زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
حفيد عنترة في المعمعة
تناولت في مقالي بالأمس جانبا من حالة الجزع والفزع التي كانت تنتابني خلال إقامتي في لندن كلما تأخر أحد العيال عن العودة إلى البيت من المدرسة في الوقت المعتاد، ذلك ان الوصول إلى بيتنا كان يتطلب المرور بجوار حانة تفز أعدادا من السكارى إلى شوارع الحي، وإلى جانب هذا فتخيل حال أفراد عائلة سمر في بلد فيه عنصريون يتحرشون بك بسبب لونك أو دينك، فما بالك إذا كان المستهدف عربيا إفريقيا ومسلما؟
أول زيارة لي للندن كانت عام 1976 لعام دراسي واحد، وكنت وقتها كنت خالي طرف: لا زوجة ولا عيال. وكانت لندن «أمان» نسبيا، بمعنى أن جرائم العنف العشوائي لم تكن معروفة في تلك الأيام. شهدت تلك الفترة مذبحة سويتو في جوهانسبيرغ في جنوب إفريقيا في ظل انفراد البيض العنصريين بالسلطة: السود لا يركبون الباصات المخصصة للبيض، وعلى الشواطئ لافتات: ممنوع دخول الكلاب والسود. وكانت في لندن حركات نشطة ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا، وانغمست في تلك الحركات التي كان معظمها ينطلق من أحياء السود في جنوب لندن: بريكستون وبلام وتوتنغ بك وما جاورها. وذات مرة كلفوني بإعداد فيلم قصير عن عادات الشعوب في تسريح/تصفيف الشعر، وتوجهت إلى مناطق «ربعي» السود، وكان الأستاذ الذي يشرف على ذلك المشروع خواجة شديد البياض ويهوديا (يعني أخوكم من أنصار التطبيع من زمان!!) وأصيب الرجل بحالة من الفزع عندما عرف أنني ذاهب الى الخلايا الإجرامية. ففي معظم الدول الغربية: أنت أسود؟ إذاً أنت مجرم أو مشروع مجرم (انقلبت الآية الآن: أنت مسلم؟ إذاً أنت عضو في تنظيم إرهابي أو مرشح لعضويته).. قلت له: ولا يهمك معك كفيل أسود «أصلي» وليس أسود مستوردا مثل سود بريطانيا.. وعرجت بأستاذي اليهودي الى دار اتحاد مسلمي جنوب افريقيا، ولأنني «معرفة» فقد استقبلوني بالأحضان، فقدمت لهم استاذي باسمه، ثم أضفت: بالمناسبة الرجل هذا يهودي. فقد الرجل توازنه واعتبر نفسه من الهالكين: هأنذا أمام وحوش سود ومسلمين «بعد»، وبينهم وبين البيض ثار في بلادهم. الحقني يا رب موسى. فوجئ الرجل بالجميع يتلقونه بالأحضان ويداعبونه: طالما لست إسرائيليا. نو بروبليم.. ليس في الأمر مشكلة.. وصار لاحقا مثلي من رواد تلك الدار المنتظمين، واصطحب أكثر من مرة أصدقاءه البيض إلى أحياء السود في جنوب لندن ليتأكدوا بأنفسهم من خطأ تنميط السود كمجرمين بالسليقة.
هذا كله في «خبر كان». في لندن اليوم لا أستطيع أن أحس بالأمان وسط السود، ولا البيض ولا الحمر ولا الصفر. قد تتعرض للاعتداء فقط لأن شكلك لا يعجب شخصا ما. أو لأن موبايلك حلو.. في ساعة متأخرة من الليل كنت في قطار الأنفاق ودخل علينا شاب أسود سكران طينة وتحرش بفتاة سوداء فنهضت من مكانها وجلست بقربي، إما لأنها حسبت أنني حمش، وإما لأنها حسبت أن السكران الاسود قد «يختشي على دمه» ولن يتحرش بها لأنه قد يعتقد ان صلة ما تربطها بي.. وتوجه الرجل نحونا... كنت أرتعش ولكن الله ألهمني «الكلمة الطيبة» فطلبت من البنت أن تخلي المقعد الملاصق لي ودعوته للجلوس عليه، وشرعت أتكلم معه كلاما غير متجانس، ونسي عدوانيته، وبعد قليل وضع رأسه على كتفي ونام.. فانسحبت بهدوء ونزلت في أقرب محطة ونزلت معي الفتاة.. عرضت عليها ان تستأجر سيارة لتوصلها إلى بيتها ولكنها كانت مرعوبة وطلبت مني إما أن أوصلها إلى بيتي حتى يأتي أهلها ويأخذونها (وتأخذ أم الجعافر بتلابيبي) وإما أن اصطحبها في السيارة إلى بيت أهلها. وهذا ما فعلته. كان لابد أن أثبت لها أن سلالة عنترة ما زالت عندها بقية من نخوة وأصرت على أن أنتظر داخل السيارة حتى أتى أهلها ليحيوا البطل الذي أنقذ بنتهم من الوحش.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك