العدد : ١٧١٠١ - الجمعة ١٧ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٧ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٠١ - الجمعة ١٧ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٧ رجب ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ورقة من ملف جدي (1)

السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يؤرقني‭: ‬هل‭ ‬عيالي‭ ‬راضون‭ ‬عني؟‭ ‬فكما‭ ‬أنهم‭ ‬مطالبون‭ ‬بالفوز‭ ‬برضاي‭ ‬كأب،‭ ‬فإنني‭ ‬مطالب‭ ‬بالفوز‭ ‬برضاهم‭ ‬كأبناء‭ ‬وبنات‭. ‬ولكنني‭ ‬عندما‭ ‬أقَلِّب‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬وجوهه‭ ‬أعطي‭ ‬نفسي‭ ‬تقدير‭ ‬‮«‬جيد‮»‬‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬علاقتي‭ ‬بعيالي،‭ ‬بحسبان‭ ‬أنني‭ ‬حزت‭ ‬حبهم‭ ‬وتقديرهم‭ ‬بدرجة‭ ‬أن‭ ‬أربعتهم‭ ‬ينادونني‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الجعافر‮»‬‭.‬

كان‭ ‬أبي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬يتقبل‭ ‬مداعبات‭ ‬ومناكفات‭ ‬عياله‭ ‬بروح‭ ‬طيبة،‭ ‬ولكنه‭ ‬مثل‭ ‬أبناء‭ ‬جيله‭ ‬كان‭ ‬صارما‭ ‬في‭ ‬الأشياء‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالسلوك‭ ‬والآداب‭ ‬العامة‭. ‬لم‭ ‬يضربني‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬سوى‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬وكانت‭ ‬ضربة‭ ‬واحدة‭ ‬‮«‬مستحقة‮»‬‭ ‬لأنني‭ ‬عصيت‭ ‬له‭ ‬أمرا‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬استخدام‭ ‬يده‭ ‬لتأديبنا‭ ‬لأن‭ ‬صرخة‭ ‬أو‭ ‬نظرة‭ ‬واحدة‭ ‬منه‭ ‬كانت‭ ‬كفيلة‭ ‬بإصابتنا‭ ‬بالهلوسة‭ ‬لأسبوع‭ ‬كامل‭. ‬كنت‭ ‬أقوم‭ ‬بانسحاب‭ ‬تكتيكي‭ ‬من‭ ‬أمامه‭ ‬إذا‭ ‬رأيت‭ ‬شاربه‭ ‬يهتز،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬اهتزازه‭ ‬دليل‭ ‬انفجار‭ ‬بركاني‭ ‬وشيك‭ ‬غير‭ ‬محمود‭ ‬العواقب‭. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يسمح‭ ‬لنوبات‭ ‬غضبه‭ ‬ان‭ ‬تمتد‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬دقائق‭ ‬معدودة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإذا‭ ‬‮«‬زوغت‮»‬‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬غضبه‭ ‬فإنك‭ ‬تفلت‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المساءلة،‭ ‬ولأن‭ ‬الزوغان‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نتفادى‭ ‬إغضابه‭ ‬ونيل‭ ‬رضاه‭ ‬حتى‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬أعمار‭ ‬الشقاوة‭ ‬والعفرتة‭ ‬الصبيانية‭.‬

ذات‭ ‬مرة‭ ‬استجمعت‭ ‬شجاعتي‭ ‬وسألته‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يعمل‭ ‬بالزراعة‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬أهل‭ ‬بلدتنا‭ (‬بدين‭) ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬ولماذا‭ ‬هاجر‭ ‬مع‭ ‬إخوته‭ (‬أعمامي‭) ‬الى‭ ‬مدن‭ ‬السودان‭ ‬الكبرى‭ ‬للعمل؟‭ ‬وأدرك‭ ‬والدي‭ ‬ان‭ ‬سؤالي‭ ‬‮«‬خبيث‮»‬،‭ ‬فأجاب‭: ‬مش‭ ‬شغلك‭.. ‬هذا‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬يخصك‭.. ‬فطرحت‭ ‬السؤال‭ ‬بصيغة‭ ‬أخرى‭: ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬لنا‭ ‬أبوك‭ (‬أي‭ ‬جدي‭) ‬سوى‭ ‬قطعة‭ ‬أرض‭ ‬غير‭ ‬صالحة‭ ‬للزراعة‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬نيلية‭ ‬كل‭ ‬سنتيمتر‭ ‬فيها‭ ‬يتمتع‭ ‬بالخصوبة‭ (‬ما‭ ‬عدا‭ ‬أرضه‭). ‬ضحك‭ ‬وسألني‭: ‬طالما‭ ‬أنك‭ ‬تعرف‭ ‬ان‭ ‬والدي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬جدك‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬أرضا‭ ‬صالحة‭ ‬للزراعة‭ ‬فكيف‭ ‬تتوقع‭ ‬مني‭ ‬وإخوتي‭ ‬ان‭ ‬نعمل‭ ‬بالزراعة؟‭ ‬هنا‭ ‬سألته‭: ‬طيب‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬جدي‭ ‬يشتري‭ ‬أرضا‭ ‬بائسة‭ ‬مشبعة‭ ‬بالأملاح‭ ‬ولا‭ ‬تصلح‭ ‬حتى‭ ‬مقبرة‭ ‬للنفايات‭ ‬النووية‭! ‬ابتسم‭ ‬والدي‭ ‬ابتسامة‭ ‬عريضة‭ ‬وقال‭: ‬جدك‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬ارستقراطي‭ ‬المزاج‭ ‬ويحب‭ ‬اقتناء‭ ‬الأشياء‭ ‬الجميلة‭. ‬وكانت‭ ‬لديه‭ ‬أراض‭ ‬شاسعة‭ ‬المساحة‭ ‬وعالية‭ ‬الخصوبة،‭ ‬ولكنه‭ ‬باع‭ ‬او‭ ‬بالأحرى‭ ‬قايض‭ ‬معظمها‭ ‬بحمير‭! ‬صحت‭: ‬بلاش‭ ‬هزار‭. ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يهزر‭ (‬يهذر‭) ‬بل‭ ‬واصل‭ ‬الحديث‭: ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬مغرما‭ ‬بالحمير،‭ ‬وكلما‭ ‬رأى‭ ‬حمارا‭ ‬عالي‭ ‬اللياقة‭ ‬البدنية‭ ‬ورشيق‭ ‬الحركة‭ ‬سعى‭ ‬لامتلاكه،‭ ‬ولعدم‭ ‬توافر‭ ‬سيولة‭ ‬نقدية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬كان‭ ‬يعطي‭ ‬أصحاب‭ ‬الحمير‭ ‬التي‭ ‬يشتريها‭ ‬مساحات‭ ‬متفق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الأراضي،‭ ‬فلم‭ ‬تبق‭ ‬من‭ ‬أراضيه‭ ‬سوى‭ ‬القطعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬للزارعة‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الناس‭ ‬أغبياء‭ ‬حتى‭ ‬يعطوه‭ ‬حميرهم‭ ‬مقابل‭ ‬قطعة‭ ‬أرض‭ ‬جرداء‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الجرب‭ ‬والجدب‭ ‬المزمن‭. ‬وبمرور‭ ‬الزمن‭ ‬عرفت‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬جدي،‭ ‬وصرت‭ ‬فخورا‭ ‬بكونه‭ ‬كان‭ ‬يملك‭ ‬اسطولا‭ ‬من‭ ‬الحمير‭ ‬ذات‭ ‬الدفع‭ ‬الرباعي،‭ ‬وبكونه‭ ‬توفي‭ ‬تاركا‭ ‬لورثته‭ ‬12‭ ‬حمارا‭ ‬من‭ ‬الجنسين‭. ‬ففي‭ ‬بلدتنا‭ ‬الزراعية‭ ‬كان‭ ‬امتلاك‭ ‬حمار‭ ‬يعادل‭ ‬امتلاك‭ ‬جرار‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمان،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬حمير‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬القيافة‭ ‬والأناقة‭ ‬لا‭ ‬تستخدم‭ ‬إلا‭ ‬كأدوات‭ ‬مواصلات‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشبعانين‭ ‬أي‭ ‬الأغنياء‭. ‬يعني‭ ‬قل‭ ‬بي‭ ‬إم‭ ‬دبليو‭ ‬بمقاييس‭ ‬العصر‭ ‬الراهن،‭ ‬وكان‭ ‬جدي‭ ‬يتولى‭ ‬بنفسه‭ ‬قص‭ ‬شعر‭ ‬كل‭ ‬حمار‭ ‬بطريقة‭ ‬هندسية‭ ‬فيكون‭ ‬الشعر‭ ‬كثيفا‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬السرج‭ ‬ومتدرجا‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الذيل،‭ ‬وبين‭ ‬بين‭ ‬في‭ ‬أجزاء‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬البطن‭ ‬والظهر‭. ‬ولم‭ ‬يحافظ‭ ‬أبي‭ ‬وأعمامي‭ ‬على‭ ‬الثروة‭ ‬الحميرية‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬جدي‭ ‬بل‭ ‬باعوا‭ ‬الحمير‭ ‬واستخدموا‭ ‬عائد‭ ‬البيع‭ ‬للسفر‭ ‬جنوبا‭ ‬الى‭ ‬الخرطوم‭ ‬ووسط‭ ‬السودان‭ ‬او‭ ‬شمالا‭ ‬الى‭ ‬مصر‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬جدي‭ ‬‮«‬استعراضيا‭ ‬ومتعنطزا‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬غبيا،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬لا‭ ‬يشيل‭ ‬هم‭ ‬الغد‭ ‬لأن‭ ‬الأمور‭ ‬كانت‭ ‬مستقرة‭: ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يموت‭ ‬جوعا‭ ‬او‭ ‬بالتخمة‭. ‬مستويات‭ ‬المعيشة‭ ‬متقاربة‭ ‬وليس‭ ‬ثمة‭ ‬هلع‭ ‬وجزع‭ ‬عن‭ ‬‮«‬تدني‭ ‬الرصيد‭ ‬المصرفي‭ ‬وهبوط‭ ‬الاسهم‭ ‬وتذبذب‭ ‬سعر‭ ‬الدولار‮»‬‭. ‬عاش‭ ‬جيله‭ ‬مستمتعا‭ ‬براحة‭ ‬البال‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نعد‭ ‬نحن‭ ‬نعرف‭ ‬لها‭ ‬طعما‭ ‬أو‭ ‬معنى‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا