زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لماذا طلقت لندن
تحدثت في مقالي يوم أمس عن زيارتي لجمهورية جورجيا، وإعجابي بتضاريسها وطقسها والخضرة الزاهية لجبال القوقاز، وقلت ان الأمر الوحيد الذي ضايقني طوال وجودي هناك هو التجهم والتكشيرة التي تعلو وجوه معظم أهل البلاد، وتجولت طويلا في ريفها، وفي زيارة لذات منطقة غنية بالأعناب والخضرة، فوجئت بكرم غير معهود من أهل المنطقة، ففي العديد من المحلات الصغيرة والفخمة كان من يديرونها يقدمون لي أكواب عصير فواكه داكن اللون، وما منعني من تذوق ذلك العصير هو أنني رأيت العشرات من مختلف الأجناس والسحن يحملون أكواب ذلك العصير ويمشون بخطى غير متوازنة، وعلمت بحاستي السادسة انه ذلك العصير «مش عصير» بل نبيذ العنب وانه يتم الترويج له بتقديم عينات منه مجانا، وشرعت في الانسحاب التكتيكي من ذلك المكان ولكن السائق الذي أوصلنا اليه صار عدوانيا تجاهي فتراجعت تكتيكيا مرة أخرى وطلبت سيارة أوبر أخرى تفاديا لذلك السائق السكران بالمجان.
أحيانا أرى في المنام نفسي في بيتي السابق في ويتستون في شمال لندن، وأنهض فزعا وأنا أتصبب عرقا، وما إن اكتشف انني في بلد عربي حتى أتعمد الاستيقاظ التام للمزيد من «الاطمئنان».. نعم فالفترة التي قضيتها مع عائلتي في لندن كانت كابوسا متصلا، فقد كان الطريق الى بيتنا يمر بخمارة، يدخلها ويخرج منها قوم عباراتهم فظة حتى وهم يشتمون حجارة الطريق. وما أعاد ذكرى تلك الأيام التعيسة هو حكاية بنت عمرها سبع سنوات كانت تلعب مع جدها في بيت أهلها في أحد أحياء لندن، وكان المطلوب ان تختبئ في مكان ما من البيت وعليه أن يعثر عليها. وبعد أن أعطى الجد الفتاة مهلة لتجد مخبأ مناسبا، شرع يبحث عنها. وبعدها بساعات كانت طائرات هليكوبتر تحلق فوق المنطقة المحيطة ببيت الفتاة بحثا عنها وعشرات من رجال الشرطة والمتطوعون يجوسون كل شبر في المنطقة، في تلك الأثناء عادت أم البنت من العمل، وما إن علمت باختفاء بنتها حتى انهارت وصارت تحت رعاية المسعفين. وبعد ثماني ساعات من البحث اللامجدي دخل شرطي البيت وصار يقلب محتوياته للمرة الثالثة. ومد يده وسحب حقيبة ملابس كانت تحت سرير وفتح الحقيبة فإذا بالبنت المفعوصة نائمة بداخلها «نوم الهنا». قررت الاختفاء من جدها بدخول الحقيبة وأغلقتها من الداخل ولما طال انتظارها للجد غلبها النعاس فنامت.
أن يختفي شخص مهما كان عمره عن البيت أكثر من 4 ساعات في بلد مثل لندن على غير العادة. أمر مرعب.. كان ولدي الأكبر يعود عادة من مدرسته في إيست فنشلي في شمال لندن في الرابعة عصرا بانتظام وذات يوم جاءت الساعة السادسة ولم يعد.. واتصلت بالمدرسة هاتفيا وأبلغني الحارس ان الجميع غادروا المدرسة قبل ساعتين على الأقل.. قدت سيارتي على امتداد خط سير الحافلة التي يستقلها من والى المدرسة، وبحلول التاسعة مساء كنت قد أصبت بانهيار جعل قيادتي للسيارة خطرا على نفسي وعلى غيري. فاستأجرت ميني كاب وكان سائقها لحسن الحظ مسلما وشاركني قلقي ومخاوفي وصار يطوف بي شوارع وحواري المنطقة.. لم يكن ولدي من النوع الذي يذهب الى بيوت أصدقائه لأنه ببساطة لم يحرص على مصادقة أحد في المدرسة، ولم يكن من النوع الذي يزوغ الى هنا او هناك.. اتصلت بالشرطة ولكنهم قالوا انهم لا يقبلون بلاغا بان شخصا ما مفقود إلا بعد 48 ساعة من اختفائه.. وفي نحو الـ11 ليلا اتصلت بالبيت وجاءني صوت بنتي مهللا بأنه عاد الى البيت، وطلبت من السائق ان يتجه بي الى البيت وقد اعتزمت شرا، ونزلت من السيارة واندفعت نحو باب البيت، وتحرك صاحب السيارة بعيدا من دون ان يسأل عن أجرته.. كنت اعتزم ضرب الولد بالبوت والشلوت ولكنني وجدت نفسي احتضنه وأبكي: مدرس الفيزياء قرر إعطاءنا دروسا إضافية وقد اتصلت بهاتف البيت لأبلغكم بذلك ولكن لم أجد ردا... المهم أنك عدت سالما.. ويومها قررت طلاق لندن ومؤخرا قررت طلاق جورجيا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك