عالم يتغير
فوزية رشيد
من عدالة الأرض إلى عدالة السماء!
{ كلنا نعرف أن العدالة في الأرض تبقى دائما منقوصة أو غير متحققة بل هي اليوم تكاد تكون منعدمة! لأن العدالة الأرضية محكومة ومرتهنة بتدافع الأمم والأفراد وبتضارب المصالح وبالقوى المتنافسة وبمتغيرات القيم والأخلاق، وبالمنظور المادّي ورؤية العالم في إطار الفلسفة المادّية الطاغية عادة، مما يجعل من الرؤى الإنسانية والأخلاقية والقيم تتراجع عبر التاريخ واليوم أكثر من أي وقت مضى، أمام هدير المصالح الأنانية لبعض القوى المهيمنة في العالم، مثلما تخضع للمصالح الضيقة للأفراد وبدوافع أنانية أيضًا مثل الغيرة والحسد والتنافسية المريضة في ظل هيمنة «نظام التفاهة» حاليًا على العالم كله! وحيث يتسيّد «التافهون» مجالات مختلفة في المجتمعات بما يجعل منهم في ذات وقت تسيدهم كارهين للكفاءات العالية، والنماذج العلمية المتفوقة والمتميزة، والأكثر قيمة وثقافة وعمقًا بما يدفع الأقل كفاءة وهو في منصبه أيًا كان رسميًا أو في القطاعات الخاصة الأخرى إلى محاربة الكفاءات الحقيقية في ظل الإحساس بالخطر من وجودهم! أي إن «عقدة النقص» رغم وجودهم في المناصب وحقول المسؤولية، تكون هي محركهم لظلم من هم تحت مسؤوليتهم وظيفيًا، لأنهم الأكثر موهبة وذكاء وعطاءً!
{ طوال التاريخ البشري حفلت صفحاته بكثير من المظالم والدوس على الحقوق والإنسانية والكرامة سواء من دول أقوى تجاه دول أضعف، أو من أفراد تجاه أفراد وبدوافع أنانية ومصلحية ضيقة ولأسباب الجشع والأطماع، ليسود الظلم وتسود دكتاتورية الدول والأفراد، وليتحوّل البحث عن العدالة كالبحث في السراب! ولتصبح قضية العدالة بكل تفرعاتها الكبرى المتعلقة بالأمم وسيادة الظلم بعيدًا عن تحقيق تلك العدالة هي الأكثر هيمنة على سلوكيات الأقوى تجاه الأضعف ليحافظ على سطوته وقوته بالدوس على من هم أضعف منه! وبما يولّد الحروب والصراعات والأزمات والتنافس الدولي على خلفية استمرار المستبد في استبداده، والمحتكر في احتكاره والمهيمن في هيمنته! وفي نطاق المجتمعات تتفشى ظاهرة الظلم والتسلط على جماعات تجاه جماعات يتبادلون الدور وعلى أفراد تجاه أفراد لتصبح العدالة في الأرض هي الأكثر فقدانًا والمظالم هي الأكثر انتشارًا!
{ هذه المسألة المهمة حول العدالة ومطلبيتها هي التي تحرك القضايا لدى الأمم التي يقع عليها الظلم ولدى الأفراد الذين يعايشون الظلم أيضا سواء في أوطانهم أو في مؤسساتهم التي يعملون فيها، والعين لدى الجميع من المظلومين مرفوعة نحو السماء لتحقيق الإنصاف لهم في تلك الشكاوى منها ما يتحقق في الأرض ومنها ما هو متحقق بكليته يوم الحساب حيث الميزان السماوي هو الحق وهو الله جل جلاله، والذي لا يضيع في ميزانه مثقال ذرة من خير أو شر وحيث تشهد أعضاء الجسد أيضا بكل ما قام به من خير أو شر فكل شيء كما جاء في كتاب الله قد تم (استنساخه) سواء ما كان في العلن أو في السرّ، أو في الظاهر أو في الباطن! وحيث لا يُخفى شيء في ميزان العدالة الإلهية، التي لا يستطيع أحد التهرب منها في يوم العقاب والجزاء العظيم!
{ قد يغفر الله ما بين العبد وما بينه من المعاصي والقصور ولكن الله كما جاء أيضا في كتابه الكريم لا يغفر المظالم تجاه البشر سواء من الأمم تجاه أمم أخرى أو من أفراد تجاه آخرين، ولذلك فإن من يرفع شكواه إلى الله وهو محتسب على يقين بتحقق العدالة له سواء في الدنيا أو في الآخرة وعلى هذا فلينتبه الظالمون الغافلون أن كل أشكال ظلمهم سواء تجاه الشعوب أو تجاه الأفراد هم محاسبون عليها ذرة ذرة! حتى لو غير متفاعلين أو متجاهلين اليوم أن الظلم ظلمات في الدنيا، بما ينحفر في أرواحهم من سواد! أو بما يسوء وجوههم ويعلوها من سواد في الآخرة يوم الحساب، والأخسرون هم الذين يعتقدون أنهم في منجاة من ذلك لمجرد أنهم ملحدون أو مشركون أو غافلون ويتصرفون على أن هذه الدنيا الزائلة هي البداية والنهاية لهم ولغيرهم فيظلمون غيرهم وهم غير مدركين أنهم إنما يظلمون أنفسهم!
{ إن ما يحدث في هذا العالم الدنيوي من مظالم ومفاسد وبطش ودوس على إنسانية الإنسان، إنما كله «مستنسخ» كما يتم تصوير ورقة أو أخذ نسخة منها! وهذا العالم الذي هو مختبر الأمم والشعوب، ترك الله بإرادته وقدرته المجال الحرّ ليختبر الإنسان فيه إنسانيته، وتختبر الأمم صلاحها أو فسادها، ولذلك لا تتحقق العدالة فيه، لأن العدالة المطلقة التي يتوق إليها الإنسان، ويحلم بها، ويطمح من أجل تحقيقها، هي عدالة إلهية لا تتحقق في الأرض بسبب فساد الإنسان نفسه، وظلمه لنفسه وهو يظلم غيره، ليجد عاقبة كل ما يفعل كارتداد عليه في الدنيا، وبشكل مطلق في الآخرة! فهل تعي الأمم الظالمة ذلك؟! وهل يعي الأفراد الظالمون ما يفعلون بأنفسهم وهو يظلمون؟! لا أعتقد لأنهم لو كانوا واعين وكان منبع وعيهم الإيمان بالله والآخرة، لما فعلوا ذلك، ولكان ما في الدنيا غير هذا الذي نراه!
وحسبنا الله ونِعم الوكيل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك