زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
نحن جيل القفزات الهائلة
كما جميع القرويين، المحرومون مما يسمى بأدوات العصر، كنت لسنوات طويلة- مثلا- أعجب لمصابيح الإنارة التي لا تنطفئ مهما كانت قوة الرياح التي تجتاح المكان، وحتى بعد أن التحقت بالتلفزيون السوداني معدا ومقدما لبعض البرامج، كنت مشدوها لا أصدق الكثير مما أراه حولي، حتى خيوط الماء التي كانت تنزل رفيعة من «الدوش» كانت تدهشني، وما زالت هناك طفرات تكنولوجية صارت من البديهيات عند كثيرين أعجز عن فهم كيفية عملها: كيف أمسك بجهاز صغير وأضعه على أذني، وأتكلم وأنا في كراتشي مع شخص في بوركينا فاسو؟ وعندما كانت التلفونات بأسلاك كانت المسألة مفهومة إلى حد ما، بافتراض أن الأسلاك تلك تتولى توصيل الكلام بطريقة أو بأخرى، ولكن حتى في عهد الهواتف السلكية، لم أكن أفهم كيف يسافر كلامي من الخرطوم إلى لندن وأنا أعلم أنه لا أسلاك ممتدة بين المدينتين، وإلى يومنا هذا لا أستطيع التكلم مستخدما التلفون بصوت منخفض، ربما لأن أول هواتف تعاملنا معها كانت مصابة بصمم جزئي، فكان لابد من الصراخ لتوصيل الكلام واستقباله بين الطرفين، وما زلت أعجب من قدرات البعض على التحدث هاتفيا بصوت منخفض لا تسمعه حتى وأنت جالس جوار المتحدث، وهناك أناس يجيدون المكالمات الهامسة خوف «الانقفاش»، وهم في الغالب من يتآنسون مع الحبيب/ الحبيبة في أوقات تكون فيها حرية التعبير مقيدة، ومعروف أن كثيرين من الشباب من الجنسين الذين تربطهم علاقة حب معترف أو غير معترف بها من قبل أهل الطرفين، يجرون مكالمات هامسة أو شبه صامتة في «أنصاص» الليالي، وقد يكون سرير الفتاة - مثلا - على بعد مترين من سرير أمها أو أختها، وتظل تتحدث مع حبيب القلب لساعتين دون أن يتسلل الكلام إلى آذان الأم أو الأخت، وحتى لو حدث التسلل وجاء التساؤل: بسم الله الرحمن الرحيم. مالك تكلمي روحك تحت البطانية؟ هنا، إما أن تتصنع الفتاة النوم وتبقى صامتة، أو تقول بدورها: بسم الله الرحمن الرحيم.. كابوس فظيع.. شكرا لأنك صحيتيني! وفي مثل هذه الحالات يعرف الحبيب على الطرف الآخر أن ظروفا اضطرارية جعلت منه كابوسا.
لنترك الهاتف في حاله، وتعالوا الى التلفزيون الذي تجده في كل بيت، واسمحوا لي وقد أمضيت ربع قرن ونيف أعمل في شبكات تلفزيونية عملاقة، بأن اعترف بأنني مش فاهم إزاي المذيع يتكلم في واشنطن - مثلا - وأنا أسمعه وأراه في نفس الثانية وأنا في طوكيو، وكيف لا تتلخبط وتتخربط وتتشربك الصور والأصوات الصادرة عن سي إن إن مع تلك الصادرة من بي بي سي والفضائيات الليبية والبوركينا فاسوية، مع أنها كلها طائرة في فضاء الله الواسع ولا توجد ممرات خاصة بكل قناة. يا جماعة نحن جيل كان الواحد منا إذا وجد فرصة للاستفراد بجهاز راديو (وكانت الراديوهات في زماننا في حجم مكيفات الهواء)، نتسلل خلفه وننظر عبر ثقوبه العديدة لرؤية القزم الثرثار الجالس بداخله، وكنا نعتبر كل جهاز نعجز عن فهم أسلوب عمله من إنجازات «الحكومة»، وأيقنا بأن الأمر يتعلق بالسحر، عندما فكرنا في الأغاني وكيف أنها تتطلب وجود مطرب ومجموعة من العازفين لا يمكن حشرهم في صندوق صغير حتى لو كان الواحد منهم قزما طوله قدم واحد وعرضه خمسة سنتيمترات.
ولهذا أعتقد أن جيلنا محظوظ، فقد ركب قطارات البخار ثم الديزل ثم الكهرباء، وشهدنا عصر المراوح، ثم مكيفات الهواء التي تعمل بالماء ثم بالغاز ثم الصنف المركزي (السنترال)، وبعد أن كنا نشرب الماء من الزير، صار أهلنا يرسلوننا لشراء ربع لوح ثلج، ثم لم تعد بنا حاجة إلى الثلج، بعد أن اكتشفنا الثلاجات، واعترف بأنني إلى يومنا هذا لا أفهم كيف يصبح كل ما تضعه في الثلاجة باردا رغم أنها تعمل بحرارة الكهرباء.. يا ما أنت كريم يا رب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك