العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الجمال وسوء الحال

بعد‭ ‬أن‭ ‬زرت‭ ‬جمهورية‭ ‬جورجيا‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬المنصرم،‭ ‬وأذهلتني‭ ‬سهولها‭ ‬وجبالها‭ ‬وغاباتها،‭ ‬ندمت‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬ساعة‭ ‬قضيتها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مدينة‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬غربها‭ ‬وشرقها،‭ ‬حيث‭ ‬الجمال‭ ‬المصطنع‭ ‬يغطي‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وحيث‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬انتفخت‭ ‬أوداج‭ ‬افرادها‭ ‬بخيرات‭ ‬دول‭ ‬آسيا‭ ‬وإفريقيا،‭ ‬وستظل‭ ‬لندن‭ ‬أثقل‭ ‬مدن‭ ‬القارة‭ ‬الأوربية‭ ‬على‭ ‬قلبي،‭ ‬ولا‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬زيارتها‭ ‬على‭ ‬نفقتي‭ ‬إلا‭ ‬للشديد‭ ‬القوي،‭ ‬يعني‭ ‬مثلا‭ ‬‭ ‬لا‭ ‬قدر‭ ‬الله‭ ‬‭ ‬طلبا‭ ‬للعلاج،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬رسمية،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬لندن‭ ‬كذلك‭ ‬عندما‭ ‬زرتها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ربما‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬هادئة‭ ‬نوعا‭ ‬ما،‭ ‬وأكثر‭ ‬أمناً‭ ‬وأمانا،‭ ‬وربما‭ ‬لأنني‭ ‬زرت‭ ‬مدنا‭ ‬غربية‭ ‬أخرى‭ ‬ووجدتها‭ ‬فرائحية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لندن،‭ ‬والغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنني‭ ‬استلطفت‭ ‬مدنا‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وأعجبتني‭ ‬مدن‭ ‬ادنبره‭ ‬وغلاسغو‭ ‬وابردين‭ ‬في‭ ‬إسكتلندا‭ ‬بشدة‭ ‬شدتني‭ ‬اليها،‭ ‬ووجدت‭ ‬في‭ ‬الاسكتلنديين‭ ‬نقاء‭ ‬وبساطة‭ ‬أهل‭ ‬الريف‭ ‬والجبل،‭ ‬وجدتهم‭ ‬ودودين‭ ‬يرفعون‭ ‬معك‭ ‬التكليف‭ ‬منذ‭ ‬اول‭ ‬لقاء‭ ‬يدوم‭ ‬أكثر‭ ‬عشر‭ ‬دقائق،‭ ‬وإذا‭ ‬جاورتهم‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬فهم‭ ‬‮«‬عرب‮»‬،‭ ‬ليس‭ ‬عرب‭ ‬هذا‭ ‬الزمان،‭ ‬بل‭ ‬عرب‭ ‬‮«‬زمان‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يعرفون‭ ‬حقوق‭ ‬الجيرة‭ ‬ويتسابقون‭ ‬لتكريم‭ ‬الجار‭ ‬‮«‬الجديد‮»‬،‭ ‬ولو‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬يحبك‭ ‬الاسكتلنديون،‭ ‬فعليك‭ ‬ان‭ ‬تلعن‭ ‬خاش‭ ‬الانجليز‭ ‬وانجلترا،‭ ‬فرغم‭ ‬أنهم‭ ‬مواطنو‭ ‬دولة‭ ‬واحدة،‭ ‬وفشل‭ ‬دعاة‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬بريطانيا‭ ‬في‭ ‬مرادهم‭ ‬مرتين،‭ ‬فإن‭ ‬كره‭ ‬الإنجليز‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬كيمياء‭ ‬الاسكتلنديين،‭ ‬مثل‭ ‬كره‭ ‬العرب‭ ‬الغريزي‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬فتجد‭ ‬عربيا‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬بتقسيم‭ ‬فلسطين‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬ويحسب‭ ‬ان‭ ‬وعد‭ ‬بلفور‭ ‬يتعلق‭ ‬بدارفور،‭ ‬يعلن‭ ‬معاداته‭ ‬لإسرائيل‭ ‬وإذا‭ ‬سألته‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬الكراهية‭ ‬قال‭: ‬هيك‭.. ‬جذي‭.. ‬كدا‭ ‬وبس‭.‬

في‭ ‬إنجلترا‭ ‬مقاطعة‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬البحيرات‭ (‬ليك‭ ‬دِستريكت‭)‬،‭ ‬وليس‭ ‬فيها‭ ‬بحيرة‭ ‬حقيقية،‭ ‬ولكنها‭ ‬مكسوة‭ ‬بالخضرة‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬البصر،‭ ‬وتشقها‭ ‬أنهار‭. ‬استغفر‭ ‬الله‭ ‬نهيرات‭ ‬والنهير‭ ‬هو‭ ‬جعفر‭ ‬وجعفر‭ ‬هو‭ ‬النهر‭ ‬الصغير،‭ ‬وأجعص‭ ‬نهر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المقاطعة‭ ‬أقل‭ ‬ماء‭ ‬وعرضا‭ ‬من‭ ‬الترعة‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬الجزيرة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬السودان،‭ ‬يعني‭ ‬أنهارها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬جداول‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حولها‭ ‬يشرح‭ ‬الصدر‭ ‬والنفس،‭ ‬وما‭ ‬سافرت‭ ‬عبر‭ ‬تلك‭ ‬المقاطعة‭ ‬إلا‭ ‬وقلت‭ ‬لنفسي،‭ ‬إن‭ ‬فرعا‭ ‬واحدا‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬يساوي‭ ‬كل‭ ‬انهار‭ ‬انجلترا،‭ ‬ولدينا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬مناطق‭ ‬خضراء‭ ‬تمتد‭ ‬بلا‭ ‬انقطاع‭ ‬لمئات‭ ‬الكيلومترات،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فالمبالغ‭ ‬التي‭ ‬تكسبها‭ ‬مقاطعة‭ ‬البحيرات‭ ‬تلك‭ ‬من‭ ‬السياح‭ ‬الذين‭ ‬يعجبهم‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬فيها،‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬دخل‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬الزراعة‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2000‭ ‬كيلو‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬النيل،‭ ‬فالخضرة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬موسمية،‭ ‬لأنها‭ ‬خضرة‭ ‬زراعة‭ ‬محاصيل‭ ‬نقدية،‭ ‬وبعد‭ ‬الحصاد‭ ‬تصبح‭ ‬الأرض‭ ‬قاعا‭ ‬صفصفا،‭ ‬وعلى‭ ‬امتداد‭ ‬النيل‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬منفذا‭ ‬مريحا‭ ‬تطل‭ ‬منه‭ ‬عليه،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬حيث‭ ‬شيد‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭ ‬كورنيشا‭ ‬جميلا‭ ‬صار‭ ‬النيل‭ ‬محاصرا‭ ‬بالمطاعم‭ ‬والمقاهي،‭ ‬وإذا‭ ‬أردت‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬شاطئه‭ ‬‮«‬لازم‭ ‬تدفع‭ ‬كاش‮»‬‭ ‬للهوامير‭ ‬الذي‭ ‬فازوا‭ ‬بحق‭ ‬احتكار‭ ‬الشواطئ‭ ‬واليوم‭ ‬ضاع‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وتحول‭ ‬الى‭ ‬ركام‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب‭ ‬العبثية‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬رحاها‭ ‬هناك‭.‬

عندنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬يعيش‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬لو‭ ‬أغفلت‭ ‬شكل‭ ‬البيوت‭ ‬فيها،‭ ‬لحسبت‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬كاليفورنيا،‭ ‬وتنطلق‭ ‬عبرها‭ ‬بسيارة‭ ‬لساعات‭ ‬وساعات‭ ‬والخضرة‭ ‬على‭ ‬يمينك‭ ‬ويسارك‭ ‬وأحيانا‭ ‬من‭ ‬فوقك‭ ‬وأنت‭ ‬تشق‭ ‬غابات‭ ‬النخيل،‭ ‬والناس‭ ‬طيبون‭ ‬ومسالمون،‭ ‬وهنا‭ ‬وهناك‭ ‬تجد‭ ‬قلاعا‭ ‬وأهرامات‭ ‬ومقابر‭ ‬ومعابد‭ ‬لواحدة‭ ‬من‭ ‬أعرق‭ ‬الحضارات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وهي‭ ‬الحضارة‭ ‬النوبية‭ ‬السابقة‭ ‬للحضارة‭ ‬الفرعونية،‭ ‬وبينما‭ ‬حول‭ ‬المصريون‭ ‬الآثار‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬مهم‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬العملة‭ ‬الصعبة،‭ ‬فإن‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬نحو‭ ‬300‭ ‬هرم‭ (‬من‭ ‬الحجم‭ ‬الصغير‭) ‬ليس‭ ‬به‭ ‬فندق‭ ‬عليه‭ ‬القيمة‭ ‬لإيواء‭ ‬خمسين‭ ‬سائحا‭ ‬أجنبيا،‭ ‬والناس‭ ‬يسافرون‭ ‬بالملايين‭ ‬الى‭ ‬ماليزيا‭ ‬للاستمتاع‭ ‬بجمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الغابات‭ ‬والمسطحات‭ ‬الخضراء،‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ ‬أن‭ ‬الغابات‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬سودانية‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬غابات‭ ‬ماليزيا‭ ‬مجتمعة‭. ‬وأعود‭ ‬واستغفر‭ ‬الله‭: ‬أي‭ ‬سياحة‭ ‬وأي‭ ‬بطيخ‭ ‬وبلدي‭ (‬السودان‭) ‬به‭ ‬الأنهار‭ ‬الجارية‭ ‬والأراضي‭ ‬البكر‭ ‬ويستورد‭ ‬معظم‭ ‬طعامه‭ ‬من‭ ‬الخارج‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا