العدد : ١٧٣٣٨ - الخميس ١١ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٨ - الخميس ١١ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

حزنت لمصير السيارة

يقول‭ ‬مثل‭ ‬دراج‭ ‬إن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يختار‭ ‬أقاربه،‭ ‬ولكنه‭ ‬بمقدوره‭ ‬اختيار‭ ‬جيرانه،‭ ‬ولكن‭ ‬حرية‭ ‬اختيار‭ ‬الجار‭ ‬ليست‭ ‬صحيحة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحوال،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أنت‭ ‬مالك‭ ‬البيوت‭ ‬المجاورة‭ ‬لبيتك،‭ ‬أو‭ ‬أحمق‭ ‬وتترك‭ ‬بيتك‭ ‬لأن‭ ‬جارك‭ ‬شخص‭ ‬لا‭ ‬يطاق‭.‬

ومصداقا‭ ‬لبعض‭ ‬هذا‭ ‬إليكم‭ ‬حكاية‭ ‬تعود‭ ‬وقائعها‭ ‬إلى‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬خلت‭: ‬غريهام‭ ‬جونز‭ ‬مزارع‭ ‬من‭ ‬إقليم‭ ‬ويلز‭ ‬البريطاني،‭ ‬وكان‭ ‬يبلغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬67‭ ‬سنة،‭ ‬وظل‭ ‬يعاني‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬مشكلة‭ ‬مستعصية‭ (‬في‭ ‬تقديره‭) ‬وهي‭ ‬ان‭ ‬لجاره‭ ‬وينفريد‭ ‬جونز،‭ ‬البالغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬93‭ ‬سنة،‭ ‬ساعة‭ ‬حائط‭ ‬قديمة‭ ‬تمنع‭ ‬دقاتها‭ ‬ورنينها‭ ‬السيد‭ ‬غريهام‭ ‬من‭ ‬النوم،‭ ‬فكان‭ ‬ان‭ ‬لجأ‭ ‬الى‭ ‬الشرطة‭ ‬والقضاء‭ ‬لإرغام‭ ‬الجار‭ ‬على‭ ‬إزالة‭ ‬الساعة‭ ‬او‭ ‬إيقافها،‭ (‬تذكّر‭ ‬أن‭ ‬كلا‭ ‬منهما‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬خاص‭ ‬ومنفصل،‭ ‬ولكن‭ ‬ملتصق‭ ‬بالآخر‭) ‬فأجرت‭ ‬الشرطة‭ ‬تحرياتها‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬واستعانت‭ ‬بجماعة‭ ‬حماية‭ ‬البيئة‭ ‬لقياس‭ ‬مدى‭ ‬التلوث‭ ‬الصوتي‭ ‬الذي‭ ‬تسببه‭ ‬الساعة،‭ ‬وقررت‭ ‬ان‭ ‬الإزعاج‭ ‬المزعوم‭ ‬الذي‭ ‬تسببه‭ ‬الساعة‭ ‬في‭ ‬الحدود‭ ‬المصرح‭ ‬بها،‭ ‬ثم‭ ‬ضاقت‭ ‬الشرطة‭ ‬ذرعا‭ ‬بشكاوى‭ ‬عمو‭ ‬غريهام‭ ‬ووجهت‭ ‬اليه‭ ‬تحذيرا‭ ‬بعدم‭ ‬مضايقتها‭ ‬او‭ ‬مضايقة‭ ‬الجار‭ ‬العجوز،‭ ‬فغضب‭ ‬غريهام‭ ‬وطنطن‭ ‬لأن‭ ‬الساعة‭ ‬بحسب‭ ‬الإحصاءات‭ ‬التي‭ ‬أجراها‭ ‬تدق‭ ‬وترن‭ ‬639‭ ‬مرة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬مساء‭ ‬والسابعة‭ ‬والنصف‭ ‬صباحا،‭ ‬ولأنه‭ ‬كلما‭ ‬دقت‭ ‬جلس‭ ‬في‭ ‬سريره‭ ‬متوترا‭ ‬بانتظار‭ ‬الدقة‭ ‬التالية‭. ‬ولما‭ ‬يئس‭ ‬غريهام‭ ‬من‭ ‬عدالة‭ ‬القضاء‭ ‬البريطاني‭ ‬اتخذ‭ ‬إجراء‭ ‬حاسما‭ ‬لوضع‭ ‬حد‭ ‬لمعاناته‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الساعة‭. ‬انتحر‭ ‬بأن‭ ‬جلس‭ ‬في‭ ‬سيارته‭ ‬وسكب‭ ‬البنزين‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬أحكم‭ ‬إغلاق‭ ‬أبواب‭ ‬السيارة‭ ‬وأشعل‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬حتى‭ ‬تفحم‭.‬

وبداهة‭ ‬فقد‭ ‬انفطر‭ ‬قلبي‭ ‬حزنا‭ ‬على‭ ‬السيارة‭ ‬المسكينة‭ ‬التي‭ ‬احترقت‭ ‬مع‭ ‬عمو‭ ‬غريهام‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬نفسه‭ - ‬في‭ ‬اعتقادي‭ - ‬لانه‭ ‬كان‭ ‬رجلا‭ ‬حقودا‭ ‬ويريد‭ ‬حرمان‭ ‬جاره‭ ‬جونز‭ ‬ذو‭ ‬الـ93‭ ‬‮«‬ربيعا‮»‬‭ ‬من‭ ‬متعة‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بساعة‭ ‬أثرية،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬غريهام‭ ‬هذا‭ ‬جارا‭ ‬لأسرة‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬عربية،‭ ‬لانتحر‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬عامه‭ ‬الثاني،‭ ‬فلأن‭ ‬الجار‭ ‬العربي‭ ‬مجبول‭ ‬على‭ ‬الكرم‭ ‬فإنه‭ ‬يفتح‭ ‬جهاز‭ ‬التلفزيون‭ ‬عنده‭ ‬بحيث‭ ‬يسمع‭ ‬الجيران‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬برنامج‭ ‬او‭ ‬مسلسل‭ ‬او‭ ‬فيلم،‭ ‬وعندما‭ ‬يأتي‭ ‬زائر‭ ‬لهذا‭ ‬الجار‭ ‬الساكن‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬عمارة‭ ‬ذات‭ ‬ثلاثين‭ ‬طابقا،‭ ‬فإنه‭ ‬يقف‭ ‬امام‭ ‬مدخل‭ ‬العمارة‭ ‬ويزمّر‭ ‬ببوق‭ ‬سيارته‭ ‬للفت‭ ‬انتباه‭ ‬الجار‭ ‬الى‭ ‬انه‭ ‬وصل‭. ‬وبعض‭ ‬الضيوف‭ ‬العرب‭ ‬يأتونك‭ ‬مساء،‭ ‬ويودعونك‭ ‬بعد‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬بإجراءات‭ ‬مصافحة‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬إجراءات‭ ‬التحية‭ ‬عند‭ ‬اللقاء،‭ ‬ثم‭ ‬يمتطون‭ ‬سياراتهم‭ ‬ويزمرون‭ ‬بيب‭ ‬بيب‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬تحية‭ ‬الوداع‭. ‬فنحن‭ ‬شعوب‭ ‬ودودة‭ ‬وحبوبة‭ ‬ولكننا‭ ‬نفتقر‭ ‬الى‭ ‬الذوق‭ ‬في‭ ‬تعاملنا‭ ‬اليومي‭ ‬مع‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض،‭ ‬فبنا‭ ‬جلافة‭ ‬عجيبة‭. ‬تمسك‭ ‬بالباب‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬ليمر‭ ‬من‭ ‬يسير‭ ‬خلفك‭ ‬فيلج‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يشكرك‭ ‬وكأنك‭ ‬بواب‭ ‬عند‭ ‬الذين‭ ‬خلّفوه‭. ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬تلقي‭ ‬التحية‭ ‬على‭ ‬أحدهم‭ ‬فإنه‭ ‬قد‭ ‬يتجاهلك‭ ‬او‭ ‬يرد‭ ‬عليها‭ ‬وكأنك‭ ‬زوج‭ ‬طليقته‭ ‬التي‭ ‬هجرته‭ ‬بأمر‭ ‬قضائي‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬اساء‭ ‬معاملتها‭.‬

ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬فقد‭ ‬عوّدتني‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬إزعاج‭ ‬الجيران،‭ ‬ففي‭ ‬طفولتي‭ ‬كنت‭ ‬أصحو‭ ‬على‭ ‬نهيق‭ ‬الحمير‭ ‬وثغاء‭ ‬الماعز‭ ‬وصياح‭ ‬الديكة‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬وبيوت‭ ‬جيراننا،‭ ‬والبيت‭ ‬السوداني‭ ‬يكون‭ ‬عادة‭ ‬‮«‬حوش‮»‬‭ ‬أي‭ ‬فناء‭ ‬ضخم‭ ‬تناثر‭ ‬حوله‭ ‬الغرف‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عشوائي‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬يتبادل‭ ‬الجيران‭ ‬الونسة‭ ‬والاخبار‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬الجدران،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يكونوا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬وجوه‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬والديك‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬النوبة‭ ‬السوداني‭ ‬كائن‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬خلل‭ ‬في‭ ‬ساعته‭ ‬البيولوجية‭ ‬فتسمعه‭ ‬يصيح‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬مساء‭ ‬والثانية‭ ‬صباحا،‭ ‬وبعض‭ ‬الديكة‭ ‬عندنا‭ ‬تشبه‭ ‬الساعة‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬عمو‭ ‬غريهام‭ ‬الى‭ ‬الانتحار‭ ‬لأنها‭ ‬تصيح‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬كل‭ ‬ساعة‭.‬

وبرغم‭ ‬جلافتنا‭ ‬فإنني‭ ‬أفضل‭ ‬السكن‭ ‬قرب‭ ‬زريبة‭ ‬بهائم‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الحظائر‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬جارا‭ ‬لأسرة‭ ‬من‭ ‬الفرنجة،‭ ‬لأنهم‭ ‬قوم‭ ‬لا‭ ‬يقيمون‭ ‬وزنا‭ ‬للعلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ينكسرون‭ ‬ويتهاوون‭ ‬ازاء‭ ‬أي‭ ‬انتكاسة‭ ‬ويهربون‭ ‬من‭ ‬مشاكلهم‭ ‬بالانتحار‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا