زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لا تحسبوا أننا كنا تعساء
ووطني اليوم يتعرض للدمار الشامل، لأن من يتقاتلون على السلطة فيه لا يعنيهم من أمره شيء سوى أن يوفر لهم الكراسي الوثيرة ليجلسوا عليها، ويتحكموا في الرقاب والعباد ويقضوا على ما تبقى فيه من ثروات، فإن الحنين يشدني الى مراتع الصبا، وأقول هذا وأنا مدرك أن فيض ذكريات طفولتي على مدى الأيام الماضية قد يعطي الانطباع بأنني عشت حياة بائسة وعانيت من الفقر وشظف العيش، في حين أنه، في واقع الأمر لم يكن حتى الكبار من أهلنا يعرفون ما هو وكيف يكون الفقر، ليس بمنطق «الموت مع الجماعة عرس»، أي أنه لو كان جميع من يعيشون حولك لا تختلف ظروف معيشتك على صعوبتها عن ظروفهم، فمعنى هذا أنك لا تحس بالحرمان من أي شيء، ولكن بمعنى أننا كنا «واكلين وشاربين»، بل لا أذكر أنه كانت هناك عائلة واحدة في بلدتنا لا تجد قوتها لسنة كاملة. نعم مستويات المعيشة كانت متقاربة، ولم نكن نعرف البيرغر والكلب الساخن (هوت دوغ) ولا الاستيك ولا البفتيك، (الغريب في الأمر أنني أذكر أول مرة دعاني فيها صديق لعشاء باربكيو، فهيأت نفسي لطعام من الأصناف التي نراها في الأفلام السينمائية، وتعشينا وحرصت على عدم الإكثار من اللحم في انتظار الباربكيو، ثم فوجئت بمن حولي ينصرفون بعد أن شكروا صاحب الدعوة على الباربكيو الجميل، وكدت أصيح فيهم: يا أولاد الـ.. أنا أكلت اللحم المشوي قبل أن تنبت أسناني، فأطلقتم عليه اسم دلع.. وفرحانين أوي؟).
كانت عندنا وفرة في المواد الغذائية، وكنا نأكل مما نزرع (فعلا، وليس مجرد شعار كما فعلت حكومة عمر البشير ثم انتهى بنا الأمر لا نزرع ولا نأكل)، فقد كان كل شبر من بلدتنا مغطى بالخضرة، وكان بيع الخضراوات «عيب»، وبالتالي كان مسموحا لأي امرأة أن تمر بحقل فيه خضراوات وتجمع منه قدر حاجتها، وكان بيع اللبن والسمن «عيب،» فمن كان لديه فائض من تلك الأشياء كان يوزعها على الأقارب والجيران، وبما أن أبي لم يكن مزارعا فلم نكن نملك أبقارا، ولم تكن محاصيل الأرض الزراعية التي ورثناها من ناحيتي جدي الأب والأم تخصنا في شيء بل كنا كما غيرنا نعمل بمنطق «الأرض لمن يفلحها»، ومع هذا فقد كان اللبن الطازج والرائب والسمن متوافرة على الدوام في بيتنا، ولم تكن لدينا أشجار نخيل لأنه لا أبي ولا إخوته (أعمامي) عملوا بالزراعة، بل «اغتربوا» في المدن الكبيرة، ومع هذا كانت في بيتنا كميات مهولة من التمر، فقد كانت العادة عندنا توزيع كميات بسيطة من التمر على كل الأطفال بمجرد اكتمال الحصاد، وبعدها كان يتم إرسال كميات كبيرة من التمر إلى البيوت التي لا يملك أصحابها أشجار نخيل.
وخلال مرحلة الصبا كرهت التمر «كراهية التحريم»، ففي الصباح كانوا يملأون جيوبنا بالتمر قبل أن نتوجه إلى المدارس، وإذا عانيت من قرصة جوع فعندك البلح.. لم تكن كلمة «تصبيرة» التي تعني وجبة خفيفة تسند البطن لحين حلول موعد الوجبة التالية، قد دخلت قاموس أهلنا بعد، وعندما كنت أتمرد رافضا التمر بحجة أنه يجرح لثتي (نزرع في شمال السودان فقط تمورا طويلة الأجل، أي قابلة للتجفيف وصالحة للأكل لسنوات) كانت أمي تنقع التمر في الماء وتمد لي في اليوم التالي، وأنا ذاهب إلى المدرسة كيسا لو رأيته اليوم لحسبته، شريطا/ شاشا طبيا انتزع من جسم رجل أصيب بنزف حاد لأن التمر المبتل يصبغ الكيس باللون الأحمر، أخذا في الاعتبار أن الكيس نفسه قد يكون بقايا كفن جدك الرابع وتعرض للصبغ عدة مرات (كنا نشتري الأقمشة بيضاء اللون ونصبغها بما نشاء من ألوان مستخدمين مادة كنا نسميها «التفته»).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك