العدد : ١٧٠١٥ - الأربعاء ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠١٥ - الأربعاء ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

اجترار ما كان

أقف‭ ‬مجددا‭ ‬باكيا‭ ‬على‭ ‬الأطلال،‭ ‬ممجدا‭ ‬لأمور‭ ‬‮«‬قديمة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬متباهيا‭ ‬بأنني‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬مواكبة‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬العصر،‭ ‬رغم‭ ‬مما‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬‮«‬خُسْر‮»‬،‭ ‬وأقول‭ ‬مجددا‭ ‬إن‭ ‬الحظ‭ ‬أسعدني‭ ‬بأن‭ ‬لحقت‭ ‬بالعصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للصحافة،‭ ‬وهو‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬الصحف‭ ‬تبيع‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬النسخ‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬قليلة‭ ‬السكان،‭ ‬ومئات‭ ‬الآلاف‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬متوسطة‭ ‬تعداد‭ ‬السكان،‭ ‬وحتى‭ ‬نهاية‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬حتى‭ ‬المجلات‭ ‬العربية‭ ‬رغم‭ ‬ارتفاع‭ ‬أسعارها‭ ‬تبيع‭ ‬كميات‭ ‬ضخمة،‭ ‬وكانت‭ ‬معظم‭ ‬المجلات‭ ‬العربية‭ ‬الناجحة‭ ‬لبنانية‭ ‬أو‭ ‬مصرية،‭ ‬ولكن‭ ‬مجلتي‭ ‬العربي‭ ‬الكويتية‭ ‬والدوحة‭ ‬القطرية‭ ‬الشهريتين‭ ‬والمكرستين‭ ‬تماما‭ ‬للشأن‭ ‬الثقافي‭ ‬كانتا‭ ‬تتمتعان‭ ‬بتوزيع‭ ‬ضخم،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬الخرطوم‭ ‬كانت‭ ‬تشهد‭ ‬طوابير‭ ‬أمام‭ ‬أكشاك‭ ‬بيع‭ ‬المطبوعات‭ ‬يوم‭ ‬وصول‭ ‬المجلتين،‭ ‬ومن‭ ‬سبق‭ ‬لبق،‭ ‬ومن‭ ‬تباطأ‭ ‬‮«‬أكل‭ ‬نبق‮»‬،‭ ‬والنبق‭ ‬هو‭ ‬السدر‭ ‬الذي‭ ‬يسميه‭ ‬أهل‭ ‬الخليج‭ ‬الكنار،‭ ‬وهو‭ ‬ثمرة‭ ‬لا‭ ‬تشبع‭ ‬من‭ ‬جوع‭. (‬في‭ ‬أشهري‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬كنت‭ ‬كلما‭ ‬سمعت‭ ‬شخصا‭ ‬يقول‭: ‬أكلت‭ ‬أو‭ ‬عندي‭ ‬كنار‭ ‬وايد‭ ‬حلو،‭ ‬أعتبره‭ ‬متوحشا،‭ ‬لأن‭ ‬الكنار‭ ‬المعروف‭ ‬خارج‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الطيور‭ ‬المغردة‭ ‬صغيرة‭ ‬الحجم،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬سمعت‭ ‬بأم‭ ‬علي،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬مقدار‭ ‬عجبي‭ ‬ودهشتي‭ ‬كلما‭ ‬سمعت‭ ‬شخصا‭ ‬يقول‭ ‬انه‭ ‬استمتع‭ ‬بأكل‭ ‬أم‭ ‬علي،‭ ‬وربما‭ ‬أدرك‭ ‬أصحاب‭ ‬المطاعم‭ ‬الراقية‭ ‬والفنادق‭ ‬أن‭ ‬وضع‭ ‬‮«‬أم‭ ‬علي‮»‬‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬الطعام‭ ‬يعطي‭ ‬الأجانب‭ ‬الانطباع‭ ‬بأن‭ ‬المطعم‭ ‬يقدم‭ ‬لحوم‭ ‬البشر،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬النساء،‭ ‬و«أم‭ ‬علي‮»‬‭ ‬بالذات‭ ‬دون‭ ‬سائر‭ ‬النساء،‭ ‬ولهذا‭ ‬يكتبونها‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬بحيث‭ ‬تُقرأ‭ ‬‮«‬أومالي‭ ‬Omali‮»‬،‭ ‬فعندما‭ ‬تأتي‭ ‬ككلمة‭ ‬واحدة‭ ‬تنتفي‭ ‬الشبهات‭ ‬عن‭ ‬المطعم،‭ ‬وأنتهز‭ ‬هذه‭ ‬الفرصة‭ ‬لأنبه‭ ‬الأردنيين‭ ‬والفلسطينيين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬كذا‭ ‬قمر‭ ‬صناعي‭ ‬مخصص‭ ‬لاعتراض‭ ‬والتقاط‭ ‬المكالمات‭ ‬الهاتفية،‭ ‬وبالطبع‭ ‬فإن‭ ‬الكمبيوترات‭ ‬التجسسية‭ ‬الأمريكية‭ ‬تعتبر‭ ‬كل‭ ‬اسم‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬إسلام‭ ‬حامله‭ ‬جديرا‭ ‬بالرصد‭ ‬والمراقبة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬أنصحهم‭ ‬بألا‭ ‬يتكلموا‭ ‬في‭ ‬محادثاتهم‭ ‬الهاتفية‭ ‬عن‭ ‬أكلة‭/ ‬طبق‭ ‬‮«‬المنسف‮»‬،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بصيغة‭: ‬يا‭ ‬سلام‭... ‬منسف‭ ‬رهيب‭.. ‬منسف‭ ‬بلا‭ ‬مثيل‭).‬

كنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬نطرب‭ ‬لمقولة‭ ‬سمعناها‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬مفكرين‭ ‬ومثقفين‭ ‬عرب‭ ‬‮«‬بيروت‭ ‬والقاهرة‭ ‬تطبع‭ ‬والخرطوم‭ ‬تقرأ‮»‬،‭ ‬وحتى‭ ‬السودانيون‭ ‬الذين‭ ‬ولدوا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النكبات‭ ‬يعرفون‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬عندما‭ ‬فوجئ‭ ‬بعشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬يجلسون‭ ‬أمامه‭ ‬والمئات‭ ‬يتسلقون‭ ‬الأشجار‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يلقي‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭: ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬لي‭ ‬ولشعري‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬شيء‭ ‬خرافي،‭ ‬شيء‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الحلم‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الاساطير،‭ ‬شيء‭ ‬يشرفني‭ ‬ويسعدني‭ ‬ويبكيني‭. ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أزور‭ ‬السودان،‭ ‬أي‭ ‬طاقة‭ ‬على‭ ‬السفر‭ ‬والرحيل‭ ‬تملك‭ ‬الكلمات‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتصور‭ ‬قدرتها‭ ‬الهائلة‭ ‬على‭ ‬الحركة،‭ ‬والتوالد‭ ‬والإخصاب،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتخيل‭ ‬ان‭ ‬كلمة‭ ‬تكتب‭ ‬بالقلم‭ ‬الرصاص‭ ‬على‭ ‬ورقة‭ ‬منسية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تنوير‭ ‬مدينة‭ ‬بأكملها،‭ ‬أشعر‭ ‬بالزهو‭ ‬والكبرياء‭ ‬حين‭ ‬أرى‭ ‬حروفي‭ ‬التي‭ ‬نثرتها‭ ‬في‭ ‬الريح‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬تورق‭ ‬وتزهر‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬النيلين‭ ‬الأزرق‭ ‬والأبيض‭. ‬فهذا‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬لي‭ ‬ولشعري‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬يصدق‭.. ‬مفاجأة‭ ‬المفاجآت‭ ‬لي‭ ‬كانت‭ ‬الانسان‭ ‬السوداني‭.. ‬فالإنسان‭ ‬في‭ ‬السودان‭.. ‬حادثة‭ ‬شعرية‭ ‬فريدة‭.. ‬لا‭ ‬تتكرر،‭ ‬ظاهرة‭ ‬غير‭ ‬طبيعية‭.. ‬خارقة‭ ‬من‭ ‬الخوارق‭.. ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬كل‭ ‬عشرة‭ ‬الاف‭ ‬سنة‭ ‬مرة‭.... ‬الإنسان‭ ‬السوداني‭ ‬هو‭ ‬الوارث‭ ‬الشرعي‭.. ‬الباقي‭ ‬لتراثنا‭ ‬الشعري‭.. ‬هو‭ ‬الولد‭ ‬الشاطر‭.. ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يحتفظ‭ -‬دون‭ ‬سائر‭ ‬الاخوة‭- ‬بمصباح‭ ‬الشعر‭.. ‬داخل‭ ‬غرفة‭ ‬نومه‭. ‬وبخزانة‭ ‬الشعر‭ ‬المقصبة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعلقها‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬خزانة‭ ‬ملابسه‭.. ‬كل‭ ‬سوداني‭ ‬عرفته‭.. ‬كان‭ ‬شاعرا‭.. ‬أو‭ ‬راوية‭ ‬شعر،‭ ‬ففي‭ ‬السودان‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شاعرا‭.. ‬وإما‭ ‬عاطلا‭ ‬عن‭ ‬العمل‭.. ‬فالشعر‭ ‬في‭ ‬السودان‭.. ‬هو‭ ‬جواز‭ ‬السفر‭.. ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬لك‭ ‬بدخول‭ ‬المجتمع‭ ‬ويمنحك‭ ‬الجنسية‭ ‬السودانية‭... ‬الإنسان‭ ‬السوداني‭... ‬هو‭ ‬الولد‭ ‬الأصفى‭.. ‬والأنقى‭.. ‬والأطهر‭.. ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يبع‭ ‬ثياب‭ ‬أبيه‭ ‬ومكتبته‭ ‬ليشتري‭ ‬بثمنها‭ ‬زجاجة‭ ‬خمر،‭ ‬أو‭ ‬سيارة‭ ‬أمريكية‭.‬

لحسن‭ ‬حظه‭ ‬مات‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتوقف‭ ‬الخرطوم‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬وتنشغل‭ ‬بـ«الحرابة‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا