العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

بكاء على أطلال نظام تعليمي

بحكم‭ ‬أن‭ ‬مادة‭ ‬تخصصي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية‭ ‬كانت‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬وبحكم‭ ‬أنني‭ ‬عملت‭ ‬مدرسا‭ ‬لتلك‭ ‬المادة‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬فإن‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬معارفي‭ ‬وأقاربي‭ ‬يستشيرونني‭ ‬في‭ ‬امر‭ ‬تحسين‭ ‬إلمام‭ ‬عيالهم‭ ‬بتلك‭ ‬اللغة،‭ ‬بل‭ ‬ان‭ ‬بعض‭ ‬زملاء‭ ‬العمل‭ ‬يطلب‭ ‬استشارات‭ ‬مماثلة،‭ ‬فأقول‭ ‬لهم‭ ‬كلاما‭ ‬يجلب‭ ‬علي‭ ‬شبهة‭ ‬التباهي،‭ ‬وخلاصته‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬حصيلتي‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬نتاج‭ ‬جهد‭ ‬شخصي،‭ ‬ونفيا‭ ‬للتباهي‭ ‬أذكرهم‭ ‬بأن‭ ‬العربية‭ ‬ليست‭ ‬لغتي‭ ‬الأم،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فدرجة‭ ‬إلمامي‭ ‬بها‭ ‬تتراوح‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬فوق‭ ‬الوسط‭ ‬وجيد،‭ ‬ولم‭ ‬تأت‭ ‬تلك‭ ‬الدرجة‭ ‬لأنني‭ ‬درست‭ ‬أحوال‭ ‬المفعول‭ ‬المطلق‭ ‬والإعلال‭ ‬والابدال،‭ ‬بل‭ ‬لأنني‭ ‬قرأت‭ ‬كثيرا‭ ‬بالعربية‭.‬

والشاهد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬عندنا‭ ‬مصاب‭ ‬بتصلب‭ ‬العضلات‭ ‬والشرايين،‭ ‬لأنه‭ ‬ظل‭ ‬جامدا‭ ‬ولا‭ ‬يمارس‭ ‬التمارين‭ ‬التي‭ ‬تنشط‭ ‬العضلات‭ ‬والدورة‭ ‬الدموية،‭ ‬والتي‭ ‬تؤدي‭ ‬بالتالي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تجديد‭ ‬الشباب‮»‬،‭ ‬ومنذ‭ ‬عقود‭ ‬صار‭ ‬طلاب‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬يقسمون‭ ‬إلى‭ ‬فسطاطين‭: ‬علمي‭ ‬وأدبي،‭ ‬وبينهما‭ ‬برزخ‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬لطالب‭ ‬اجتيازه‭. ‬أنت‭ ‬في‭ ‬المساق‭ ‬العلمي؟‭ ‬هناك‭ ‬مواد‭ ‬ممنوع‭ ‬عليك‭ ‬دراستها‭.. ‬أنت‭ ‬‮«‬أدبي‮»‬؟‭ ‬خلي‭ ‬عندك‭ ‬أدب‭ ‬واحترم‭ ‬نفسك‭ ‬وابتعد‭ ‬عن‭ ‬الفيزياء‭ ‬والكيمياء‭ ‬والفاصولياء‭!!! ‬يعني‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬طلابنا،‭ ‬نابهون‭ ‬ونابغون‭ ‬بحيث‭ ‬إنهم‭ ‬‮«‬يتخصصون‮»‬‭ ‬في‭ ‬مواد‭ ‬معينة‭ ‬قبل‭ ‬ان‭ ‬يدخلوا‭ ‬الجامعات‭. ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أخطر‭ ‬من‭ ‬التقسيم‭ ‬العبثي‭ ‬للطلاب‭ ‬إلى‭ ‬علمي‭ ‬وأدبي،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يختارون‭ ‬المساق‭ ‬العلمي‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬دراسة‭ ‬مواد‭ ‬محددة‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭: ‬طب‭/ ‬هندسة‭/ ‬صيدلة‭/ ‬أسنان‭... ‬ومن‭ ‬النادر‭ ‬جدا‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬طالبا‭ ‬عربيا‭ ‬يقرر‭ ‬أنه‭ ‬يريد‭ ‬‭ ‬بالتحديد‭ ‬‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬بكالوريوس‭ ‬في‭ ‬الكيمياء‭ ‬او‭ ‬الفيزياء‭ ‬او‭ ‬الرياضيات‭ ‬أو‭ ‬الأحياء‭ ‬‮«‬البحتة‮»‬‭. ‬والسبب‭ ‬بديهي،‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬ولعدم‭ ‬وجود‭ ‬بيئة‭ ‬علمية‭ ‬في‭ ‬بلداننا،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬يدرسون‭ ‬إحدى‭ ‬تلك‭ ‬المواد‭ ‬الأربع‭ ‬يعرفون‭ ‬ان‭ ‬فرصهم‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬وظائف‭ ‬خارج‭ ‬سلك‭ ‬التدريس‭ ‬شبه‭ ‬معدومة،‭ ‬والتدريس،‭ ‬وفي‭ ‬جميع‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬مهنة‭ ‬غير‭ ‬جاذبة‭ ‬بسبب‭ ‬بؤس‭ ‬شروط‭ ‬خدمة‭ ‬المعلمين‭ ‬وتعرضهم‭ ‬للبهدلة‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار،‭ ‬فمع‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬دراسي‭ ‬تبدأ‭ ‬الإجازات‭ ‬الصيفية‭ ‬الطويلة،‭ ‬التي‭ ‬يتمتع‭ ‬خلالها‭ ‬الجميع‭ ‬بالترويح‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬والفرفشة‭. ‬إلا‭ ‬المعلم،‭ ‬يظل‭ ‬مشدود‭ ‬الأعصاب‭ ‬طوال‭ ‬الإجازة،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬يتخذ‭ ‬قرارا‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬حياتي‭ ‬بسيط‭ ‬مثل‭ ‬تغيير‭ ‬المسكن،‭ ‬لأن‭ ‬كشوفات‭ ‬تنقلات‭ ‬المعلمين‭ ‬لم‭ ‬تصدر‭ ‬وربما‭ ‬تقضي‭ ‬بأن‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬مدرسته‭ ‬الحالية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬القطب‭ ‬الشمالي‭ ‬من‭ ‬البلاد،‭ ‬وربما‭ ‬يسقط‭ ‬اسمه‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الكشوفات‭ ‬كليا‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬فاقدا‭ ‬تربويا‭ ‬أي‭ ‬محالا‭ ‬الى‭ ‬الأرشيف‭ ‬المسمى‭ ‬التقاعد‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬سنوات‭ ‬العمر‭.‬

بحسب‭ ‬تقديرات‭ ‬اتحاد‭ ‬الصناعات‭ ‬البريطاني‭ ‬فإن‭ ‬بريطانيا‭ ‬ستحتاج‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬المقبلة‭ ‬إلى‭ ‬مليونين‭ ‬ونصف‭ ‬المليون‭ ‬خريج‭ ‬جامعي‭ ‬جديد‭ ‬يحملون‭ ‬درجات‭ ‬علمية‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬والفيزياء‭ ‬والكيمياء‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فقد‭ ‬قرر‭ ‬الاتحاد‭ ‬تخصيص‭ ‬صندوق‭ ‬لمنح‭ ‬مكافأة‭ ‬قدرها‭ ‬ألفا‭ ‬دولار‭ ‬سنويا‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يدرس‭ ‬تلك‭ ‬المواد‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭. ‬لاحظ‭ ‬أن‭ ‬اتحاد‭ ‬الصناعات‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬خريج‭ ‬جامعي‭ ‬‮«‬جديد‮»‬‭. ‬وليس‭ ‬مثل‭ ‬جماعتنا‭ ‬يغلقون‭ ‬الأبواب‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الخريج‭ ‬الجديد‭ ‬لأنه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬عنده‭ ‬خبرة‮»‬‭. ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬خريج‭ ‬الهندسة‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬درس‭ ‬مواد‭ ‬لم‭ ‬يدرسها‭ ‬المهندس‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬الجامعة‭ ‬قبل‭ ‬15‭ ‬سنة‭. ‬وحامل‭ ‬بكالوريوس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لعام‭ ‬2007‭ ‬قد‭ ‬يعرف‭ ‬عن‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يعرفه‭ ‬استشاري‭ ‬أمراض‭ ‬النساء‭ ‬والولادة‭ ‬الذي‭ ‬رصيده‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬العملية‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬مثلا،‭ ‬ولا‭ ‬نتيح‭ ‬لحامل‭ ‬بكالوريوس‭ ‬الكيمياء‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مختبر‭ ‬طبي‭ ‬او‭ ‬جنائي‭ ‬أو‭ ‬نفطي‭ ‬او‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬مياه‭ ‬مع‭ ‬انه‭ ‬يستطيع‭ ‬ان‭ ‬يثبت‭ ‬وجوده‭ ‬فيها‭ ‬خلال‭ ‬6‭ ‬أشهر‭. ‬بس‭ ‬على‭ ‬إيه؟‭ ‬نجيب‭ ‬خبير‭ ‬من‭ ‬بره‭ ‬ونعطيه‭ ‬18‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬الشهر‭.. ‬يا‭ ‬بلاش،‭ ‬والشاهد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬الخير‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬يتكفل‭ ‬بالطلاب‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬التخصصات‭ ‬المعينة‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬هو‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬وليس‭ ‬الحكومة،‭ ‬بينما‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬عندنا‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬نهش‭ ‬لحم‭ ‬الحكومة‭ ‬والمواطن،‭ ‬ولم‭ ‬نسمع‭ ‬بثري‭ ‬عربي‭ ‬يخصص‭ ‬منحا‭ ‬للدارسين‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭ ‬أو‭ ‬ينشئ‭ ‬‮«‬كرسيا‮»‬‭ ‬لدراسة‭ ‬مادة‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ما،‭ ‬ولكنني‭ ‬أعرف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأثرياء‭ ‬العرب‭ ‬الذي‭ ‬قدموا‭ ‬الملايين‭ ‬لجامعات‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬هل‭ ‬هي‭ ‬حكاية‭ ‬مغني‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُطرِب؟

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا