زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
جريس وحياة المتاعيس
أحمد الله الذي سخر لنا التكنولوجيا بحيث لم أعد مضطرا إلى متابعة ما تأتي به قنوات التلفزة بوجه عام، فقد صارت قنوات يوتيوب تغنيني عن البث التلفزيوني المباشر وغير المباشر، وأجد فيها مبتغاي من أخبار وتقارير وتوثيق، ثم انتبهت مؤخرا إلى أنني كثيرا ما أتابع في يوتيوب مقاطع فيديو قصيرة، يندرج محتواها تحت مسمى التوافه trivia.
وطالعت في يوتيوب ملخصا لحياة جريس كيلي أميرة موناكو، التي كانت ممثلة مشهورة في هوليوود ثم تزوجت بالأمير رينيه في عام 1956، وعاشت في دائرة الضوء طوال عمرها إلى أن توفيت في حادث سيارة عام 1982، ولم أجد في سيرتها ما يستحق التوثيق والمتابعة، لأن سِيَر وحكايات هذا النوع من البشر لا تستهويني، ولكن استوقفتني معلومة صغيرة عن حياتها، وهي أنها عاشت في موناكو في قصر به 220 غرفة ونحو 180 حماما ودورة مياه، ونعرف عن موناكو أنها إمارة كلها فرفشة دون ضوابط أخلاقية أو قانونية، ومصدر الدخل الأساسي للإمارة يأتي من القمار والهشك بشك، كما أنها وكر معروف للجواسيس الذين يصطادون زوار الإمارة من رجال السياسة والصناعة، وعلى الرغم من أنها كانت تعيش في قصر عدد غرفه أكثر من الشعرات السوداء في رأس أبي الجعافر، إلا أن كاتب سيرتها الذاتية، راندي تارا بوريللي، يقول إنها كانت تحس بالعزلة والتعاسة والوحدة!! وهنا بيت القصيد أيها القارئ الذي لا يعرف «الحمد لله»!! ما عليك أن زيد الذي يعمل معك في نفس المكتب ويتقاضى نفس الراتب، بنى فيلا من ثلاثة طوابق وبها جاكوزي وكراج يتسع لتسع سيارات، وأن أثاث بيته كله من إيطاليا أو كمبوديا، بينما أنت تعيش في شقة مؤجرة من غرفتين والموكيت فيها يعاني من الصلع، وبلاط الحمام مصاب بالأكزيما ويعاني من تشققات لأن مالك العمارة اللئيم امتنع عن صيانة الشقة ليرغمك على إخلائها. من أدراك أن زيداً هذا ربما كان على استعداد للانتقال إلى شقتك البائسة إذا كان يضمن أن يجد فيها راحة البال؟ ربما يحسدك على أن شقتك تشقشق بفرح عيالك ومرحهم كلما دخلت عليهم بسندويتشات الشاورما، التي تشتريها بسعر التكلفة بينما بيته بكل بهائه الخارجي في نظره سجن كئيب بالداخل!
راحة البال والسعادة لا تكمن في البيت الفاخر أو السيارة الفارهة أو الرصيد البنكي ذي الأصفار العديدة.
أذكر أن بيتنا الذي قضيت فيه طفولتي كان بائسا بمقاييس كل الأزمنة: لا ماء مصفى ولا كهرباء. المعزة تنام على بعد كذا متر من سريري. العقارب تتحرك في كل ركن في الأمسيات، والدجاج يتجول داخل الغرف ويخلف وراءه أشياء مقرفة لأنه يعاني من التهاب القولون، والوجبات خالية في معظم الأحيان من اللحم، ولم يكن مفهوما لماذا يحرص أهلنا على تربية الدجاج طالما أنهم لم يكونوا يقدمون لنا البيض ما لم يأتنا ضيف «خمسة نجوم»، لم تكن هناك بيتزا أو بيرغر، ولا كورن فليكس، ولا حتى شرائح جبن، ومع هذا كنا ننام فور وضع رؤوسنا على المخدات المحشوة بملابسنا القديمة، لأن يومنا بطوله كان فرحا ومرحا وشقاوة، وحياتنا لا يعكرها أن فلان لديه تلفزيون 90 بوصة، أو أن سيارتهم طولها تسعة أمتار، كان الطعام القليل المتاح شهيا ويملأ بطوننا، لأنها، أي البطون، كانت مبرمجة على القناعة. لم نكن نحسد شخصا لأن لديه هذا الشيء أو ذاك، وبالتالي لم نكن نحس بالحرمان أو الدونية، وأعترف للمرة الألف بأنني كنت مغرورا بعض الشيء لأنني كنت أذهب إلى المدرسة على ظهر حمار فُل أتوماتيك، أي كان يعرف طريقه من وإلى المدرسة دون حاجة إلى توجيه أو ضرب أو تعشيق! ولم أحس عندما اشتريت أول سيارة جديدة بنوع الفرح الطاغي الذي غمرني عندما صار عندي حمار «فور كوارع»!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك