زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن البسمة وتكشيرتي المجدية
عدت يوم الخميس الماضي من جمهورية جورجيا حيث قضيت أياما في قمة الامتاع، فجورجيا بلد حباها الله بطبيعة خلابة، فجبالها ووديانها «تجنن»، ولكن الانسان الجورجي معصوم من الابتسام، يعني عموما هم قوم متجهمون كما جيرانهم الروس، والابتسام أقصر طريق للقلوب، ولهذا وفي سياق استعداداتها لاستضافة الألعاب الأولمبية في سبتمبر من العام الماضي، انتبهت الصين لأمر حيوي وضروري: تدريب مئات الفتيات على الانحناء والابتسام بطريقة معينة أثناء تقديم الميداليات للفائزين. هذه شغلانة تفرغ لها العديد من الخبراء فالابتسامة ينبغي ان تكون بمواصفات معينة. في اليابان هناك إلزام للنساء في أماكن العمل على الابتسام على الدوام، ولكن علماء نفسانيين لاحظوا أن الابتسامة البلاستيكية (المصطنعة) صارت مرضا، حيث صارت ملايين النساء في حالة ابتسام مستمر حتى في المواقف التي تتطلب التجهم والحزن. يقترب شاب قليل الحياء من امرأة يابانية ويربت على كتفها ثم يقول بكل وقاحة وصفاقة: يا كوتوموتو أنا كل صباح «يموتو» في دباديبكو. هل يمكن أن ترافقيني إلى بيتكو. فتواجهه بابتسامة عريضة وتقول له: أنا بنت ناسكو ومش صايعة مثلكو. موقف كهذا يستوجب من امرأة عاقلة أن تصفع الشاب على وجهه أو تبصق عليه ولكن الابتسام المتكلف صار جزءا من شخصية المرأة اليابانية، ويقول البروفسور ماكوتو ناستومي أستاذ علم النفس في جامعة أوساكا اليابانية إن «قناع الابتسام» الذي ترتديه المرأة في بلاده على مدار السنة صار يخفي وراءه اضطرابات نفسية عميقة، وأن الاكتئاب متفش وبائيا بين النساء اليابانيات بسبب الابتسام القسري. وأن الكثير من النساء الباسمات بسبب وبدون سبب صرن يعانين من آلام في عضلات الوجه وحالات صداع مؤلمة.
إذا كنت مجبرا على الابتسام حتى في المواقف التي تتطلب الحزم والغضب بدواعي «أكل العيش» أو باسم التهذيب فإنك تكون تبعا لذلك مجبرا على «تعليب» مشاعرك الحقيقية bottling up والإنسان الذي يميل إلى التمثيل فيخفي غضبه وحزنه يكون أكثر عرضة للانكسار النفسي. مثلا، كثير من الرجال العرب يحسبون أنه من العيب أن يراهم الآخرون وهم يبكون. يفقد الواحد منهم أعز الناس لديه بالموت، ولكن وبسبب البرمجة الاجتماعية التي تفترض أن «المرجلة/الرجولة» هي ألا تظهر ضعفك الإنساني الطبيعي. يكبت الرجال مشاعر الحزن حتى تتحول الى سوس ينخر في عافيتهم على مدى سنوات. وبالمناسبة فإنني فخور بأنني شأن معظم الرجال السودانيين دموعي «حاضرة». الرجل السوداني يبكي في حالات الحزن الشديد والفرح الشديد. وعندنا في المآتم يحتضن الرجال أمهاتهم واخواتهم وزوجاتهم ويبكون أمام الآخرين. فليس عندنا «تمثيل» ولا نخفي أو نكبت عواطفنا. العيب عندنا فقط في «العويل» الرجالي.
قلبي على مضيفي ومضيفات الطائرات الذين يتعين عليهم الابتسام حتى وهم يعرفون أن ثلاثة من محركات الطائرة توقفت. يبتسمون للراكب الذي ينادي الواحد منهم: يا ولد.. يا بنت.. شيل الزفت هذا وجيب شيء غيره.. يعاتبني كثيرون عندما انفجر غاضبا: عيب شخص بشوش مثلك يفقد أعصابه. وردي: من الخير لي أن أفقد أعصابي في المواقف التي تسبب فقدان الأعصاب من أن أهش في وجه من يسيء إلي على نحو جارح. أنا لا أحب المتجهمين والنكديين ولكنني بنفس القدر لا أحب من يلاقونني بابتسامة مرسومة بالكتالوج. كنت أدفع حسابي في ذات فندق عندما وجدت في الفاتورة أنني شربت كل مخزونهم من الخمور. خرجت من فمي ألفاظ أخجل من إيرادها هنا، ولكن ما جعلني أرمي شنطتي في وجه المدير المناوب هو أنه جاءني مبتسما: خلاص يا استاذ حتى لو شربتها خليها علينا. قلت له: تبتسم على ماذا يا أبله؟ عندك موظف حرامي وعديم ضمير ويفترض أن تكون في أعلى درجات الغضب منه أو مني (بوصفي سكيرا مستهبلا).. تلك كانت غضبة ذات عائد مادي.. جاء المدير الكبير وأقسم بالله أن يعاقب الموظف الذي أعد الفاتورة.. ثم أعطاني خصما 50% من كلفة الإقامة في الفندق.. يعني التكشيرة أفيد من الابتسام في بعض المواقف!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك