عالم يتغير
فوزية رشيد
هل من مكان للفكر في هذا السيرك العالمي؟!
{ تخيل نفسك في سيرك هناك من يرقص، وهناك من يُزمّر، وهناك من يضرب الدف والطبول، وهناك من يتأرجح على حبال السيرك ليبهر مشاهديه، وهناك من يصرخ بأعلى صوته ليروّج لعرض شائق كما يقول، وهناك من يستجمع قواه ليقدم عرضا في فم الأسد! وهناك ضجيج يملأ المكان وزحام تختلط فيه أصوات الكبار والصغار وهناك وهناك.. إنه عالم السيرك بكل ما يحمل من تداخل ولا مكان فيه للصوت الهادئ أو لصوت موزون.
{ الآن ينتقل الهرج والمرج ذاته إلى مساحة أوسع ثم أوسع ليغطي الأرض كلها! الكل يتراكض وتختلط الأصوات والأحلام والطموحات والأطماع لينتقل الضجيج من الأفراد إلى الدول ومن صراع الديكة إلى صراع الحضارات، ومن صراع الأجيال إلى صراع الذكور والإناث، ولكن هذه المرة بلون آخر تختلط فيه الأجناس وتختلط الذكورة بالأنوثة! وتنشأ أنواع جديدة في البشر يتم تكريس أجندتها بقوة دول كبرى وسيطرتها الثقافية والإعلامية! ويخرج الإنسان من عالمه الواقعي إلى عالم افتراضي تتواصل فيها الكلمات والأصوات بأعداد مليونية ومليارية كل يوم ويتداخل مجددا سيرك الواقع بسيرك العالم الافتراضي! وتضيع الكلمات والمعاني في الاستخدامات المبتذلة أو السطحية، مثلما يضيع المنطق في سيرك المجتمعات وسيرك السياسة فلا يعود من اتزان في أي منهما، لأن الحابل اختلط بالنابل! والباطل تسيد على الحق والتفاهة أصبحت نظاما لكل الشعوب ولكل الدول! والمقاييس اختلفت والنوازع تضاربت والمعرفة تراجعت في سباق المعلومات والمعلوماتية التي تساق كل يوم بوفرة حتى تضيع في خضمها المعلومة الصحيحة!
{ النماذج هم المؤثرون أصحاب المحتوى السطحي ولا خلاف حولهم إلا في كونهم القدوة الأساسية الأهم للأجيال رغم نمذجتهم بالاهتمامات الشكلية والسطحية والتافهة ليغمر بحرهم الهائج كل المعطيات العميقة في الفكر والثقافة والفن! وحين يأتي في ظل كل ذلك الهرج والمرج في السيرك العالمي ليتحدث أحدهم بفكر عميق أو تحليلي رصين أو ثقافي وفني جاد لا يجد لصوته الهادئ وسط الضجيج مكانا، ولا يستمع إليه إلا ندرة من البشر هم الهامسون بصوت الحقيقة وصوت العقل والفكر وروح الحياة العميقة في ثقافتها وفنونها الزاخرة بتطوير الإنسان والمجتمعات حتى لا يصل ولا تصل إلى مراحل الانهيار الأخيرة ولكن زخارف السيرك تتكاثر والملهيات تتوالد والمغريات تحاصر الجميع، فالكل باحث فيها علَّ حلم السعادة يتحقق ونوازع التفوق المادي تتجسد!
{ في مثل هذا النزق العالمي الذي طغى على وعي الإنسان لم يعد يهم ما يتم فقده من جوهر أصيل فيه أو من قيم أو أخلاقيات أو فكر لم يعد للفكر العميق إلا مساحة ضئيلة في تجمع غريب يتم تقزيم وتهميش أصحابه أيضا وهم يحاولون إيصال الأفكار! ليدخلوا في محراب صغير في كل مجتمع من مجتمعات العالم اللاهي بفوضى السيرك! حولهم بضع مئات أو ألوف يتبادلون الآراء والتفكير في المآلات لما يحدث ولكن بحر الفوضى واللامنطق يبتلع آراءهم وأفكارهم ليتغذى على شيء منها بعد أن يتم تسطيحه، بعض اللاعبين والتافهين والسطحيين الذين تحولوا إلى مؤثرين يجتمع حولهم مئات الآلاف وملايين من المتابعين!
{ خارطة الثقافة والفكر والفنون القيمة تنقرض مع الوقت ويندثر مكانها ويتحول محرابها إلى ملاذ لكل من يلتقط التفاهة ليحولها إلى نظام! وهكذا لا يجد المفكرون الجادون أذنا صاغية إلا فيما ندر! ولا يجد المصلحون الحقيقيون رواجا في سوق المنافقين ولاعبي السيرك! فالرواج للأبطال الجدد في العالم الافتراضي والمفسدين في الأرض والعابثين بالقيم والأخلاق والدين والمتفوقين بالصراخ والمكر والخبث سواء بين الشعوب أو بين الدول! وحين تحدث ابن خلدون عن انهيار الحضارات وسقوط الأمم تحدث عن انهيار الأخلاق والذوبان في عالم التفاهة والسطحية حتى لا يعود للعمق في أي شيء مكان، فالموازين كلها قد دخلت عالم الاختلال فهل من مكان للفكر العميق في هذا السيرك العالمي! ربما نعم وربما لا!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك