العدد : ١٦٩٨١ - الخميس ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨١ - الخميس ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

احترامي للحرامي*

أعطي‭ ‬نفسي‭ ‬حرية‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬التعليم‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬طالب‭ ‬علم،‭ ‬ثم‭ ‬صرت‭ ‬معلما،‭ ‬ثم‭ ‬صرت‭ ‬صاحب‭ ‬عيال‭ ‬يطلبون‭ ‬العلم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنني‭ ‬أعرف‭ ‬بعض‭ ‬أشياء‭ ‬عن‭ ‬التربية‭ ‬والمناهج‭ ‬التعليمية،‭ ‬وبعض‭ ‬ما‭ ‬أعرفه‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬القلق‭ ‬حول‭ ‬مصائر‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬عيالنا‭.‬

إليكم‭ ‬اليوم‭ ‬حكاية‭ ‬شهدت‭ ‬وقائعها‭ ‬بلدة‭ ‬دسوق‭ ‬بمحافظة‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ‭ ‬المصرية،‭ ‬قبل‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬حيث‭ ‬ثم‭ ‬اعتقال‭ ‬أمين‭ ‬مخازن‭ ‬تتبع‭ ‬لمديرية‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬بالمحافظة،‭ ‬توطئة‭ ‬لتقديمه‭ ‬للمحاكمة،‭ ‬والتهمة‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الغرابة،‭ ‬وتتمثل‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬باع‭ ‬90‭ ‬ألف‭ ‬كتاب‭ ‬مدرسي،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يمر‭ ‬بضائقة‭ ‬مالية،‭ ‬ولا‭ ‬أخفي‭ ‬تعاطفي‭ ‬مع‭ ‬الرجل،‭ ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬غيره‭ ‬يختلس‭ ‬90‭ ‬مليون‭ ‬جنيه‭ ‬او‭ ‬دولار‭ ‬و«بالكتير‮»‬‭ ‬يحال‭ ‬الى‭ ‬التقاعد‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬كي‭ ‬يستفيد‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الملايين،‭ ‬ولا‭ ‬لأنني‭ ‬أحترم‭ ‬لصوص‭ ‬المال‭ ‬العام،‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬حرامي‭ ‬الكتب‭ ‬هذا‭ ‬باعها‭ ‬لجهات‭ ‬تستفيد‭ ‬منها‭ ‬فائدة‭ ‬قصوى،‭ ‬وهم‭ ‬باعة‭ ‬الطعمية‭ (‬الفلافل‭) ‬والفول‭ ‬والسندويتشات‭. ‬وكما‭ ‬يعلم‭ ‬الجميع‭ ‬فإن‭ ‬الكتب‭ ‬المدرسية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وغير‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬الى‭ ‬الخليج،‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬غذاء‭ ‬للعقول‭ ‬بل‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬يقرأها‭ ‬من‭ ‬فصيلة‭ ‬العجول،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الخير‭ ‬للطلاب‭ ‬والشعب‭ ‬ان‭ ‬يتم‭ ‬الاستفادة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬يتصل‭ ‬بغذاء‭ ‬البطون‭.‬

من‭ ‬المظاهر‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تثير‭ ‬استيائي‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬عيشي‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬ما‭ ‬أراه‭ ‬حول‭ ‬المدارس‭ ‬عند‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬دراسي‭: ‬يتجمع‭ ‬الطلاب‭ ‬أمام‭ ‬مدخل‭ ‬المدرسة‭ ‬ويقيمون‭ ‬مجزرة‭ ‬للكتب،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنهم‭ ‬يقومون‭ ‬بتقطيعها‭ ‬وأحيانا‭ ‬دهسها‭ ‬بالسيارات،‭ ‬وقيل‭ ‬لي‭ ‬إنهم‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬وزارات‭ ‬التربية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لا‭ ‬تجمع‭ ‬الكتب‭ ‬القديمة‭ ‬وتعطي‭ ‬طلاب‭ ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬ودفعة‭ ‬كتبا‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬‮«‬الوكالة‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬الطلاب‭ ‬ما‭ ‬يمنعهم‭ ‬من‭ ‬تمزيق‭ ‬الكتب‭ ‬بنهاية‭ ‬السنة‭ ‬الدراسية‭. ‬ولكنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬عمليات‭ ‬التقطيع‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬انتقام‭ ‬من‭ ‬مناهج‭ ‬سخيفة‭ ‬ومملّة‭ ‬وعقيمة‭ ‬تم‭ ‬إرغام‭ ‬الطلاب‭ ‬على‭ ‬حشوها‭ ‬في‭ ‬رؤوسهم،‭ ‬وإذلالهم‭ ‬نحو‭ ‬ست‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬باختبارات‭ ‬غايتها‭ ‬تقصّي‭ ‬قدراتهم‭ ‬الببغاوية‭.‬

عندنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬فرضت‭ ‬حكومة‭ ‬الرئيس‭ ‬المعزول‭ ‬عمر‭ ‬البشير‭ ‬على‭ ‬تلميذ‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬نحو‭ ‬21‭ ‬مادة،‭ ‬وهذا‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬‮«‬وأد‮»‬‭ ‬الطفولة،‭ ‬ففي‭ ‬بلاد‭ ‬الله‭ ‬التي‭ ‬تخرج‭ ‬أنظمتها‭ ‬التعليمية‭ ‬العباقرة‭ ‬والعلماء‭ ‬والمخترعين‭ ‬لا‭ ‬يدرس‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬مرحلة‭ ‬الروضة‭ ‬حتى‭ ‬الجامعة‭ ‬21‭ ‬مادة‭. ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬فإن‭ ‬طالب‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬مطالب‭ ‬بحفظ‭ ‬معلقة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬مع‭ ‬شرح‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬وبيت‭ ‬فيها‭. ‬لماذا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يتعلق‭ ‬بالجاهلية‭ ‬مرفوض،‭ ‬ولكن‭ ‬شعرها‭ ‬تعويذة‭ ‬تعلق‭ ‬في‭ ‬الرقاب،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬أنشوطة‭ ‬تلتف‭ ‬حول‭ ‬الرقاب‭ ‬وتخنقها؟‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬حفظ‭ ‬معلقة‭ ‬لبيد‭ ‬بن‭ ‬ربيعة‭ ‬العامري،‭ ‬وأظن‭ ‬أنني‭ ‬شكوت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائة‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المعلقة‭ ‬سببت‭ ‬لي‭ ‬إعاقة‭ ‬عقلية‭ ‬مازلت‭ ‬أعاني‭ ‬منها،‭ ‬وأحرزت‭ ‬تقدير‭ ‬ممتاز‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أحفظ‭ ‬المعلقة‭ ‬وشروحها‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب،‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭ ‬اليوم‭ ‬سوى‭ ‬البيتين‭ ‬الأولين‭ ‬وأترك‭ ‬لك‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬ان‭ ‬تحكم‭ ‬بنفسك‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذان‭ ‬البيتان‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬الأوردو‭:‬

عفت‭ ‬الديار‭ ‬محلها‭ ‬فمقامها‭ / ‬بمنىً‭ ‬تأبد‭ ‬غولها‭ ‬فرجامها

ومدافع‭ ‬الريان‭ ‬عري‭ ‬رسمها‭ / ‬خلقا‭ ‬كما‭ ‬ضمن‭ ‬الوُحِي‭ ‬سِلامها

الكلمة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أجزم‭ ‬بأنها‭ ‬عربية‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الديار‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬تعرض‭ ‬نفسك‭ ‬للسخرية‭ ‬بالقول‭ ‬إن‭ ‬‮«‬مدافع‮»‬‭ ‬عربية‭ ‬لأن‭ ‬المدافع‭ ‬التي‭ ‬‮«‬في‭ ‬بالك‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لبيد،‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬نتنياهو‭ ‬والمالكي‭ ‬وداعش،‭ ‬ولكنني‭ ‬أحفظ‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬معلقة‭ ‬زهير‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ ‬والسياب‭ ‬وأمل‭ ‬دنقل‭ ‬وعبقري‭ ‬الشعر‭ ‬السوداني‭ ‬التيجاني‭ ‬يوسف‭ ‬البشير‭ ‬وغيرهم‭. ‬بل‭ ‬أحفظ‭ ‬خطبة‭ ‬زياد‭ ‬بن‭ ‬أبيه‭ (‬البتراء‭) ‬بالكامل‭ ‬لأن‭ ‬لغتها‭ ‬الجميلة‭ ‬أسرتني‭ ‬فتسللت‭ ‬مفرداتها‭ ‬وجملها‭ ‬الى‭ ‬دماغي‭ ‬على‭ ‬الرحب‭ ‬والسعة‭.‬

فيا‭ ‬صاحبي‭ ‬الذي‭ ‬سرق‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬دسوق‭ ‬وباعها‭ ‬لجماعة‭ ‬الطعمية‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬فعلت‭ ‬خيرا‭ ‬برغم‭ ‬أنك‭ ‬خنت‭ ‬الأمانة‭. ‬وربما‭ ‬يدعو‭ ‬لك‭ ‬بالإفلات‭ ‬من‭ ‬العقوبة‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬سيحرمون‭ ‬و‮«‬يُرحمون‮»‬‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭.‬

*‭ ‬‮«‬احترامي‭ ‬للحرامي‮»‬‭ ‬قصيدة‭ ‬رائعة‭ ‬للشاعر‭ ‬السعودي‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬مساعد‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا