زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الخرتاية للمدرسة وللمعزة
لكم كتبت باعتزاز عن جوانب من سيرتي طفل في قرية نوبية لم تعرف الكهرباء ولا السيارات، تذكرت الشاعر الأموي جرير بن عطية عندما سأله أحدهم عن أشعر العرب، فقال للسائل ما معناه: انظر هناك إلى أبي الذي يرضع من ضرع العنزة، وشاعر يفاخر شعراء العرب بمثل هذا الأب ويفحمهم لهو أشعر العرب، ولست في قامة جرير، ولكنني لا «أستعر» مما قد يبدو بؤس حالي في طفولتي وصباي.
كنت في المدرسة الابتدائية أملك جلبابين، وفور العودة من المدرسة كان علي خلع الجلباب ليخضع للغسيل، فارتدي الجلباب الثاني ليرتاح الأول 24 ساعة، وكان الزي الرسمي يتألف من الجلابية والعمامة، ولكننا لم نكن نستخدم العمائم السودانية أم خمسة أمتار (ظهر في السنوات الأخيرة سودانيون يلفون حول رؤوسهم عمائم طولها عشرة أمتار، وكلما رأيتهم قلت: كان الله في عونكم ورؤوسكم تعاني من الكبت وانعدام الأوكسجين)، فقد كانت عمامة التلميذ بطول متر واحد، ولأن القماش الذي تصنع منه العمائم غالي الثمن، فلم يكن أي منا في تلك المرحلة التعليمية يملك أكثر من عمامة واحدة، وكنا نذهب الى المدرسة حاملين كتبنا ودفاترنا في كيس من القماش كنا نسميه «خُرْتاية»، وهي كلمة يطلقها سودانيو الأرياف إلى يومنا هذا على الأكياس المصنوعة من القماش أو شعر/ وبر البهائم، وكان التلاميذ يسيرون في الشوارع حاملين خرتايات مختلفة الألوان، لأنها في الأصل أكياس مخدات صلاحيتها موشكة على الانتهاء، وكانت أمهاتنا يقمن بخياطتها، ومن ثم ترقيعها كل بضعة أسابيع، واستحقت تلك الأكياس مسمى «حقائب سوس نايت» لأنها كانت كثيرة الثقوب، لأننا إلى جانب الكتب والدفاتر كنا نضع فيها التمر والدوم والنبق (الذي يسميه أهل الخليج كنار) وأي شيء صالح للأكل، وكم كان يحز في نفسي أن أمي، وكما قلت بالأمس، كانت أحيانا تخرج كتبي ودفاتري من ذلك الكيس المُسوِّس/ الخرتاية، لتستخدمه كسوتيان لمعزة نفساء (أنجبت قبل فترة قصيرة)، لمنع البيبي المسكين من رضع نصيب العائلة من اللبن، وبالمناسبة فقد كان جيل أمهاتنا يصنع السوتيان «الشخصي» من قطع القماش المتاحة باستخدام الإبرة والخيط وكانوا يسمونه «كركة» بفتح الكافين والراء، وإنصافا لهن فإنهن كن أحيانا يلبسن كركاتهن للماعز المرضعات (من منطلق أن الحالة واحدة، فقد كانت الغنم تعيش معنا في نفس الحوش).
وبعد خلع الزي المدرسي في البيت كنا نرتدي القمصان التي يسمي السودانيون الواحد منها «عرّاقي» بفتح العين وفتح الراء المشددة، وجاءت التسمية لكون أحد مهام ذلك القميص الأساسية كانت ولا تزال امتصاص العرق، وإلى يومنا هذا فإنني لا أجلس داخل البيت إلا مرتديا العراقي وهو جلابية «ميني جيب» أي تنتهي تحت الركبة بقليل، ومريحة جدا، وحتى جلابيبنا مريحة مقارنة بالجلابيب الخليجية، لأنها واسعة وفضفاضة وبالتالي تسمح بـ«تهوية» الجسم في بلادنا التي ليس فيها ربيع جغرافي أو سياسي، ويخيل إليك وأنت في السودان صيفا أن لكل مواطن شمسا تتبعه أينما حلّ، وهي على ارتفاع خمسين مترا، وحتى بعد الغروب يخيل إليك أن الشمس مختبئة في مكان قريب وترسل إليك اللهيب، مستعينة بالقمر والنجوم، وكان العراقي على أيامنا يصنع من قماش يسمى الدمورية، وتقابل شخصا يرتدي عراقيا جديدا فتحسب أن جيوشا من القمل موزعة في كل شبر منه، لأن الدمورية تصنع من «بواقي وفضلات» القطن، أي بعد فرز القطن الجيد، لصنع أقمشة فاخرة، فتحمل تلك الفضلات أجزاء «مدروشة» من بذور القطن تشبه القمل.
وعلى بؤس العراقي وهو جديد، فقد كنا نلطخه بالبلاوي التي كنا نأكلها، وأكثرها بصمات على الملابس «القلّو» وهي كلمة نوبية تعني التمر الأخضر وطعمه مر إذا أكلته من دون إزالة القشرة الخضراء، وإذا أزلت تلك القشرة تلوث العراقي بلون أخضر داكن، لم يكن الصابون المتاح وقتها قادرا على مسحه، (ويا ما نصحت أمي باستخدام الكلوروكس والكمفرْت - لا تقل كمفورت - ولكنها كانت تراوغ وتقول لي: إن شاء الله أول ما يخترعوا البتاعات دي سأستخدمها في الغسيل).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك