العدد : ١٧٠٨٠ - الجمعة ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٠ - الجمعة ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن «خصخصة» التعليم

لأنني‭ ‬مقتنع‭ ‬بأن‭ ‬50‭% ‬من‭ ‬العملية‭ ‬التعليمية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬فقد‭ ‬حرصت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬المدرس‭ ‬الخصوصي‭ ‬لعيالي،‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬تعليمهم‭ ‬المتأخرة‭ ‬والمتقدمة،‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التدريس‭ ‬لم‭ ‬أمارس‭ ‬ولم‭ ‬يمارس‭ ‬غيري‭ ‬من‭ ‬الزملاء‭ ‬التدريس‭ ‬الخصوصي،‭ (‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمادة‭ ‬الرياضيات‭ ‬جعلت‭ ‬عيالي‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ ‬العون‭ ‬الذاتي‭ ‬لأنني‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الرياضية‭ ‬الخاصة‭).‬

في‭ ‬عاصمة‭ ‬خليجية‭ ‬مثل‭ ‬مدرس‭ ‬أمام‭ ‬القضاء‭ ‬لعدم‭ ‬‮«‬وفائه‮»‬‭ ‬بالتزاماته،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬صاحبنا‭ ‬يعطي‭ ‬الدروس‭ ‬الخصوصية‭ ‬بالكربون،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يجمع‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬ويعطيهم‭ ‬الدروس‭ ‬بالجملة‭ ‬ويحاسبهم‭ ‬بسعر‭ ‬الجملة‭. ‬تأتيه‭ ‬المجموعة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬مدرسته،‭ ‬ويدفع‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬مائة ***** عن‭ ‬الساعة‭ ‬ويخرجون،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالتدريس‭ ‬والتعلُّم‭ ‬والتعليم‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الدروس‭ ‬الخصوصية‭ ‬للمجموعات‭ ‬ليست‭ ‬‮«‬خصوصية‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬الدروس‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬بينما‭ ‬التدريس‭ ‬الذي‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬طرفين،‭ ‬يرغم‭ ‬الطالب‭ ‬على‭ ‬التركيز‭ ‬ويجعل‭ ‬المدرس‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬تقصي‭ ‬مدى‭ ‬استيعاب‭ ‬الطالب‭ ‬للدرس‭.. ‬وشعر‭ ‬صاحبنا‭ ‬مع‭ ‬قرب‭ ‬موعد‭ ‬الامتحانات‭ ‬أن‭ ‬أولياء‭ ‬أمور‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬دفعوا‭ ‬له‭ ‬الشيء‭ ‬الفلاني،‭ ‬سيكتشفون‭ ‬أنه‭ ‬مدرس‭ ‬‮«‬أي‭ ‬كلام‮»‬،‭ ‬بمجرد‭ ‬ظهور‭ ‬النتائج‭ ‬وهكذا‭ ‬قال‭ ‬للطلاب‭: ‬‮«‬ولا‭ ‬يهمكم‭.. ‬سأعطي‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منكم‭ ‬من‭ ‬الدرجات‭ ‬ما‭ ‬يكفل‭ ‬له‭ ‬النجاح‭ ‬المشرف‭ ‬نظير‭ ‬عمولة‭ ‬إضافية‮»‬،‭ ‬وظهرت‭ ‬نتائج‭ ‬الامتحانات،‮ ‬واتضح‭ ‬أنه‭ ‬نسي‭ ‬أمر‭ ‬بعض‭ ‬الطلاب،‭ ‬فرسبوا‭ ‬في‭ ‬كذا‭ ‬مادة‭.. ‬مسكين‭.. ‬يتذكر‭ ‬مين‭ ‬ويخلي‭ ‬مين؟‭.. ‬في‭ ‬مصر‭ ‬عندما‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬الفيلم‭ ‬بايخ‭ ‬يصيح‭ ‬الجمهور‭ ‬‮«‬سيما‭ ‬أونطة‭ ‬هاتو‭ ‬فلوسنا‮»‬‭ ‬ويبدأون‭ ‬في‭ ‬تكسير‭ ‬المقاعد‭ ‬فترد‭ ‬لهم‭ ‬إدارة‭ ‬السينما‭ ‬قيمة‭ ‬التذاكر‭. ‬وفعل‭ ‬الطلاب‭ ‬الراسبون‭ ‬نفس‭ ‬الشيء‭. ‬طنطنوا‭ ‬ونقنقوا‭ ‬وتفشى‭ ‬الخبر،‭ ‬وانكشف‭ ‬الأمر‭ ‬واتضح‭ ‬أمر‭ ‬طلاب‭ ‬نالوا‭ ‬درجات‭ ‬لا‭ ‬يستحقونها،‭ ‬بينما‭ ‬غيرهم‭ ‬وآخرون‭ ‬دفع‭ ‬قيمة‭ ‬الدرجات‭ ‬الموعودة‭ ‬ولم‭ ‬يحصل‭ ‬عليها‭.‬

في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬الخرطوم‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬محاضر‭ ‬مصري‭ ‬متمكن‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬الأدب‭ ‬المقارن،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يدرسها‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬دائم‭ ‬التحليق‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬الأدب،‭ ‬ويستمتع‭ ‬الطلاب‭ ‬باستدراجه‭ ‬للخوض‭ ‬في‭ ‬مواضيع‭ ‬فكرية‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالمناهج‭ ‬العقيمة،‭ ‬وكان‭ ‬بالتالي‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬استدراجه‭ ‬أيضا‭ ‬للإفصاح‭ ‬عن‭ ‬محتوى‭ ‬الامتحان‭ ‬الذي‭ ‬أعده‭ ‬هو‭ ‬لطلابه‭: ‬‮«‬ما‭ ‬تشيلوش‭ ‬هم‭. ‬يعني‭ ‬تركزوا‭ ‬على‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‮»‬‭. ‬وبالفعل‭ ‬يكون‭ ‬الامتحان‭ ‬حول‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭. ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬ظل‭ ‬يسرح‭ ‬بالطلاب‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬الأدب‭ ‬والفكر،‭ ‬ومع‭ ‬اقتراب‭ ‬الامتحانات‭ ‬جرت‭ ‬عملية‭ ‬الاستدراج،‭ ‬وركز‭ ‬الطلاب‭ ‬على‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يجدوا‭ ‬لها‭ ‬أثرا‭ ‬في‭ ‬الامتحان‭ ‬فجاءوه‭ ‬محتجين فقال‭ ‬بكل‭ ‬عفوية‭: ‬‮«‬يخرب‭.. ‬باين‭ ‬اديتكو‭ ‬أسئلة‭ ‬الملاحق‭ (‬الدور‭ ‬الثاني‭)‬‮»‬‭. ‬وطبعا‭ ‬رسب‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عوَّل‭ ‬على‭ ‬كذا‭ ‬وكذا،‭ ‬ولكنهم‭ ‬نجحوا‭ ‬في‭ ‬امتحانات‭ ‬الملاحق‭ ‬بغير‭ ‬جدارة‭. ‬

بمعايير‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬يعد‭ ‬جيل‭ ‬المدرسين‭ ‬الذي‭ ‬أنتمي‭ ‬إليه‭ ‬قمة‭ ‬في‭ ‬العباطة،‭ ‬لأننا‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬المراحل‭ ‬كنا‭ ‬نأتي‭ ‬بالطلاب‭ ‬في‭ ‬الأمسيات‭ ‬إلى‭ ‬المدارس‭ ‬ونراجع‭ ‬معهم‭ ‬الدروس‭ ‬يوما‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬بلا‭ ‬مقابل‭ ‬لتحضيرهم‭ ‬للامتحانات‭. ‬واليوم‭ ‬ألتقي‭ ‬مدرسين‭ ‬في‭ ‬العشرينات‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬العمر‭ ‬البايولوجي،‭ ‬ولكن‭ ‬أشكالهم‭ ‬توحي‭ ‬بأنهم‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬التقاعد،‭ ‬والسر‭: ‬الدروس‭ ‬الخصوصية‭. ‬يتنقل‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬نحو‭ ‬8‭ ‬ساعات،‭ ‬فوق‭ ‬ساعات‭ ‬العمل‭ ‬الرسمي‭! ‬ولا‭ ‬اعتراض‭ ‬على‭ ‬الدروس‭ ‬الخصوصية،‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العيال‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مدرس‭ ‬خصوصي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المواد‭ ‬تقريبا،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬المراحل‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الجامعية،‮ ‬فمعنى‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬القضية‭ ‬التعليمية‭ ‬عندنا‭ ‬بايظة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المستويات،‭ ‬والطامة‭ ‬الأخرى‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الطلب‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬الدروس‭ ‬الخصوصية‭ ‬جعل‭ ‬التدريس‭ ‬مهنة‭ ‬جاذبة فدخلها‭ ‬كثيرون‭ ‬مكانهم‭ ‬الطبيعي‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة وفي‭ ‬ظل‭ ‬اختلال‭ ‬معايير‭ ‬التعليم،‭ ‬تجد‭ ‬عائلات‭ ‬مشغولة‭ ‬لأسابيع‭ ‬استعدادا‭ ‬لحفل‭ ‬تخرج‭ ‬طفل‭ ‬أكمل‭ ‬‮«‬الروضة‮»‬‭. ‬حسرة‭ ‬علينا‭: ‬تخرجت‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وعدت‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬وكان‭ ‬العشاء‭ ‬خبز‭ ‬سكند‭ ‬هاند‭ ‬بملوخية‭ ‬من‭ ‬بواقي‭ ‬وجبة‭ ‬الغداء‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا