زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ياما هناك مظاليم
ينزف قلب كل انسان ذي قلب إذا قرأ سيرة الأديب العبقري السوداني معاوية نور، وكان أول من ترجم أعمالا لوليام شكسبير ترجمة متقنة، وقدم للقراء العرب الشاعر البريطاني-الأمريكي الكبير تي إس إليوت، وطرح أسلوبا «عصريا» للنقد الأدبي جعله محل احتفاء عمالقة الأدب والثقافة في مصر، وتهافتت المجلات المصرية (المقتطف والهلال والرسالة والبلاغ) على قلمه، وكان قد ابتعث الى مصر لدراسة الطب ولكن أحد أقاربه رأى أنه «صغير على الطب» فتحول الى كلية الآداب في الجامعة الأمريكية في بيروت. أصيب معاوية بعد عودته الى السودان باضطراب نفسي فسلموا أمره (في رائج الروايات)، إلى اختصاصي في طرد الجن من الأجساد، فأشبعه ضربا حتى أهلكه، ورثاه عباس محمود العقاد بقوله: بكائي على هذ الشباب الذي ذوى / وأغصانه تختال في الروض ناميـة/ ويا عارفيــه لا تضنوا بذكره / ففي الذكر رجعى من يد الموت ناجية/ أعيروه بالتذكار ما ضن دهره / به عيشة في مقبـــل العمر راضية
قبل أعوام بعيدة اعتقلت الشرطة السريلانكية دي. بي. جيمس بعد ان جرح والده بسكين، ومع بدء التحقيق معه اتضح انه يعاني من اضطرابات نفسية، فتمت إحالته الى مستشفى لتلقي العلاج، وبقي في المستشفى بضعة أشهر ثم أعيد الى السجن، ولم يتم تقديمه للمحاكمة لأن امثاله لا يعاقبون بالسجن او الإعدام مهما ارتكبوا من جرائم، بل يتم عادة احتجازهم في مستشفيات للأمراض النفسية جيدة الحراسة، الى ان تتحسن أحوالهم النفسية، وبقي دي. بي. جيمس في السجن لعدة سنوات. تفتكر كم؟ خمسة؟ عشرين؟ خمسة وثلاثين؟ غلط.. خطأ .. رونق.. لم يخرج الرجل من السجن إلا بعد ان قضى في السجن خمسين عاما بالتمام والكمال. كان عمره عند اعتقاله 30 سنة ونال حريته وعمره 80 سنة، وفتح عينيه ليرى كم تغيرت الدنيا من حوله فلم يفلح، فقد خرج من السجن كفيفا، وتطوع محام سريلانكي لـ«الدفاع» عن حقوقه، أي الحصول على تعويض مادي، بعد ان قالت السلطات: سوري يا عمو جيمس نسينا أمرك وأنت عارف مشاكل الدنيا والحياة ولو احتجت لأي شيء نحن في خدمتك.
فشلت أيها القارئ في تخمين المدة التي قضاها جيمس في السجن، وهأنذا أعطيك الفرصة لتخمن «مبلغ التعويض» الذي طالب به المحامي وفقا للقانون المدني السريلانكي؟ عشرة ملايين دولار؟ خمسة ملايين؟ ثلاثة ملايين؟ مليون؟ نصف مليون؟ أربعين ألف؟ لا هذي ولا تلك بل فقط 14 ألف دولار. يعني اليوم الواحد من عمر مواطن بائس سقط من ذاكرة البيروقراطية السريلانكية لا يساوي حتى دولارا واحدا. منتهى الظلم والاستخفاف بآدمية إنسان؟ وما رأيك في أن هناك أناسا أحرارا يعملون لدى آخرين نحو 12 ساعة يوميا نظير 3 دولارات أي بأقل من ثلث دولار للساعة!
مثل الظلم الذي وقع على جيمس له نماذج بالطن المتري في كل المجتمعات، تجد في سجن ما شخصين او ثلاثة، تأتيهم الوجبات من المطاعم الفاخرة، وبجانبهم الآلاف لا يتناولون أكثر من وجبتين يوميا من طعام السجن الذي لن تجد ما هو أتعس منه طعما إلا في المستشفيات.
في سجن كوبر الذي اعتقلت فيه في عهد الرئيس السوداني نميري، هناك زنازين تعرف بالبحريات (الشمالية). أكرمني الله بعدم البقاء فيها قط. كانوا يعطوننا في الصبح ثلاثة أرغفة. تأكل واحدة منها مع الفول في الإفطار والثانية مع مرق مجهول الهوية في الغداء والثالثة حاف في العشاء. تلك الزنازين كانت موبوءة بالفئران وكان نزلاؤها يرقدون ويقومون والأرغفة في أيديهم. أي حركة كده وللا كده والفأر يضرب في المليان ويضيع الرغيف. وكانوا ينامون بعد ربط أطراف البيجامات والسراويل بالخيوط اتقاء غزوات الفئران.
في نفس السجن كان زعماء المعارضة الكبار، يقيمون في قسم اسمه «المعاملة» وكان 5 نجوم بمقاييس السجون. يعني حتى الحكومة تعطي معاملة تفضيلية لمن يعارضونها من الكبار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك