العدد : ١٦٩٧٨ - الاثنين ١٦ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٨ - الاثنين ١٦ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

هل من مكان للفكر في هذا السيرك العالمي؟!

{‭ ‬تخيل‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬سيرك‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يرقص،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يُزمّر،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يضرب‭ ‬الدف‭ ‬والطبول،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يتأرجح‭ ‬على‭ ‬حبال‭ ‬السيرك‭ ‬ليبهر‭ ‬مشاهديه،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يصرخ‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭ ‬ليروّج‭ ‬لعرض‭ ‬شائق‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يستجمع‭ ‬قواه‭ ‬ليقدم‭ ‬عرضا‭ ‬في‭ ‬فم‭ ‬الأسد‭! ‬وهناك‭ ‬ضجيج‭ ‬يملأ‭ ‬المكان‭ ‬وزحام‭ ‬تختلط‭ ‬فيه‭ ‬أصوات‭ ‬الكبار‭ ‬والصغار‭ ‬وهناك‭ ‬وهناك‭.. ‬إنه‭ ‬عالم‭ ‬السيرك‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يحمل‭ ‬من‭ ‬تداخل‭ ‬ولا‭ ‬مكان‭ ‬فيه‭ ‬للصوت‭ ‬الهادئ‭ ‬أو‭ ‬لصوت‭ ‬موزون‭.‬

{‭ ‬الآن‭ ‬ينتقل‭ ‬الهرج‭ ‬والمرج‭ ‬ذاته‭ ‬إلى‭ ‬مساحة‭ ‬أوسع‭ ‬ثم‭ ‬أوسع‭ ‬ليغطي‭ ‬الأرض‭ ‬كلها‭! ‬الكل‭ ‬يتراكض‭ ‬وتختلط‭ ‬الأصوات‭ ‬والأحلام‭ ‬والطموحات‭ ‬والأطماع‭ ‬لينتقل‭ ‬الضجيج‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬ومن‭ ‬صراع‭ ‬الديكة‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬الحضارات،‭ ‬ومن‭ ‬صراع‭ ‬الأجيال‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬الذكور‭ ‬والإناث،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬بلون‭ ‬آخر‭ ‬تختلط‭ ‬فيه‭ ‬الأجناس‭ ‬وتختلط‭ ‬الذكورة‭ ‬بالأنوثة‭! ‬وتنشأ‭ ‬أنواع‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬البشر‭ ‬يتم‭ ‬تكريس‭ ‬أجندتها‭ ‬بقوة‭ ‬دول‭ ‬كبرى‭ ‬وسيطرتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والإعلامية‭! ‬ويخرج‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬عالمه‭ ‬الواقعي‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬افتراضي‭ ‬تتواصل‭ ‬فيها‭ ‬الكلمات‭ ‬والأصوات‭ ‬بأعداد‭ ‬مليونية‭ ‬ومليارية‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ويتداخل‭ ‬مجددا‭ ‬سيرك‭ ‬الواقع‭ ‬بسيرك‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭! ‬وتضيع‭ ‬الكلمات‭ ‬والمعاني‭ ‬في‭ ‬الاستخدامات‭ ‬المبتذلة‭ ‬أو‭ ‬السطحية،‭ ‬مثلما‭ ‬يضيع‭ ‬المنطق‭ ‬في‭ ‬سيرك‭ ‬المجتمعات‭ ‬وسيرك‭ ‬السياسة‭ ‬فلا‭ ‬يعود‭ ‬من‭ ‬اتزان‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬منهما،‭ ‬لأن‭ ‬الحابل‭ ‬اختلط‭ ‬بالنابل‭! ‬والباطل‭ ‬تسيد‭ ‬على‭ ‬الحق‭ ‬والتفاهة‭ ‬أصبحت‭ ‬نظاما‭ ‬لكل‭ ‬الشعوب‭ ‬ولكل‭ ‬الدول‭! ‬والمقاييس‭ ‬اختلفت‭ ‬والنوازع‭ ‬تضاربت‭ ‬والمعرفة‭ ‬تراجعت‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬المعلومات‭ ‬والمعلوماتية‭ ‬التي‭ ‬تساق‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بوفرة‭ ‬حتى‭ ‬تضيع‭ ‬في‭ ‬خضمها‭ ‬المعلومة‭ ‬الصحيحة‭!‬

{‭ ‬النماذج‭ ‬هم‭ ‬المؤثرون‭ ‬أصحاب‭ ‬المحتوى‭ ‬السطحي‭ ‬ولا‭ ‬خلاف‭ ‬حولهم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬كونهم‭ ‬القدوة‭ ‬الأساسية‭ ‬الأهم‭ ‬للأجيال‭ ‬رغم‭ ‬نمذجتهم‭ ‬بالاهتمامات‭ ‬الشكلية‭ ‬والسطحية‭ ‬والتافهة‭ ‬ليغمر‭ ‬بحرهم‭ ‬الهائج‭ ‬كل‭ ‬المعطيات‭ ‬العميقة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬والفن‭! ‬وحين‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬الهرج‭ ‬والمرج‭ ‬في‭ ‬السيرك‭ ‬العالمي‭ ‬ليتحدث‭ ‬أحدهم‭ ‬بفكر‭ ‬عميق‭ ‬أو‭ ‬تحليلي‭ ‬رصين‭ ‬أو‭ ‬ثقافي‭ ‬وفني‭ ‬جاد‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬لصوته‭ ‬الهادئ‭ ‬وسط‭ ‬الضجيج‭ ‬مكانا،‭ ‬ولا‭ ‬يستمع‭ ‬إليه‭ ‬إلا‭ ‬ندرة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬هم‭ ‬الهامسون‭ ‬بصوت‭ ‬الحقيقة‭ ‬وصوت‭ ‬العقل‭ ‬والفكر‭ ‬وروح‭ ‬الحياة‭ ‬العميقة‭ ‬في‭ ‬ثقافتها‭ ‬وفنونها‭ ‬الزاخرة‭ ‬بتطوير‭ ‬الإنسان‭ ‬والمجتمعات‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬ولا‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬مراحل‭ ‬الانهيار‭ ‬الأخيرة‭ ‬ولكن‭ ‬زخارف‭ ‬السيرك‭ ‬تتكاثر‭ ‬والملهيات‭ ‬تتوالد‭ ‬والمغريات‭ ‬تحاصر‭ ‬الجميع،‭ ‬فالكل‭ ‬باحث‭ ‬فيها‭ ‬علَّ‭ ‬حلم‭ ‬السعادة‭ ‬يتحقق‭ ‬ونوازع‭ ‬التفوق‭ ‬المادي‭ ‬تتجسد‭!‬

{‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬النزق‭ ‬العالمي‭ ‬الذي‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬الإنسان‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يهم‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬فقده‭ ‬من‭ ‬جوهر‭ ‬أصيل‭ ‬فيه‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬أو‭ ‬أخلاقيات‭ ‬أو‭ ‬فكر‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬للفكر‭ ‬العميق‭ ‬إلا‭ ‬مساحة‭ ‬ضئيلة‭ ‬في‭ ‬تجمع‭ ‬غريب‭ ‬يتم‭ ‬تقزيم‭ ‬وتهميش‭ ‬أصحابه‭ ‬أيضا‭ ‬وهم‭ ‬يحاولون‭ ‬إيصال‭ ‬الأفكار‭! ‬ليدخلوا‭ ‬في‭ ‬محراب‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭ ‬من‭ ‬مجتمعات‭ ‬العالم‭ ‬اللاهي‭ ‬بفوضى‭ ‬السيرك‭! ‬حولهم‭ ‬بضع‭ ‬مئات‭ ‬أو‭ ‬ألوف‭ ‬يتبادلون‭ ‬الآراء‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬المآلات‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬ولكن‭ ‬بحر‭ ‬الفوضى‭ ‬واللامنطق‭ ‬يبتلع‭ ‬آراءهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬ليتغذى‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬منها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تسطيحه،‭ ‬بعض‭ ‬اللاعبين‭ ‬والتافهين‭ ‬والسطحيين‭ ‬الذين‭ ‬تحولوا‭ ‬إلى‭ ‬مؤثرين‭ ‬يجتمع‭ ‬حولهم‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬وملايين‭ ‬من‭ ‬المتابعين‭!‬

{‭ ‬خارطة‭ ‬الثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬والفنون‭ ‬القيمة‭ ‬تنقرض‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬ويندثر‭ ‬مكانها‭ ‬ويتحول‭ ‬محرابها‭ ‬إلى‭ ‬ملاذ‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يلتقط‭ ‬التفاهة‭ ‬ليحولها‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭! ‬وهكذا‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬المفكرون‭ ‬الجادون‭ ‬أذنا‭ ‬صاغية‭ ‬إلا‭ ‬فيما‭ ‬ندر‭! ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬المصلحون‭ ‬الحقيقيون‭ ‬رواجا‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬المنافقين‭ ‬ولاعبي‭ ‬السيرك‭! ‬فالرواج‭ ‬للأبطال‭ ‬الجدد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭ ‬والمفسدين‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬والعابثين‭ ‬بالقيم‭ ‬والأخلاق‭ ‬والدين‭ ‬والمتفوقين‭ ‬بالصراخ‭ ‬والمكر‭ ‬والخبث‭ ‬سواء‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الدول‭! ‬وحين‭ ‬تحدث‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬عن‭ ‬انهيار‭ ‬الحضارات‭ ‬وسقوط‭ ‬الأمم‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬انهيار‭ ‬الأخلاق‭ ‬والذوبان‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التفاهة‭ ‬والسطحية‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬للعمق‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬مكان،‭ ‬فالموازين‭ ‬كلها‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬عالم‭ ‬الاختلال‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬للفكر‭ ‬العميق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السيرك‭ ‬العالمي‭! ‬ربما‭ ‬نعم‭ ‬وربما‭ ‬لا‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا