زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
صرنا لا نحمد ولا نشكر
أحس بـ«العظمة» وأنا أسدد قيمة ما اشتريه من سلع، فقط بتمرير هاتفي فوق جهاز صغير، ومع هذا فإنه ليس من الوارد عندي أن أودع مبلغا نقديا في جهاز الصرف الآلي! اسحب؟ ممكن. أودع؟ لا. حتى قبل سنوات قليلة لم أكن قط أحمل محفظة نقود، لأسباب عديدة، من بينها انني كنت أفضل حمل نقودي في جيب قميصي كي تدفئ قلبي، ولأنه حدث أكثر من مرة أن أخرجت المحفظة في محل تجاري ودفعت المبلغ المطلوب ثم تركتها في المتجر، ولكن الحياة تعقدت باسم التطور، وأصبح شخص لا يملك أكثر مما يعادل ثلاثة دولارات مضطرا إلى حمل محفظة يحشر فيها مختلف البطاقات: الشخصية ورخصة قيادة السيارة والفيزا والماستر كارد وبطاقة العمل وبطاقة المستشفى وصورة زوجته و/أو عياله، والكروت السخيفة التي نقدمها للآخرين ويقدمونها إلينا وعليها الأسماء والعناوين وأرقام الهواتف.
ويفترض من الناحية النظرية أن الحياة صارت سهلة بفضل المخترعات الكثيرة المتاحة، فقد اختفى الهاون أو كاد من المطابخ، ولم تعد إلا نادرا تجد من يسحن أو يطحن البهارات بالهاون، (وعاء عميق وسميك كان يصنع من الخشب أو معدن قوي، توضع فيه البهارات لسحنها، ويسمى بالإنجليزية مورتر mortar ومن هنا ترجم العرب مدافع المورتر إلى هاون) وحتى عندما نحتاج إلى نقطتين من الليمون لإعداد أكلة ما، فإن هناك أداة صغيرة لعصره، مع ضمان أن البذور لن تسقط داخل الطعام المراد إعداده، ولكن كل ذلك لم يمنحنا الإحساس بالراحة، فقد صرنا اكثر لهاثا وتعبا نفسيا وجسديا، ويخيل إليّ أن أكبر مشكلة يعاني منها معظمنا هي عدم وفرة النقود، والعجيب في الأمر هو أنه كلما زادت رواتبنا ومواردنا المالية انفتحت أخاديد ومغارات لابتلاعها، ليس فقط لان كماليات الأمس صارت ضروريات، بل لأننا صرنا عبيدا لشهوة التملك، فإذا كان زيد قادرا على شراء سيارة بي إم دبليو لأنه وارث وغني ولديه فلوس بالهبل، فإن الأهبل الذي يعرف كل ذلك عن زيد، يحاول مجاراته ويشتري نفس السيارة ولو اضطر الى العيش على سندويتشات الفول والفلافل خمس سنوات حتى يصاب بالإمساك والبواسير والتهاب القولون والإسهال، وحتى تسكن العناكب جيبه لانعدام حركة الصادر والوارد منه وإليه!! وقبل سنوات قليلة كان من يتقاضى راتبا يبلغ نحو 3 آلاف دولار شهريا يعتبر من الأثرياء، ولكن نفس الشخص الذي ارتفع راتبه اليوم إلى نحو أربعة الاف دولار لا يكف عن الشكوى من ضعف موارده المالية، وبالله عليكم لا تعلقوا كل شيء على شماعة التضخم الاقتصادي وارتفاع أسعار السلع والخدمات. فمن مصائبنا المستحدثة أننا صرنا مقلدين، فطقم الكراسي الذي ظهر في مسلسل «البالوعة والبنت الدلوعة» يصبح اقتناؤه فرض عين لأنه «يجنن» ولا فائدة من القول بأن سعره هو «اللي يجنن»، وأن الجماعة في المسلسل استأجروه من معرض مفروشات.. والفستان الذي ظهرت به أليسا في فيديو كليب أغنيتها «عايزة منك همسة يا أحلى من الكبسة» يجب شراؤه ولو تطلب الأمر الحصول على قرض مصرفي!
باختصار صار الآخرون يتحكمون في أذواقنا، ولم يعد الآباء والأمهات وأولياء الأمور بصفة عامة القدوة والمثال الذي يحتذي به عيالنا، فقد حل محلنا عمرو دياب وراغب علامة، ونوال الزغبي، يأتيك ابنك وقد صار رأسه مثل مؤخرة القرد فتحسب أن مكروها أصابه فيقول لك إنه طلب تلك «القَصَّة» من الحلاق اقتداء بشخص هو بالنسبة لك نكرة وبالنسبة له علم الأعلام، والملابس المبهدلة التي يرتديها عيالنا شاهدوا مثلها في فيلم أمريكي أو كمبودي.. ثم ذلك العجين الشفاف المقرف الذي يجعل شعر رؤوسهم مثل المسامير... وأذكر يوم طلب مني صغيري لؤي أن أشتري له فرشاة أسنان كهربائية لأن الفرشاة العادية «مرهقة»!! فقلت له: أصبر حتى تدخل الكهرباء بيتنا في جزيرة بدين في شمال السودان!!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك