زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن قسوة القانون
حدثتكم بالأمس عن السريلانكي الذي قضى في السجن 50 سنة دون أن يتم تقديمه لمحاكمة لأن السلطات نسيت ذلك، ونبقى في سيرة السجن والسجناء، بغرض إثبات أن العدالة قد تكون عرجاء حينما يكون المتهم أو المدان من عامة الناس، ولمن فاتهم مقال الأمس أقول إن ذلك السريلانكي، أصاب والده بجرح طفيف في يده إثر نوبة هياج نجمت عن مرض نفسي، فأدخلوه مستشفى للأمراض النفسية، ثم أعادوه إلى السجن، ونسوا أمره خمسين سنة، وغادر السجن الذي دخله شابا وهو كفيف، وحكمت له المحكمة بتعويض ضخم قدره 14 ألف دولار (اقسم 14000 على 50 ثم اقسم الحاصل على 365، لتعرف كم كان مبلغ التعويض عن كل يوم قضاه في الحبس).
ولكنني اليوم أعبر بكم البحار إلى الولايات المتحدة: خلال السنوات الخمس الماضية نال 27 مواطنا أمريكيا حق الاستمرار في الحياة، بمعنى أنه كان محكوما عليهم بالإعدام وبعد سنوات طوال، تتراوح ما بين تسع، وسبع عشرة سنة ثبتت براءتهم (في الولايات المتحدة يتعللون بعدم التعجل في تنفيذ أحكام الإعدام، بأنه من حق المحكوم عليه أن يستأنف الحكم على كل المستويات، وأنه من الوارد أن يخفف حاكم الولاية في يوم ما، من سنة ما، الحكم إلى السجن المؤبد). ما لفت انتباهي هو ذلك البريطاني كيني ريتشي، الذي عاد إلى بلاده سعيدا قادما من الولايات المتحدة، وكان حُكمٌ بالإعدام قد صدر بحقه قبل عشرين سنة، بجريرة قتل، وبتطور تقنيات فحص الحمض النووي ثبتت براءته. دعك من أن يبقى شخص ما في السجن لجريمة لم يرتكبها، فقط تخيل أن يظل ذلك الشخص يتوقع إعدامه في أي لحظة على مدى أكثر من 7300 يوم. وكل ذو حس إنساني لا يعترض على تطويل الإجراءات في القضايا التي يكون الإعدام عقوبة لها، فإزهاق روح إنسان على عجل وبأسلوب يتسم بالكلفتة يرقى إلى القتل العمد، ولكن أن يصدر حكم بالإعدام على ابن آدم، ويظل المحكوم عليه في انتظار تنفيذ الحكم عشرين سنة، فهذه قسوة لا تتسم بها حتى الأنظمة القضائية العشوائية في بلدان العالم الثالث.
معليش، سأستشهد مرة أخرى بتجربتي القصيرة في السجن (وليس قصدي تأكيد أنني مناضل، فالفترة التي قضيتها في السجن كانت خالية من المرارات، فقد كان معي أعز أصدقائي، وكنا نقضي معظم الوقت في القراءة وألعاب التسلية وكانت علاقتنا بحراس السجن أخوية وبيننا احترام متبادل، ولم نتعرض لتعذيب أو إذلال). ذات يوم نقلوني ضمن مجموعة من المعتقلين السياسيين إلى قسم في السجن يحمل اسم الزنزانات الشرقية، وفي ليلتي الأولى هناك تناهت إلى آذاننا صرخات وعويل وبكاء صادرة من رجل، وقال لنا بعض «أرباب السوابق» من السياسيين، إن زنازين الإعدام تقع خلف زنازيننا وإن ذلك الشخص سيعدم شنقا في فجر اليوم التالي. أصبت برعشة ونوبة بكاء هستيري. تخيلته يساق إلى المشنقة ويداه وساقاه مكبلتان بالأصفاد وكيس أسود على رأسه، ويضعون الأنشوطة حول رقبته ثم يسحبون القطعة الخشبية التي يقف عليها فيتدلى جسمه بفعل الكيس الرملي المربوط إلى رجله، وتنكسر رقبته محدثة طقطقة يسمعها كل من حوله، ويكشف الطبيب على الجثمان وقد يقول إنه ما زال حيا فيتم تكرار عملية الإعدام، (يقال إنه صدر حكم بإعدام روسي شنقا وشنقوه ولم يمت، وسقط عنه حكم الإعدام فجاءت صيغة «الإعدام شنقا حتى الموت». يعني لازم تموت حتى لو اضطر الجماعة إلى تكرار الشنق أربع مرات).. انتظار الموت المحتوم أصعب من تجربة الموت ذاتها.
كان السجناء الجنائيون يكلفون بتنظيف الأماكن التي يقيم فيها المعتقلون السياسيون، وكان من بينهم متهمون بجرائم قتل ظلوا محبوسين سنوات طويلة دون محاكمة أو شهدوا جلسة واحدة في محكمة ولم يتم استدعاؤهم بعدها قط، ونجح محامون كانوا معنا في المعتقل، في شطب العديد من قضايا تلك الفئة، دون كبير عناء بالطعن في مخالفة حبسهم لقانون الإجراءات الجنائية.
وفي الولايات المتحدة لا يثير الدهشة أن شخصا ما يظل في طابور الموت death row لأكثر من 15 سنة يموت خلالها يوميا. ثم يطالبوننا باتباع المدرسة الأمريكية في العدالة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك