العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ياما هناك مظاليم

ينزف‭ ‬قلب‭ ‬كل‭ ‬انسان‭ ‬ذي‭ ‬قلب‭ ‬إذا‭ ‬قرأ‭ ‬سيرة‭ ‬الأديب‭ ‬العبقري‭ ‬السوداني‭ ‬معاوية‭ ‬نور،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬ترجم‭ ‬أعمالا‭ ‬لوليام‭ ‬شكسبير‭ ‬ترجمة‭ ‬متقنة،‭ ‬وقدم‭ ‬للقراء‭ ‬العرب‭ ‬الشاعر‭ ‬البريطاني‭-‬الأمريكي‭ ‬الكبير‭ ‬تي‭ ‬إس‭ ‬إليوت،‭ ‬وطرح‭ ‬أسلوبا‭ ‬‮«‬عصريا‮»‬‭ ‬للنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬جعله‭ ‬محل‭ ‬احتفاء‭ ‬عمالقة‭ ‬الأدب‭ ‬والثقافة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وتهافتت‭ ‬المجلات‭ ‬المصرية‭ (‬المقتطف‭ ‬والهلال‭ ‬والرسالة‭ ‬والبلاغ‭) ‬على‭ ‬قلمه،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬ابتعث‭ ‬الى‭ ‬مصر‭ ‬لدراسة‭ ‬الطب‭ ‬ولكن‭ ‬أحد‭ ‬أقاربه‭ ‬رأى‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬صغير‭ ‬على‭ ‬الطب‮»‬‭ ‬فتحول‭ ‬الى‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬بيروت‭. ‬أصيب‭ ‬معاوية‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬الى‭ ‬السودان‭ ‬باضطراب‭ ‬نفسي‭ ‬فسلموا‭ ‬أمره‭ (‬في‭ ‬رائج‭ ‬الروايات‭)‬،‭ ‬إلى‭ ‬اختصاصي‭ ‬في‭ ‬طرد‭ ‬الجن‭ ‬من‭ ‬الأجساد،‭ ‬فأشبعه‭ ‬ضربا‭ ‬حتى‭ ‬أهلكه،‭ ‬ورثاه‭ ‬عباس‭ ‬محمود‭ ‬العقاد‭ ‬بقوله‭: ‬بكائي‭ ‬على‭ ‬هذ‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬ذوى‭ / ‬وأغصانه‭ ‬تختال‭ ‬في‭ ‬الروض‭ ‬ناميـة‭/ ‬ويا‭ ‬عارفيــه‭ ‬لا‭ ‬تضنوا‭ ‬بذكره‭ / ‬ففي‭ ‬الذكر‭ ‬رجعى‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬الموت‭ ‬ناجية‭/ ‬أعيروه‭ ‬بالتذكار‭ ‬ما‭ ‬ضن‭ ‬دهره‭ / ‬به‭ ‬عيشة‭ ‬في‭ ‬مقبـــل‭ ‬العمر‭ ‬راضية

قبل‭ ‬أعوام‭ ‬بعيدة‭ ‬اعتقلت‭ ‬الشرطة‭ ‬السريلانكية‭ ‬دي‭. ‬بي‭. ‬جيمس‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬جرح‭ ‬والده‭ ‬بسكين،‭ ‬ومع‭ ‬بدء‭ ‬التحقيق‭ ‬معه‭ ‬اتضح‭ ‬انه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬اضطرابات‭ ‬نفسية،‭ ‬فتمت‭ ‬إحالته‭ ‬الى‭ ‬مستشفى‭ ‬لتلقي‭ ‬العلاج،‭ ‬وبقي‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬ثم‭ ‬أعيد‭ ‬الى‭ ‬السجن،‭ ‬ولم‭ ‬يتم‭ ‬تقديمه‭ ‬للمحاكمة‭ ‬لأن‭ ‬امثاله‭ ‬لا‭ ‬يعاقبون‭ ‬بالسجن‭ ‬او‭ ‬الإعدام‭ ‬مهما‭ ‬ارتكبوا‭ ‬من‭ ‬جرائم،‭ ‬بل‭ ‬يتم‭ ‬عادة‭ ‬احتجازهم‭ ‬في‭ ‬مستشفيات‭ ‬للأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬جيدة‭ ‬الحراسة،‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬تتحسن‭ ‬أحوالهم‭ ‬النفسية،‭ ‬وبقي‭ ‬دي‭. ‬بي‭. ‬جيمس‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬لعدة‭ ‬سنوات‭. ‬تفتكر‭ ‬كم؟‭ ‬خمسة؟‭ ‬عشرين؟‭ ‬خمسة‭ ‬وثلاثين؟‭ ‬غلط‭.. ‬خطأ‭ .. ‬رونق‭.. ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬قضى‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬خمسين‭ ‬عاما‭ ‬بالتمام‭ ‬والكمال‭. ‬كان‭ ‬عمره‭ ‬عند‭ ‬اعتقاله‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬ونال‭ ‬حريته‭ ‬وعمره‭ ‬80‭ ‬سنة،‭ ‬وفتح‭ ‬عينيه‭ ‬ليرى‭ ‬كم‭ ‬تغيرت‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬فلم‭ ‬يفلح،‭ ‬فقد‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬كفيفا،‭ ‬وتطوع‭ ‬محام‭ ‬سريلانكي‭ ‬لـ«الدفاع‮»‬‭ ‬عن‭ ‬حقوقه،‭ ‬أي‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تعويض‭ ‬مادي،‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬قالت‭ ‬السلطات‭: ‬سوري‭ ‬يا‭ ‬عمو‭ ‬جيمس‭ ‬نسينا‭ ‬أمرك‭ ‬وأنت‭ ‬عارف‭ ‬مشاكل‭ ‬الدنيا‭ ‬والحياة‭ ‬ولو‭ ‬احتجت‭ ‬لأي‭ ‬شيء‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬خدمتك‭.‬

فشلت‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬تخمين‭ ‬المدة‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬جيمس‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬وهأنذا‭ ‬أعطيك‭ ‬الفرصة‭ ‬لتخمن‭ ‬‮«‬مبلغ‭ ‬التعويض‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬طالب‭ ‬به‭ ‬المحامي‭ ‬وفقا‭ ‬للقانون‭ ‬المدني‭ ‬السريلانكي؟‭ ‬عشرة‭ ‬ملايين‭ ‬دولار؟‭ ‬خمسة‭ ‬ملايين؟‭ ‬ثلاثة‭ ‬ملايين؟‭ ‬مليون؟‭ ‬نصف‭ ‬مليون؟‭ ‬أربعين‭ ‬ألف؟‭ ‬لا‭ ‬هذي‭ ‬ولا‭ ‬تلك‭ ‬بل‭ ‬فقط‭ ‬14‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭. ‬يعني‭ ‬اليوم‭ ‬الواحد‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬مواطن‭ ‬بائس‭ ‬سقط‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬البيروقراطية‭ ‬السريلانكية‭ ‬لا‭ ‬يساوي‭ ‬حتى‭ ‬دولارا‭ ‬واحدا‭. ‬منتهى‭ ‬الظلم‭ ‬والاستخفاف‭ ‬بآدمية‭ ‬إنسان؟‭ ‬وما‭ ‬رأيك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أناسا‭ ‬أحرارا‭ ‬يعملون‭ ‬لدى‭ ‬آخرين‭ ‬نحو‭ ‬12‭ ‬ساعة‭ ‬يوميا‭ ‬نظير‭ ‬3‭ ‬دولارات‭ ‬أي‭ ‬بأقل‭ ‬من‭ ‬ثلث‭ ‬دولار‭ ‬للساعة‭!‬

مثل‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬جيمس‭ ‬له‭ ‬نماذج‭ ‬بالطن‭ ‬المتري‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات،‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬ما‭ ‬شخصين‭ ‬او‭ ‬ثلاثة،‭ ‬تأتيهم‭ ‬الوجبات‭ ‬من‭ ‬المطاعم‭ ‬الفاخرة،‭ ‬وبجانبهم‭ ‬الآلاف‭ ‬لا‭ ‬يتناولون‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وجبتين‭ ‬يوميا‭ ‬من‭ ‬طعام‭ ‬السجن‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أتعس‭ ‬منه‭ ‬طعما‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬المستشفيات‭.‬

في‭ ‬سجن‭ ‬كوبر‭ ‬الذي‭ ‬اعتقلت‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬السوداني‭ ‬نميري،‭ ‬هناك‭ ‬زنازين‭ ‬تعرف‭ ‬بالبحريات‭ (‬الشمالية‭). ‬أكرمني‭ ‬الله‭ ‬بعدم‭ ‬البقاء‭ ‬فيها‭ ‬قط‭.  ‬كانوا‭ ‬يعطوننا‭ ‬في‭ ‬الصبح‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرغفة‭. ‬تأكل‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬مع‭ ‬الفول‭ ‬في‭ ‬الإفطار‭ ‬والثانية‭ ‬مع‭ ‬مرق‭ ‬مجهول‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬الغداء‭ ‬والثالثة‭ ‬حاف‭ ‬في‭ ‬العشاء‭. ‬تلك‭ ‬الزنازين‭ ‬كانت‭ ‬موبوءة‭ ‬بالفئران‭ ‬وكان‭ ‬نزلاؤها‭ ‬يرقدون‭ ‬ويقومون‭ ‬والأرغفة‭ ‬في‭ ‬أيديهم‭. ‬أي‭ ‬حركة‭ ‬كده‭ ‬وللا‭ ‬كده‭ ‬والفأر‭ ‬يضرب‭ ‬في‭ ‬المليان‭ ‬ويضيع‭ ‬الرغيف‭. ‬وكانوا‭ ‬ينامون‭ ‬بعد‭ ‬ربط‭ ‬أطراف‭ ‬البيجامات‭ ‬والسراويل‭ ‬بالخيوط‭ ‬اتقاء‭ ‬غزوات‭ ‬الفئران‭.‬

في‭ ‬نفس‭ ‬السجن‭ ‬كان‭ ‬زعماء‭ ‬المعارضة‭ ‬الكبار،‭ ‬يقيمون‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬المعاملة‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬5‭ ‬نجوم‭ ‬بمقاييس‭ ‬السجون‭. ‬يعني‭ ‬حتى‭ ‬الحكومة‭ ‬تعطي‭ ‬معاملة‭ ‬تفضيلية‭ ‬لمن‭ ‬يعارضونها‭ ‬من‭ ‬الكبار‭. ‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا