العدد : ١٧١٨٢ - الثلاثاء ٠٨ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨٢ - الثلاثاء ٠٨ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الاستحمام المؤدي إلى الحِمام*

في‭ ‬سياق‭ ‬ممارستي‭ ‬لصدام‭ ‬الحضارات،‭ ‬أثناء‭ ‬ابتعاثي‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬سردت‭ ‬عليكم‭ ‬تجربتي‭ ‬مع‭ ‬الحمامات‭ ‬في‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬الشباب‭ ‬الكاثوليكي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أسكننا‭ ‬فيه‭ ‬معهد‭ ‬الوسائط‭ ‬الإعلامية‭ ‬الذي‭ ‬ابتعثنا‭ ‬لدراسة‭ ‬فنون‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني‭ ‬فيه،‭ ‬وكانت‭ ‬بلا‭ ‬أبواب،‭ ‬وكنت‭ ‬والسودانيون‭ ‬الأربعة‭ ‬نضطر‭ ‬إلى‭ ‬الاستحمام‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬الثالثة‭ ‬فجرا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬يهجع‭ ‬قليلو‭ ‬الحياء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يقاسموننا‭ ‬السكن،‭ ‬ولم‭ ‬يكونوا‭ ‬يرون‭ ‬بأسا‭ ‬في‭ ‬الاستحمام‭ ‬عراة‭ ‬أمام‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الرحيل‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬آخر‭ ‬للسكن،‭ ‬واختار‭ ‬لي‭ ‬الجماعة‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬السكن‭ ‬مع‭ ‬عائلة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬كامدن‭ ‬تاون‭ ‬وبالتحديد‭ ‬قرب‭ ‬محطة‭ ‬تافنيل‭ ‬بارك‭ ‬لقطار‭ ‬الأنفاق‭ (‬التيوب‭). ‬واستقبلتني‭ ‬سيدة‭ ‬البيت‭ ‬مسز‭ ‬وايت،‭ ‬ببشاشة‭ ‬وترحاب،‭ ‬وكانت‭ ‬وايت‭ ‬اسما‭ ‬ولونا‭ ‬أي‭ ‬بيضاء،‭ ‬خواجية،‭ ‬وكان‭ ‬لديها‭ ‬ولد‭ ‬شاب‭ ‬وبنتان‭ ‬صغيرتان‭. ‬التقيت‭ ‬بولدهما‭ ‬مرة‭ ‬واحدة،‭ ‬بينما‭ ‬نشأت‭ ‬مودة‭ ‬عميقة‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الطفلتين،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬أمهما‭ ‬كانت‭ ‬تزجرهما‭ ‬كلما‭ ‬صاحتا‭ ‬فرحتين‭ ‬كلما‭ ‬دخلت‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬المساء‭.‬

كانت‭ ‬غرفتي‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬وكانت‭ ‬واسعة‭ ‬لأنها‭ ‬تضم‭ ‬مطبخا‭ ‬صغيرا،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬به‭ ‬ثلاجة،‭ ‬وكان‭ ‬الوقت‭ ‬شتاء‭ ‬عندما‭ ‬انتقلت‭ ‬للعيش‭ ‬مع‭ ‬آل‭ ‬‮«‬وايت‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬أهم‭ ‬انجاز‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مستقلة‭ ‬خارج‭ ‬بيت‭ ‬الشباب‭ ‬الكاثوليكي‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬طبخ‭ ‬بعض‭ ‬الوجبات‭ ‬بنفسي‭. ‬كل‭ ‬قروي‭ ‬سوداني‭ ‬اضطرته‭ ‬الظروف‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬مضطرا‭ ‬لتعلم‭ ‬بعض‭ ‬أساسيات‭ ‬فن‭ ‬الطبخ،‭ ‬لأنه‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬العزاب‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬السودانية،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬يطبخ‭ ‬لنفسه‭ ‬طعاما‭ ‬شهيا‭ ‬خاليا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شبهة‭ ‬للانتماء‭ ‬الى‭ ‬نسل‭ ‬الخنازير‭: ‬بيض‭ ‬مسلوق‭ ‬وبيض‭ ‬مقلي‭ ‬وبيض‭ ‬مفروم‭ ‬وبيض‭ ‬محمر‭ ‬وبيض‭ ‬بالبخار‭ ‬وبيض‭ ‬بالساونا‭ ‬وبيض‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬عيون‮»‬‭.. ‬وعدس‭.. ‬كنت‭ ‬اطبخ‭ ‬حلة‭/ ‬طنجرة‭/ ‬قدراً‭ ‬من‭ ‬العدس‭ ‬يكفيني‭ ‬أسبوعين‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬وأضعها‭ ‬على‭ ‬الشباك‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أضع‭ ‬اللبن‭ ‬والعصير‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬الى‭ ‬تبريد،‭ ‬وكان‭ ‬طقس‭ ‬لندن‭ ‬يقوم‭ ‬بتلك‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الثلاجة،‭ ‬ويشهد‭ ‬لي‭ ‬كثيرون‭ ‬بالمهارة‭ ‬في‭ ‬طبخ‭ ‬العدس‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬طريقة‭ ‬إعداده‭ ‬معقدة‭ ‬للغاية‭: ‬تضع‭ ‬العدس‭ ‬في‭ ‬إناء‭ ‬به‭ ‬ماء‭ ‬وترمي‭ ‬فيه‭ ‬بصلة‭ ‬واحدة‭ ‬مقشرة‭ ‬او‭ ‬غير‭ ‬مقشرة‭ ‬و‭.. ‬خلاص‭.. ‬وإذا‭ ‬أردت‭ ‬ان‭ ‬تتفلسف‭ ‬فإنك‭ ‬تضيف‭ ‬اليه‭ ‬الملح‭ ‬والفلفل‭ ‬والكمون‭ ‬وبالهناء‭ ‬والشفاء‭. ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أذوق‭ ‬اللحم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬الأسر‭ ‬السودانية‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نزورها‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الإضراب‭ ‬عن‭ ‬اللحم‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التقشف‭ ‬فهذه‭ ‬الكلمة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان،‭ ‬ولكنني‭ ‬صرت‭ ‬أخاف‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالبهائم‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬اكتشفت‭ ‬ان‭ ‬السجق‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬اطفحه‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬قرب‭ ‬المعهد‭ ‬الدراسي‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬ملتحقا‭ ‬به،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬الخنزير‭ ‬بن‭ ‬الكلب‭.‬

في‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬آل‭ ‬وايت،‭ ‬رتبت‭ ‬أشيائي‭ ‬القليلة‭ ‬ثم‭ ‬توجهت‭ ‬للحمام‭ ‬وأنا‭ ‬أقفز‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬السعادة‭: ‬أخيرا‭ ‬سأستحم‭ ‬في‭ ‬حمام‭ ‬به‭ ‬باب‭ ‬يستر‭ ‬كامل‭ ‬جسمي،‭ ‬و«وزنت‭ ‬وضبطت‮»‬‭ ‬الماء‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬مائلا‭ ‬للدفء‭ ‬وطفقت‭ ‬أغني‭ ‬مستمتعا‭ ‬بالماء‭ ‬الفاتر،‭ ‬وغسلت‭ ‬شعر‭ ‬رأسي‭ ‬سبع‭ ‬مرات‭ ‬إحداهن‭ ‬بالحجر‭ ‬المخصص‭ ‬للأقدام‭. ‬كنت‭ ‬أردد‭ ‬أغنية‭ ‬وطنية‭ ‬سودانية‭: ‬يا‭ ‬نيلنا‭/ ‬يا‭ ‬ارضنا‭ ‬الخضراء‭ ‬يا‭ ‬حقل‭ ‬السنا‭/ ‬يا‭ ‬مهد‭ ‬أجدادي‭ ‬ويا‭ ‬كنزي‭ ‬العزيز‭ ‬المقتنى‭/.. ‬وفجأة‭ ‬تحول‭ ‬النشيد‭ ‬الى‭: ‬يا‭ ‬يمة‭.. ‬يا‭ ‬أبوي‭.. ‬يا‭ ‬مسز‭ ‬وايت‭.. ‬هيلب‭.. ‬الحقوني‭.. ‬النجدة،‭ ‬فمن‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬نزل‭ ‬على‭ ‬جسمي‭ ‬ماء‭ ‬قطبي‭.. ‬ثلج‭ ‬سائل‭.. ‬وصار‭ ‬جسمي‭ ‬يختلج‭: ‬هبببب‭ .. ‬افففف‭ .. ‬وجاءت‭ ‬مسز‭ ‬وايت‭ ‬منزعجة‭ ‬وصاحت‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬الحمام‭: ‬آر‭ ‬يو‭ ‬أولرايت؟‭ ‬لا‭ ‬يا‭ ‬ستي‭ ‬أنا‭ ‬أول‭ ‬رونق‭.. ‬الماء‭ ‬الدافئ‭ ‬تحول‭ ‬الى‭ ‬ثلج‭.. ‬طلبت‭ ‬مني‭ ‬الف‭ ‬جسمي‭ ‬جيدا‭ ‬وأخرج‭ ‬من‭ ‬الحمام‭ ‬وأجلس‭ ‬قرب‭ ‬المدفأة‭.. ‬ففعلت‭.. ‬وشرحت‭ ‬لي‭ ‬الأمر‭: ‬كلما‭ ‬أردت‭ ‬ان‭ ‬تستحم‭ ‬ادخل‭ ‬قطعة‭ ‬معدنية‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬عشرة‭ ‬بنسات‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬الحمام،‭ ‬وما‭ ‬حصل‭ ‬هو‭ ‬أنك‭ ‬استحممت‭ ‬ببقايا‭ ‬ماء‭ ‬دافئ،‭ ‬ظلت‭ ‬في‭ ‬الماسورة‭ ‬بعد‭ ‬استحمام‭ ‬أحد‭ ‬عيالي،‭ ‬ولما‭ ‬‮«‬خلصت‭ ‬الفلوس‮»‬‭ ‬تحول‭ ‬الماء‭ ‬الى‭ ‬ثلج‭.. ‬المهم‭ ‬شكرتها‭ ‬وتدثرت‭ ‬جيدا‭ ‬ونمت،‭ ‬ثم‭ ‬استيقظت‭ ‬وجسمي‭ ‬كله‭ ‬يهتز‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬فصحت‭ ‬مجددا‭: ‬يا‭ ‬يمه‭.. ‬يا‭ ‬مسز‭ ‬وايت،‭ ‬فجاءت‭ ‬مذعورة‭ ‬ولكنها‭ ‬أدركت‭ ‬سر‭ ‬الصرخة،‭ ‬وشرحت‭ ‬لي‭ ‬ان‭ ‬المدفأة‭ ‬أيضا‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬تغذية‭ ‬بالقطع‭ ‬النقدية‭ ‬وعندها‭ ‬أدركت‭ ‬خطأ‭ ‬إرسال‭ ‬شخص‭ ‬ينتمي‭ ‬الى‭ ‬عصر‭ ‬البخار‭ ‬الى‭ ‬بلد‭ ‬كان‭ ‬يقود‭ ‬نهضة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

*‭ ‬الحمام‭ ‬بكسر‭ ‬الحاء‭ ‬هو‭ ‬الموت‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا