زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن الجمال وسوء الحال
بعد أن زرت جمهورية جورجيا في أغسطس المنصرم، وأذهلتني سهولها وجبالها وغاباتها، ندمت على أي ساعة قضيتها في أي مدينة في أوروبا غربها وشرقها، حيث الجمال المصطنع يغطي على جمال الطبيعة، وحيث الشعوب التي انتفخت أوداج افرادها بخيرات دول آسيا وإفريقيا، وستظل لندن أثقل مدن القارة الأوربية على قلبي، ولا أفكر في زيارتها على نفقتي إلا للشديد القوي، يعني مثلا – لا قدر الله – طلبا للعلاج، أو في مهمة رسمية، ولم تكن لندن كذلك عندما زرتها لأول مرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ربما لأنها كانت هادئة نوعا ما، وأكثر أمناً وأمانا، وربما لأنني زرت مدنا غربية أخرى ووجدتها فرائحية أكثر من لندن، والغريب في الأمر أنني استلطفت مدنا أخرى في بريطانيا، وأعجبتني مدن ادنبره وغلاسغو وابردين في إسكتلندا بشدة شدتني اليها، ووجدت في الاسكتلنديين نقاء وبساطة أهل الريف والجبل، وجدتهم ودودين يرفعون معك التكليف منذ اول لقاء يدوم أكثر عشر دقائق، وإذا جاورتهم في السكن فهم «عرب»، ليس عرب هذا الزمان، بل عرب «زمان» الذين كانوا يعرفون حقوق الجيرة ويتسابقون لتكريم الجار «الجديد»، ولو أردت أن يحبك الاسكتلنديون، فعليك ان تلعن خاش الانجليز وانجلترا، فرغم أنهم مواطنو دولة واحدة، وفشل دعاة الانفصال عن بريطانيا في مرادهم مرتين، فإن كره الإنجليز جزءا من كيمياء الاسكتلنديين، مثل كره العرب الغريزي لإسرائيل، فتجد عربيا لم يسمع بتقسيم فلسطين عام 1948 ويحسب ان وعد بلفور يتعلق بدارفور، يعلن معاداته لإسرائيل وإذا سألته عن سبب الكراهية قال: هيك.. جذي.. كدا وبس.
في إنجلترا مقاطعة تحمل اسم البحيرات (ليك دِستريكت)، وليس فيها بحيرة حقيقية، ولكنها مكسوة بالخضرة على امتداد البصر، وتشقها أنهار. استغفر الله نهيرات والنهير هو جعفر وجعفر هو النهر الصغير، وأجعص نهر في تلك المقاطعة أقل ماء وعرضا من الترعة الرئيسية في مشروع الجزيرة في وسط السودان، يعني أنهارها عبارة عن «جداول»، ولكن كل شيء حولها يشرح الصدر والنفس، وما سافرت عبر تلك المقاطعة إلا وقلت لنفسي، إن فرعا واحدا من النيل يساوي كل انهار انجلترا، ولدينا في السودان مناطق خضراء تمتد بلا انقطاع لمئات الكيلومترات، ومع هذا فالمبالغ التي تكسبها مقاطعة البحيرات تلك من السياح الذين يعجبهم جمال الطبيعة فيها، أعلى من دخل السودان من الزراعة على امتداد أكثر من 2000 كيلو على شواطئ النيل، فالخضرة التي في السودان موسمية، لأنها خضرة زراعة محاصيل نقدية، وبعد الحصاد تصبح الأرض قاعا صفصفا، وعلى امتداد النيل لا تجد منفذا مريحا تطل منه عليه، وحتى في الخرطوم حيث شيد الاستعمار البريطاني كورنيشا جميلا صار النيل محاصرا بالمطاعم والمقاهي، وإذا أردت الوقوف على شاطئه «لازم تدفع كاش» للهوامير الذي فازوا بحق احتكار الشواطئ واليوم ضاع كل ذلك وتحول الى ركام بسبب الحرب العبثية التي تدور رحاها هناك.
عندنا في شمال السودان، يعيش الناس في مناطق لو أغفلت شكل البيوت فيها، لحسبت نفسك في كاليفورنيا، وتنطلق عبرها بسيارة لساعات وساعات والخضرة على يمينك ويسارك وأحيانا من فوقك وأنت تشق غابات النخيل، والناس طيبون ومسالمون، وهنا وهناك تجد قلاعا وأهرامات ومقابر ومعابد لواحدة من أعرق الحضارات الإنسانية، وهي الحضارة النوبية السابقة للحضارة الفرعونية، وبينما حول المصريون الآثار إلى مصدر مهم للحصول على العملة الصعبة، فإن شمال السودان الذي يضم نحو 300 هرم (من الحجم الصغير) ليس به فندق عليه القيمة لإيواء خمسين سائحا أجنبيا، والناس يسافرون بالملايين الى ماليزيا للاستمتاع بجمال الطبيعة المتمثل في الغابات والمسطحات الخضراء، ولا يعرف العالم الخارجي أن الغابات الموجودة في ولاية سودانية واحدة من أكبر غابات ماليزيا مجتمعة. وأعود واستغفر الله: أي سياحة وأي بطيخ وبلدي (السودان) به الأنهار الجارية والأراضي البكر ويستورد معظم طعامه من الخارج.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك