العدد : ١٧٠٥٤ - الأحد ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٤ - الأحد ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

من عدالة الأرض إلى عدالة السماء!

{‭ ‬كلنا‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬تبقى‭ ‬دائما‭ ‬منقوصة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬متحققة‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬اليوم‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬منعدمة‭! ‬لأن‭ ‬العدالة‭ ‬الأرضية‭ ‬محكومة‭ ‬ومرتهنة‭ ‬بتدافع‭ ‬الأمم‭ ‬والأفراد‭ ‬وبتضارب‭ ‬المصالح‭ ‬وبالقوى‭ ‬المتنافسة‭ ‬وبمتغيرات‭ ‬القيم‭ ‬والأخلاق،‭ ‬وبالمنظور‭ ‬المادّي‭ ‬ورؤية‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الفلسفة‭ ‬المادّية‭ ‬الطاغية‭ ‬عادة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الرؤى‭ ‬الإنسانية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬والقيم‭ ‬تتراجع‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬واليوم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى،‭ ‬أمام‭ ‬هدير‭ ‬المصالح‭ ‬الأنانية‭ ‬لبعض‭ ‬القوى‭ ‬المهيمنة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬مثلما‭ ‬تخضع‭ ‬للمصالح‭ ‬الضيقة‭ ‬للأفراد‭ ‬وبدوافع‭ ‬أنانية‭ ‬أيضًا‭ ‬مثل‭ ‬الغيرة‭ ‬والحسد‭ ‬والتنافسية‭ ‬المريضة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هيمنة‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬التفاهة‮»‬‭ ‬حاليًا‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬كله‭! ‬وحيث‭ ‬يتسيّد‭ ‬‮«‬التافهون‮»‬‭ ‬مجالات‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬بما‭ ‬يجعل‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬وقت‭ ‬تسيدهم‭ ‬كارهين‭ ‬للكفاءات‭ ‬العالية،‭ ‬والنماذج‭ ‬العلمية‭ ‬المتفوقة‭ ‬والمتميزة،‭ ‬والأكثر‭ ‬قيمة‭ ‬وثقافة‭ ‬وعمقًا‭ ‬بما‭ ‬يدفع‭ ‬الأقل‭ ‬كفاءة‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬منصبه‭ ‬أيًا‭ ‬كان‭ ‬رسميًا‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬القطاعات‭ ‬الخاصة‭ ‬الأخرى‭ ‬إلى‭ ‬محاربة‭ ‬الكفاءات‭ ‬الحقيقية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإحساس‭ ‬بالخطر‭ ‬من‭ ‬وجودهم‭! ‬أي‭ ‬إن‭ ‬‮«‬عقدة‭ ‬النقص‮»‬‭ ‬رغم‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬المناصب‭ ‬وحقول‭ ‬المسؤولية،‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬محركهم‭ ‬لظلم‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬تحت‭ ‬مسؤوليتهم‭ ‬وظيفيًا،‭ ‬لأنهم‭ ‬الأكثر‭ ‬موهبة‭ ‬وذكاء‭ ‬وعطاءً‭!‬

{‭ ‬طوال‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭ ‬حفلت‭ ‬صفحاته‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬المظالم‭ ‬والدوس‭ ‬على‭ ‬الحقوق‭ ‬والإنسانية‭ ‬والكرامة‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أقوى‭ ‬تجاه‭ ‬دول‭ ‬أضعف،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬تجاه‭ ‬أفراد‭ ‬وبدوافع‭ ‬أنانية‭ ‬ومصلحية‭ ‬ضيقة‭ ‬ولأسباب‭ ‬الجشع‭ ‬والأطماع،‭ ‬ليسود‭ ‬الظلم‭ ‬وتسود‭ ‬دكتاتورية‭ ‬الدول‭ ‬والأفراد،‭ ‬وليتحوّل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬العدالة‭ ‬كالبحث‭ ‬في‭ ‬السراب‭! ‬ولتصبح‭ ‬قضية‭ ‬العدالة‭ ‬بكل‭ ‬تفرعاتها‭ ‬الكبرى‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالأمم‭ ‬وسيادة‭ ‬الظلم‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬تلك‭ ‬العدالة‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬هيمنة‭ ‬على‭ ‬سلوكيات‭ ‬الأقوى‭ ‬تجاه‭ ‬الأضعف‭ ‬ليحافظ‭ ‬على‭ ‬سطوته‭ ‬وقوته‭ ‬بالدوس‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬أضعف‭ ‬منه‭! ‬وبما‭ ‬يولّد‭ ‬الحروب‭ ‬والصراعات‭ ‬والأزمات‭ ‬والتنافس‭ ‬الدولي‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬استمرار‭ ‬المستبد‭ ‬في‭ ‬استبداده،‭ ‬والمحتكر‭ ‬في‭ ‬احتكاره‭ ‬والمهيمن‭ ‬في‭ ‬هيمنته‭! ‬وفي‭ ‬نطاق‭ ‬المجتمعات‭ ‬تتفشى‭ ‬ظاهرة‭ ‬الظلم‭ ‬والتسلط‭ ‬على‭ ‬جماعات‭ ‬تجاه‭ ‬جماعات‭ ‬يتبادلون‭ ‬الدور‭ ‬وعلى‭ ‬أفراد‭ ‬تجاه‭ ‬أفراد‭ ‬لتصبح‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬فقدانًا‭ ‬والمظالم‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬انتشارًا‭!‬

{‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬المهمة‭ ‬حول‭ ‬العدالة‭ ‬ومطلبيتها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحرك‭ ‬القضايا‭ ‬لدى‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬عليها‭ ‬الظلم‭ ‬ولدى‭ ‬الأفراد‭ ‬الذين‭ ‬يعايشون‭ ‬الظلم‭ ‬أيضا‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬أوطانهم‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مؤسساتهم‭ ‬التي‭ ‬يعملون‭ ‬فيها،‭ ‬والعين‭ ‬لدى‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬المظلومين‭ ‬مرفوعة‭ ‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬لتحقيق‭ ‬الإنصاف‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الشكاوى‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يتحقق‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متحقق‭ ‬بكليته‭ ‬يوم‭ ‬الحساب‭ ‬حيث‭ ‬الميزان‭ ‬السماوي‭ ‬هو‭ ‬الحق‭ ‬وهو‭ ‬الله‭ ‬جل‭ ‬جلاله،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يضيع‭ ‬في‭ ‬ميزانه‭ ‬مثقال‭ ‬ذرة‭ ‬من‭ ‬خير‭ ‬أو‭ ‬شر‭ ‬وحيث‭ ‬تشهد‭ ‬أعضاء‭ ‬الجسد‭ ‬أيضا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬خير‭ ‬أو‭ ‬شر‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬تم‭ (‬استنساخه‭) ‬سواء‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬العلن‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬السرّ،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الباطن‭! ‬وحيث‭ ‬لا‭ ‬يُخفى‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬العدالة‭ ‬الإلهية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬التهرب‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬العقاب‭ ‬والجزاء‭ ‬العظيم‭!‬

{‭ ‬قد‭ ‬يغفر‭ ‬الله‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬العبد‭ ‬وما‭ ‬بينه‭ ‬من‭ ‬المعاصي‭ ‬والقصور‭ ‬ولكن‭ ‬الله‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الكريم‭ ‬لا‭ ‬يغفر‭ ‬المظالم‭ ‬تجاه‭ ‬البشر‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬تجاه‭ ‬أمم‭ ‬أخرى‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬تجاه‭ ‬آخرين،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬يرفع‭ ‬شكواه‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬وهو‭ ‬محتسب‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بتحقق‭ ‬العدالة‭ ‬له‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬فلينتبه‭ ‬الظالمون‭ ‬الغافلون‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬ظلمهم‭ ‬سواء‭ ‬تجاه‭ ‬الشعوب‭ ‬أو‭ ‬تجاه‭ ‬الأفراد‭ ‬هم‭ ‬محاسبون‭ ‬عليها‭ ‬ذرة‭ ‬ذرة‭! ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬غير‭ ‬متفاعلين‭ ‬أو‭ ‬متجاهلين‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬الظلم‭ ‬ظلمات‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬بما‭ ‬ينحفر‭ ‬في‭ ‬أرواحهم‭ ‬من‭ ‬سواد‭! ‬أو‭ ‬بما‭ ‬يسوء‭ ‬وجوههم‭ ‬ويعلوها‭ ‬من‭ ‬سواد‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭ ‬يوم‭ ‬الحساب،‭ ‬والأخسرون‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنهم‭ ‬في‭ ‬منجاة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لمجرد‭ ‬أنهم‭ ‬ملحدون‭ ‬أو‭ ‬مشركون‭ ‬أو‭ ‬غافلون‭ ‬ويتصرفون‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬الزائلة‭ ‬هي‭ ‬البداية‭ ‬والنهاية‭ ‬لهم‭ ‬ولغيرهم‭ ‬فيظلمون‭ ‬غيرهم‭ ‬وهم‭ ‬غير‭ ‬مدركين‭ ‬أنهم‭ ‬إنما‭ ‬يظلمون‭ ‬أنفسهم‭!‬

{‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الدنيوي‭ ‬من‭ ‬مظالم‭ ‬ومفاسد‭ ‬وبطش‭ ‬ودوس‭ ‬على‭ ‬إنسانية‭ ‬الإنسان،‭ ‬إنما‭ ‬كله‭ ‬‮«‬مستنسخ‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يتم‭ ‬تصوير‭ ‬ورقة‭ ‬أو‭ ‬أخذ‭ ‬نسخة‭ ‬منها‭! ‬وهذا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مختبر‭ ‬الأمم‭ ‬والشعوب،‭ ‬ترك‭ ‬الله‭ ‬بإرادته‭ ‬وقدرته‭ ‬المجال‭ ‬الحرّ‭ ‬ليختبر‭ ‬الإنسان‭ ‬فيه‭ ‬إنسانيته،‭ ‬وتختبر‭ ‬الأمم‭ ‬صلاحها‭ ‬أو‭ ‬فسادها،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬العدالة‭ ‬فيه،‭ ‬لأن‭ ‬العدالة‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬يتوق‭ ‬إليها‭ ‬الإنسان،‭ ‬ويحلم‭ ‬بها،‭ ‬ويطمح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيقها،‭ ‬هي‭ ‬عدالة‭ ‬إلهية‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬بسبب‭ ‬فساد‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه،‭ ‬وظلمه‭ ‬لنفسه‭ ‬وهو‭ ‬يظلم‭ ‬غيره،‭ ‬ليجد‭ ‬عاقبة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يفعل‭ ‬كارتداد‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬وبشكل‭ ‬مطلق‭ ‬في‭ ‬الآخرة‭! ‬فهل‭ ‬تعي‭ ‬الأمم‭ ‬الظالمة‭ ‬ذلك؟‭! ‬وهل‭ ‬يعي‭ ‬الأفراد‭ ‬الظالمون‭ ‬ما‭ ‬يفعلون‭ ‬بأنفسهم‭ ‬وهو‭ ‬يظلمون؟‭! ‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬لأنهم‭ ‬لو‭ ‬كانوا‭ ‬واعين‭ ‬وكان‭ ‬منبع‭ ‬وعيهم‭ ‬الإيمان‭ ‬بالله‭ ‬والآخرة،‭ ‬لما‭ ‬فعلوا‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكان‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬نراه‭!‬

وحسبنا‭ ‬الله‭ ‬ونِعم‭ ‬الوكيل‭.‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا