زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
اجترار ما كان
أقف مجددا باكيا على الأطلال، ممجدا لأمور «قديمة»، ثم متباهيا بأنني نجحت في مواكبة تكنولوجيا العصر، رغم مما نحن فيه من «خُسْر»، وأقول مجددا إن الحظ أسعدني بأن لحقت بالعصر الذهبي للصحافة، وهو العصر الذي كانت فيه الصحف تبيع عشرات الآلاف من النسخ في الدول قليلة السكان، ومئات الآلاف حتى في الدول متوسطة تعداد السكان، وحتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي كانت حتى المجلات العربية رغم ارتفاع أسعارها تبيع كميات ضخمة، وكانت معظم المجلات العربية الناجحة لبنانية أو مصرية، ولكن مجلتي العربي الكويتية والدوحة القطرية الشهريتين والمكرستين تماما للشأن الثقافي كانتا تتمتعان بتوزيع ضخم، وأذكر أن الخرطوم كانت تشهد طوابير أمام أكشاك بيع المطبوعات يوم وصول المجلتين، ومن سبق لبق، ومن تباطأ «أكل نبق»، والنبق هو السدر الذي يسميه أهل الخليج الكنار، وهو ثمرة لا تشبع من جوع. (في أشهري الأولى في منطقة الخليج كنت كلما سمعت شخصا يقول: أكلت أو عندي كنار وايد حلو، أعتبره متوحشا، لأن الكنار المعروف خارج منطقة الخليج نوع من الطيور المغردة صغيرة الحجم، ولم أكن وقتها قد سمعت بأم علي، ولك أن تتخيل مقدار عجبي ودهشتي كلما سمعت شخصا يقول انه استمتع بأكل أم علي، وربما أدرك أصحاب المطاعم الراقية والفنادق أن وضع «أم علي» في قائمة الطعام يعطي الأجانب الانطباع بأن المطعم يقدم لحوم البشر، وبالتحديد النساء، و«أم علي» بالذات دون سائر النساء، ولهذا يكتبونها بالإنجليزية بحيث تُقرأ «أومالي Omali»، فعندما تأتي ككلمة واحدة تنتفي الشبهات عن المطعم، وأنتهز هذه الفرصة لأنبه الأردنيين والفلسطينيين إلى أن للولايات المتحدة كذا قمر صناعي مخصص لاعتراض والتقاط المكالمات الهاتفية، وبالطبع فإن الكمبيوترات التجسسية الأمريكية تعتبر كل اسم يدل على إسلام حامله جديرا بالرصد والمراقبة، وبالتالي أنصحهم بألا يتكلموا في محادثاتهم الهاتفية عن أكلة/ طبق «المنسف»، وخصوصا بصيغة: يا سلام... منسف رهيب.. منسف بلا مثيل).
كنا في السودان نطرب لمقولة سمعناها كثيرا من مفكرين ومثقفين عرب «بيروت والقاهرة تطبع والخرطوم تقرأ»، وحتى السودانيون الذين ولدوا في عصر النكبات يعرفون ما قاله الشاعر الكبير نزار قباني عندما فوجئ بعشرات الآلاف يجلسون أمامه والمئات يتسلقون الأشجار القريبة من حيث كان يلقي شعره في الخرطوم: هذا الذي يحدث لي ولشعري في السودان شيء خرافي، شيء لم يحدث في الحلم ولا في الاساطير، شيء يشرفني ويسعدني ويبكيني. ولم أكن أعرف، قبل أن أزور السودان، أي طاقة على السفر والرحيل تملك الكلمات. لم أكن أتصور قدرتها الهائلة على الحركة، والتوالد والإخصاب، لم أكن أتخيل ان كلمة تكتب بالقلم الرصاص على ورقة منسية قادرة على تنوير مدينة بأكملها، أشعر بالزهو والكبرياء حين أرى حروفي التي نثرتها في الريح قبل عشرين عاما تورق وتزهر على ضفاف النيلين الأزرق والأبيض. فهذا الذي يحدث لي ولشعري في السودان شيء لا يصدق.. مفاجأة المفاجآت لي كانت الانسان السوداني.. فالإنسان في السودان.. حادثة شعرية فريدة.. لا تتكرر، ظاهرة غير طبيعية.. خارقة من الخوارق.. التي تحدث كل عشرة الاف سنة مرة.... الإنسان السوداني هو الوارث الشرعي.. الباقي لتراثنا الشعري.. هو الولد الشاطر.. الذي لا يزال يحتفظ -دون سائر الاخوة- بمصباح الشعر.. داخل غرفة نومه. وبخزانة الشعر المقصبة التي كان يعلقها المتنبي في خزانة ملابسه.. كل سوداني عرفته.. كان شاعرا.. أو راوية شعر، ففي السودان إما أن تكون شاعرا.. وإما عاطلا عن العمل.. فالشعر في السودان.. هو جواز السفر.. الذي يسمح لك بدخول المجتمع ويمنحك الجنسية السودانية... الإنسان السوداني... هو الولد الأصفى.. والأنقى.. والأطهر.. الذي لم يبع ثياب أبيه ومكتبته ليشتري بثمنها زجاجة خمر، أو سيارة أمريكية.
لحسن حظه مات نزار قباني قبل أن تتوقف الخرطوم عن القراءة والكتابة وتنشغل بـ«الحرابة».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك