العدد : ١٧٠٥٤ - الأحد ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٤ - الأحد ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

قد لا ينفع الضرب

أكثر‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬تعرضا‭ ‬للعنف‭ ‬الجسماني‭ ‬واللفظي،‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬القارات،‭ ‬هم‭ ‬النساء،‭ ‬وفي‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬ظهرت‭ ‬جمعية‭ ‬نسائية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬ذات‭ ‬اسم‭ ‬قوي‭ ‬الدلالات‭ ‬‮«‬لا‭ ‬لقهر‭ ‬النساء‮»‬،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ‬قهر‭ ‬هنا‭ ‬ذات‭ ‬حمولات‭ ‬كثيرة‭ ‬تُغْني‭ ‬عن‭ ‬التفصيل،‭ ‬وفي‭ ‬ثقافات‭ ‬كثيرة‭ ‬فإن‭ ‬ضرب‭ ‬العيال‭ ‬يجد‭ ‬التبرير‭ ‬باعتبار‭ ‬أنه‭ ‬لازم‭ ‬للتربية‭ ‬القويمة،‭ ‬والعرب‭ ‬تقول‭: ‬الضرب‭ ‬ينفعهم‭ ‬والعلم‭ ‬يرفعهم‭.‬

لا‭ ‬أذكر‭ ‬ان‭ ‬أبي‭ -‬رحمه‭ ‬الله‭- ‬ضربني‭ ‬سوى‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الضربة‭ ‬‮«‬مستحقة‮»‬‭ ‬لأنني‭ ‬أتيت‭ ‬أمرا‭ ‬يجافي‭ ‬أصول‭ ‬الأدب‭ ‬تجاه‭ ‬الوالدين،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬أبي‭ ‬كان‭ ‬رجلا‭ ‬تقليديا‭ ‬ولا‭ ‬يفهم‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬التربوي،‭ ‬وأمّيا‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬لا‭ ‬بفرويد‭ ‬ولا‭ ‬فريد‭ ‬الأطرش،‭ ‬ورغم‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬سريع‭ ‬الانفعال‭ ‬والاشتعال،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يلجأ‭ ‬الى‭ ‬الضرب‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يفض‭ ‬به‭ ‬الكيل،‭ ‬وكانت‭ ‬عقوبة‭ ‬الضرب‭ ‬تسقط‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬الفرار‭ ‬من‭ ‬أمامه‭ ‬ركضا،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬الآباء‭ ‬ذوي‭ ‬النزعات‭ ‬الانتقامية‭ ‬الذين‭ ‬ينصبون‭ ‬الكمائن‭ ‬لعيالهم،‭ ‬ويتربصون‭ ‬بهم‭ ‬لإيقاع‭ ‬العقوبة‭ ‬الجسدية‭ ‬المقررة‭ ‬عليهم‭. ‬

وأعترف‭ ‬وأُقر‭ ‬بأنني‭ ‬ضربت‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬عيالي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬فأنا‭ ‬برغم‭ ‬النظارات‭ ‬والنظريات‭ ‬موديل‭ ‬قديم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬النواحي‭ ‬والسلوكيات،‭ ‬مازلت‭ ‬اعتقد‭ ‬ان‭ ‬الضرب‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مجديا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات،‭ ‬بشرط‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬قاسيا‭ ‬وعنيفا،‭ ‬يعني‭ ‬ضربة‭ ‬قد‭ ‬تؤلم‭ ‬قليلا،‭ ‬وأقر‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬بأنني‭ ‬نادم‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬فإنني‭ ‬أستهجن‭ ‬قيام‭ ‬بعض‭ ‬الآباء‭ ‬والأمهات‭ ‬بضرب‭ ‬عيالهم‭ ‬حتى‭ ‬تسيل‭ ‬منهم‭ ‬الدماء‭ ‬أو‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬أجسامهم‭ ‬كدمات،‭ ‬وخلال‭ ‬فترة‭ ‬عملي‭ ‬مدرسا‭ ‬أيضا‭ ‬كنت‭ ‬أمارس‭ ‬‮«‬الجلد‮»‬‭ ‬بحقّ‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬‮«‬يسيئون‭ ‬السلوك‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬الذين‭ ‬يرتبكون‭ ‬أفعالا‭ ‬أو‭ ‬يأتون‭ ‬بأقوال‭ ‬تقع‭ ‬تحت‭ ‬طائلة‭ ‬المادة‭ (‬1‭) ‬من‭ ‬قانون‭ ‬الأدب‭ ‬العام،‭ ‬ولا‭ ‬أذكر‭ ‬قط‭ ‬أنني‭ ‬عاقبت‭ ‬طالبا‭ ‬لأن‭ ‬أداءه‭ ‬الأكاديمي‭ ‬ضعيف،‭ ‬حتى‭ ‬بكلمات‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬‮«‬غبي‭/‬حمار‭/ ‬بهيمة‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬كنت‭ ‬ميالا‭ ‬لمعاقبة‭ ‬الطلاب‭ ‬ذوي‭ ‬القدرات‭ ‬العالية‭ ‬الذين‭ ‬يهملون‭ ‬دروسهم‭ ‬وواجباتهم‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يعطيهم‭ ‬الإحساس‭ ‬بأنني‭ ‬أحسن‭ ‬بهم‭ ‬الظن،‭ ‬ومن‭ ‬تجربتي‭ ‬الشخصية،‭ ‬فإن‭ ‬أول‭ ‬مدرس‭ ‬تلقيت‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬مبادئ‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬ولمس‭ ‬عندي‭ ‬حبا‭ ‬لتلك‭ ‬اللغة‭ ‬كان‭ ‬يجلدني‭ ‬على‭ ‬الخطأ‭ ‬الواحد‭ ‬نفس‭ ‬عدد‭ ‬الجلدات‭ ‬التي‭ ‬ينالها‭ ‬من‭ ‬أخطاؤه‭ ‬خمسة‭ ‬أو‭ ‬عشرة،‭ ‬فجعلني‭ ‬ذلك‭ ‬أحس‭ ‬بالتميز،‭ ‬وحرصت‭ ‬على‭ ‬تفادي‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬اختبارات‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬وأركز‭ ‬على‭ ‬تجويد‭ ‬إلمامي‭ ‬بها،‭ ‬فصارت‭ ‬لاحقا‭ ‬أهم‭ ‬أدواتي‭ ‬لكسب‭ ‬الرزق‭.‬

في‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬مسلمة‭ ‬طفش‭ ‬صبي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬العائلة،‭ ‬وتم‭ ‬العثور‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مشارف‭ ‬مدينة‭ ‬أخرى‭ ‬تبعد‭ ‬نحو‭ ‬600‭ ‬كيلومتر‭ ‬عن‭ ‬بلدته‭ ‬الأصلية،‭ ‬وكان‭ ‬أبوه‭ ‬قد‭ ‬ضربه‭ ‬بسبب‭ ‬ضعف‭ ‬تحصيله‭ ‬المدرسي،‭ ‬وبعد‭ ‬عودته‭ ‬الى‭ ‬البيت‭ ‬قال‭ ‬الصبي‭ ‬انه‭ ‬سيكرر‭ ‬المحاولة،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬هرب‭ ‬الى‭ ‬مدينة‭ ‬أخرى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ضربه‭ ‬أبوه،‭ ‬وبكل‭ ‬ثقة‭ ‬أقول‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬إن‭ ‬ولده‭ ‬هذا‭ ‬لن‭ ‬يجتاز‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬استعان‭ ‬بالموساد‭ ‬والسي‭ ‬آي‭ ‬إيه‭ ‬لمراقبته‭ ‬وإرغامه‭ ‬على‭ ‬الاهتمام‭ ‬بدروسه‭.. ‬خلاص‭.. ‬فالدراسة‭ ‬ارتبطت‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬بالتعذيب‭ ‬والإذلال،‭ ‬ولن‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تعرضه‭ ‬للضرب‭ ‬المنزلي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الهرب‭ ‬ولو‭ ‬الى‭ ‬أفغانستان‭ ‬بل‭ ‬وربما‭ ‬إلى‭ ‬جوانتنامو‭. ‬ومن‭ ‬الخير‭ ‬لكل‭ ‬أب‭ ‬وأم‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬عياله‭ ‬معه‭ ‬تحت‭ ‬سقف‭ ‬واحد‭ ‬وهم‭ ‬ضعيفو‭ ‬التحصيل‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬يهربوا‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬قاس‭ ‬لا‭ ‬يرحم‭ ‬الضعفاء‭ ‬والعزل،‭ ‬وهم‭ ‬ضعيفو‭ ‬التحصيل‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والحصيلة‭ ‬التربوية،‭ ‬وقد‭ ‬يبدو‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬أتعاطف‭ ‬مع‭ ‬الصبي‭ ‬هذا،‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬متلاعبا‭ ‬ومهملا‭ ‬ومتقاعسا،‭ ‬ولكن‭ ‬تبرير‭ ‬تعاطفي‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬أوجه‭ ‬القصور‭ ‬تلك‭.. ‬فيا‭ ‬أخي‭ ‬الذي‭ ‬ضربت‭ ‬ولدك‭ ‬ثم‭ ‬تألمت‭ ‬عند‭ ‬هروبه‭ ‬ولم‭ ‬تنم‭ ‬حتى‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬جرب‭ ‬معه‭ ‬سلاح‭ ‬الترغيب،‭ ‬فالكلمة‭ ‬الطيبة‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬بنتائج‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الجلد،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬ينفع‭ ‬معه‭ ‬الكلام‭ ‬الطيب‭ ‬فلا‭ ‬ترغمه‭ ‬على‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬وألحقه‭ ‬بعمل‭ ‬يدوي‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬بلا‭ ‬تكييف‭ ‬هواء،‭ ‬وسترى‭ ‬كيف‭ ‬انه‭ ‬سيبحث‭ ‬عن‭ ‬واسطة‭ ‬بعد‭ ‬أعوام‭ ‬قليلة‭ ‬للالتحاق‭ ‬بفصول‭ ‬دراسة‭ ‬مسائية‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا