العائلة‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬الأرض‭ ‬ونتاجها‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬الوارد‭ ‬ان‭ ‬نطالبها‭ ‬نحن‭ ‬الورثة‭ ‬بتركها‭ ‬لنا‭ ‬لنتصرف‭ ‬فيها‭ ‬بما‭ ‬يعود‭ ‬علينا‭ ‬بالمنفعة‭ ‬المادية،‭ ‬ونحن‭ ‬قد‭ ‬هاجرنا‭ ‬إلى‭ ‬مختلف‭ ‬الأصقاع‭ ‬داخل‭ ‬وخارج‭ ‬السودان‭. ‬يعني‭ ‬الروح‭ ‬القروية‭ ‬فينا‭ ‬مازالت‭ ‬تعرف‭ ‬‮«‬الأصول‮»‬‭. ‬ولدينا‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬تلك‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬مساحته‭ ‬عن‭ ‬3000‭ ‬متر‭ ‬مربع‭ ‬ولكنه‭ ‬ظل‭ ‬مهجورا‭ ‬نحو‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‭ ‬لأن‭ ‬عائلتنا‭ ‬انتقلت‭ ‬الى‭ ‬أواسط‭ ‬السودان‭. ‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬اهل‭ ‬البلدة‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬موافقتنا‭ ‬للاستفادة‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬فقد‭ ‬جعلوه‭ ‬حينا‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬سكنا‭ ‬لطالبات‭ ‬مدرسة‭ ‬مجاورة‭. ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬اليه‭ ‬العامل‭ ‬المكلف‭ ‬برش‭ ‬البرك‭ ‬والمستنقعات‭ ‬بالمبيدات‭ ‬لمكافحة‭ ‬الناموس‭ ‬ودودة‭ ‬البلهارسيا،‭ ‬ويمتلئ‭ ‬البيت‭ ‬ويفرغ‭ ‬كل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬حسبما‭ ‬يرى‭ ‬جيراننا‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1988‭ ‬شهد‭ ‬السودان‭ ‬أمطارا‭ ‬غزيرة‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬دمار‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المدن‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬اتصل‭ ‬بي‭ ‬أحد‭ ‬أقاربي‭ ‬وقال‭ ‬ان‭ ‬بيتي‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬فرغت‭ ‬من‭ ‬تشييده‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬مدينة‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬احتلاله‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عائلات‭ ‬تهدمت‭ ‬بيوتها‭ ‬بسبب‭ ‬الأمطار‭ ‬والسيول‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬‮«‬توكيلا‭ ‬شرعيا‮»‬،‭ ‬كي‭ ‬يتولى‭ ‬طردهم‭ ‬مستعينا‭ ‬بالشرطة‭. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬ولماذا‭ ‬نطردهم‭ ‬طالما‭ ‬ان‭ ‬البيت‭ ‬أصلا‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬السكان‭ ‬وتلك‭ ‬العائلات‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬مأوى‭ ‬الى‭ ‬حين‭ ‬انجلاء‭ ‬البلاء؟‭ ‬كان‭ ‬رده‭: ‬انت‭ ‬غبي؟‭ ‬تقصد‭ ‬ان‭ ‬نجعلهم‭ ‬يقيمون‭ ‬فيه‭ ‬دون‭ ‬دفع‭ ‬‮«‬الإيجار»؟‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬يرد‭ ‬عليه‭ ‬هو‭ ‬جعفر‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬البلد‮»‬،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬طالما‭ ‬انهم‭ ‬لن‭ ‬يحملوا‭ ‬البيت‭ ‬معهم‭ ‬عند‭ ‬إخلائه‭ ‬فاتركهم‭ ‬حيث‭ ‬هم‭. ‬

ولكنه‭ ‬استعان‭ ‬بمعارفه‭ ‬من‭ ‬الشرطة‭ ‬وطردهم‭ ‬من‭ ‬البيت‭. ‬ونكاية‭ ‬به‭ ‬أسكنت‭ ‬فيه‭ ‬صديقا‭ ‬لي‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬البطالة‭ ‬بلا‭ ‬مقابل‭. ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬ان‭ ‬قريبي‭ ‬لم‭ ‬يستنكر‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬قال‭: ‬المهم‭ ‬أننا‭ ‬أخرجنا‭ ‬منه‭ ‬الأوباش‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا