العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

غزلية أخرى في بريطانيا

قلت‭ ‬كلاما‭ ‬طيبا‭ ‬يوم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬أمس‭ ‬عن‭ ‬أهل‭ ‬بريطانيا،‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬سلوكهم‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬والأماكن‭ ‬العامة،‭ ‬وبالأمس‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التباهي‭ ‬بأن‭ ‬أكلاتنا‭ ‬غزت‭ ‬المطاعم‭ ‬والبطون‭ ‬الأوروبية‭.‬

وأحسب‭ ‬أنني‭ ‬أعرف‭ ‬البريطانيين‭ ‬وثقافتهم‭ ‬وطريقة‭ ‬تفكيرهم‭ ‬وعاداتهم‭ ‬جيدا،‭ ‬بحكم‭ ‬انني‭ ‬عشت‭ ‬بين‭ ‬ظهرانيهم‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت،‭ ‬وبحكم‭ ‬انني‭ ‬زرت‭ ‬بلدهم‭ ‬عديد‭ ‬المرات،‭ ‬ولأنني‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬كان‭ ‬مستعمرة‭ ‬بريطانية‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬ودرست‭ ‬منذ‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالجامعية‭ ‬مناهج‭ ‬وضعها‭ ‬بريطانيون،‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬المرحلتين‭ ‬الثانوية‭ ‬والجامعة‭ ‬كان‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اساتذتي‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المواد‭ ‬من‭ ‬البريطانيين،‭ ‬وتستطيع‭ ‬ان‭ ‬تقول‭ ‬عن‭ ‬بريطانيا‭ ‬إنها‭ ‬قوة‭ ‬استعمارية‭ ‬وامبريالية،‭ ‬شفطت‭ ‬ثروات‭ ‬الشعوب،‭ ‬وكانت‭ ‬الرائدة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تجارة‭ ‬الرقيق‭ ‬والقرصنة‭ ‬البحرية،‭ ‬ولكنك‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬ان‭ ‬تنكر‭ ‬ريادتها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وسيادة‭ ‬القانون‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬مواطنيها،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬ونستون‭ ‬تشيرتشل‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الذي‭ ‬قاد‭ ‬بريطانيا‭ ‬بكفاءة‭ ‬في‭ ‬تصديها‭ ‬لألمانيا‭ ‬النازية،‭ ‬بل‭ ‬وكان‭ ‬البطل‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬انتصار‭ ‬الحلفاء‭ ‬على‭ ‬ألمانيا،‭ ‬ولكنه‭ ‬خسر‭ ‬أول‭ ‬انتخابات‭ ‬بعد‭ ‬الحرب،‭ ‬وجلس‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬يدخن‭ ‬السيجار‭ ‬ويشفط‭ ‬الويسكي‭ ‬ويقرأ‭ ‬ويكتب‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭ ‬عام‭ ‬1965‭ ‬عن‭ ‬90‭ ‬سنة،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬كان‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬اسمه‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬خليل،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬جلسة‭ ‬برلمانية‭ ‬ستطيح‭ ‬بحكومته،‭ ‬حتى‭ ‬اقنع‭ ‬قادة‭ ‬الجيش‭ ‬بالانقلاب‭ ‬على‭ ‬حكومته،‭ ‬ولكن‭ ‬بـ‮«‬نظام‮»‬‭: ‬استلموا‭ ‬السلطة‭ ‬وشكلوا‭ ‬حكومة‭ ‬مدنية‭ ‬مؤقتة‭ ‬وبعدين‭ ‬أنا‭ ‬استرد‭ ‬الحكم،‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬قادة‭ ‬الجيش‭: ‬ما‭ ‬يصير،‭ ‬نحن‭ ‬عساكر‭ ‬وأقسمنا‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬الدستور‭ ‬والنظام‭ ‬القائم،‭ ‬فقال‭ ‬لهم‭: ‬أنا‭ ‬كبير‭ ‬النظام‭ ‬القائم‭ ‬والمسؤول‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬الدستور‭ ‬وأطلب‭ ‬منكم‭ ‬القيام‭ ‬بانقلاب،‭ ‬فجبروا‭ ‬بخاطره‭ ‬وانقلبوا‭ ‬عليه‭ ‬ولكن‭ ‬انقلابا‭ ‬كاملا‭. ‬بمعنى‭ ‬أنهم‭ ‬استولوا‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬الى‭ ‬تحركات‭ ‬عسكرية‭ ‬واعتقال‭ ‬سياسيين‭ ‬واحتلال‭ ‬مواقع‭ ‬استراتيجية،‭ ‬ثم‭ ‬قالوا‭: ‬طالما‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬المنتخب‭ ‬مش‭ ‬قادر‭ ‬يحكم،‭ ‬ومش‭ ‬راضي‭ ‬بقوانين‭ ‬اللعبة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬معنى‭ ‬كده‭ ‬ان‭ ‬الديمقراطية‭ ‬مش‭ ‬نافعة،‭ ‬فخلينا‭ ‬نحكم‭. ‬وهكذا‭ ‬شكلوا‭ ‬حكومة‭ ‬عسكرية،‭ ‬اي‭ ‬ان‭ ‬كبار‭ ‬قادة‭ ‬الجيش‭ ‬تقاسموا‭ ‬الحقائب‭ ‬الوزارية،‭ ‬وخرج‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬خليل‭ ‬الذي‭ ‬دعاهم‭ ‬لاستلام‭ ‬السلطة‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬وهب‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬أكتوبر‭ ‬1964،‭ ‬فخرج‭ ‬العساكر‭ ‬من‭ ‬الحكم،‭ ‬ولكن‭ ‬نسلهم‭ ‬استمرأ‭ ‬الحكم‭ ‬فاستولوا‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬1969،‭ ‬ولما‭ ‬أسقطهم‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬إبريل‭ ‬1985،‭ ‬كررت‭ ‬سلالة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬العسكريين‭ ‬التجربة‭ ‬وظلوا‭ ‬يحكمون‭ ‬السودان‭ ‬منذ‭ ‬يونيو‭ ‬1989،‭ ‬وضيعوا‭ ‬ثلث‭ ‬مساحة‭ ‬البلاد‭ ‬بقبول‭ ‬انفصال‭ ‬الجنوب،‭ ‬ويقولون‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬إن‭ ‬‮«‬حلايب‮»‬‭ ‬سودانية،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬يعرفون‭ ‬أنها‭ ‬صارت‭ ‬في‭ ‬عهدهم‭ ‬خاضعة‭ ‬للحكم‭ ‬المصري‭ ‬تماما،‭ ‬وأطاحت‭ ‬بهم‭ ‬ثورة‭ ‬شعبية‭ ‬في‭ ‬2019،‭ ‬وها‭ ‬هم‭ ‬اليوم‭ ‬يشعلونها‭ ‬حربا‭ ‬شاملة‭ ‬ليعودوا‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬بفوهات‭ ‬البنادق‭.‬

والشاهد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬عموما‭ ‬اكتشف‭ ‬ان‭ ‬الديمقراطية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تصحيح‭ ‬اخطائها،‭ ‬وكلما‭ ‬تكرست‭ ‬الديمقراطية‭ ‬كلما‭ ‬تعزز‭ ‬احساس‭ ‬الانسان‭ ‬بالمواطنة،‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬قيمِها‭ ‬الاحساس‭ ‬بالمساواة‭ ‬في‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات،‭ ‬وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬ضرب‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬السويد‭ ‬ببيضة‭ ‬مخالفة‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬عقوبتها‭ ‬الحبس‭ ‬يومين‭ ‬أو‭ ‬غرامة‭ ‬رمزية،‭ ‬بينما‭ ‬نال‭ ‬عقوبة‭ ‬الاعدام‭ ‬أشخاص‭ ‬أنزلوا‭ ‬صور‭ ‬الرئيس‭ ‬السوري‭ ‬الراحل‭ ‬حافظ‭ ‬الأسد‭ ‬من‭ ‬جدران‭ ‬غرف‭ ‬نومهم،‭ ‬ولهذا‭ ‬فمن‭ ‬المفهوم‭ ‬أن‭ ‬معمر‭ ‬القذافي‭ ‬لجأ‭ ‬الى‭ ‬الدبابات‭ ‬لتفريق‭ ‬المظاهرات‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2011،‭ ‬لأن‭ ‬المسكين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬وسيلة‭ ‬أخرى‭ ‬لفضِّها،‭ ‬بحكم‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬‮«‬المظاهرة‮»‬‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬للاحتفال‭ ‬باستقباله‭ ‬او‭ ‬بختان‭ ‬عياله‭ ‬أو‭ ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬كلبه‭.‬

وأعرف‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الظلم‭ ‬لحق‭ ‬بنا‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬رأس‭ ‬استعمار‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬لبلداننا،‭ ‬ولكن‭ ‬وكما‭ ‬انتبه‭ ‬للأمر‭ ‬المفكر‭ ‬الجزائري‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬نبي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬شروط‭ ‬النهضة‮»‬‭ ‬فلو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬بنا‭ ‬قابلية‭ ‬للاستعمار،‭ ‬لما‭ ‬استعمرنا‭ ‬الأوربيون‭ ‬وحولوا‭ ‬بعضنا‭ ‬الى‭ ‬أدوات‭ ‬لهم،‭ ‬وخضعنا‭ ‬لهم‭ ‬كشعوب،‭ ‬ثم‭ ‬تحررنا‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأجنبي‭ ‬واكتشفنا‭ ‬ان‭ ‬الاستعمار‭ ‬‮«‬الوطني‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬شراسة‭ ‬وفظاظة‭.. ‬وظلم‭ ‬ذوي‭ ‬القربى‭ ‬أشد‭ ‬مضاضة‭ ‬على‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬وقع‭ ‬الحسام‭ ‬الأجنبي‭ (‬بعد‭ ‬إذن‭ ‬الشاعر‭ ‬طرفة‭ ‬بن‭ ‬العبد‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا