العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ملكيات فردية داخل البيوت

يجمع‭ ‬علماء‭ ‬التاريخ‭ ‬والانثروبولوجي‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬البشرية‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬كانت‭ ‬ملكية‭ ‬كل‭ ‬ضروريات‭ ‬الحياة‭ ‬‮«‬مشتركة‮»‬،‭ ‬وان‭ ‬الملكية‭ ‬الفردية‭ ‬والنزاع‭ ‬حولها‭ ‬ظهر‭ ‬مع‭ ‬انتقال‭ ‬الأسلاف‭ ‬من‭ ‬جمع‭ ‬الثمار‭ ‬والصيد‭ ‬الى‭ ‬الزراعة،‭ ‬وكان‭ ‬ان‭ ‬صار‭ ‬لكل‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الزراعة‭ ‬حقل‭ ‬يزرع‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يشاء‭ ‬من‭ ‬الحبوب‭ ‬والثمار‭ (‬ويقولون‭ ‬إن‭ ‬أقدم‭ ‬الحبوب‭ ‬استزراعا‭ ‬كان‭ ‬القمح‭ ‬وأول‭ ‬حيوان‭ ‬تم‭ ‬استئناسه‭ ‬كان‭ ‬الكلب‭).‬

وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬الأسرة‭ ‬المعاصرة‭ ‬جاء‭ ‬عصر‭ ‬‮«‬غرفتي‭/ ‬حمّامي‮»‬،‭ ‬وحدث‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬أصغر‭ ‬أولادي‭ ‬بهدلني‭ ‬لأنني‭ ‬جلست‭ ‬او‭ ‬تمددت‭ ‬على‭ ‬سريره،‭ ‬أو‭ ‬دخلت‭ ‬غرفته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أقرع‭ ‬بابها،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬غرفته‭ ‬هي‭ ‬ملاذي‭ ‬الآمن‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬العمل،‭ ‬لأبتعد‭ ‬عن‭ ‬نقنقة‭ ‬أمه‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت،‭ ‬فعند‭ ‬عودتي‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬بعد‭ ‬الظهر‭ ‬أكون‭ ‬أحيانا‭ ‬مرهقا‭ ‬بدرجة‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لي‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬تبادل‭ ‬تحية‭ ‬ماسخة‭ ‬مع‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة،‭ ‬والتهام‭ ‬بعض‭ ‬اللقيمات‭ ‬على‭ ‬عجل،‭ ‬ثم‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬ولدي‭ ‬ذاك،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬أجد‭ ‬له‭ ‬العذر‭ ‬في‭ ‬ثورته‭ ‬لأنني‭ ‬أقتحم‭ ‬غرفته‭ ‬أحيانا‭ ‬بلا‭ ‬استئذان،‭ ‬وهو‭ ‬يمارس‭ ‬لعبة‭ ‬أو‭ ‬‮«‬يوتسب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬يجري‭ ‬مكالمة،‭ ‬ولكنني،‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬أكثر،‭ ‬أثور‭ ‬في‭ ‬وجهه‭: ‬البيت‭ ‬بيتي‭ ‬وأنا‭ ‬حر‭ ‬أرقد‭ ‬وأنام‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬زي‭ ‬ما‭ ‬أنا‭ ‬عايز‭!! ‬وما‭ ‬يستفزني‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬برمتها‭ ‬هي‭ ‬حكاية‭ ‬‮«‬غرفتي‮»‬،‭ ‬واستفزني‭ ‬أكثر‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أنه‭ ‬طرح‭ ‬سؤالا‭ ‬استنكاريا‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬أبوك‭ ‬وأمك‭ ‬يدخلان‭ ‬غرفتك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استئذان‭ ‬أو‭ ‬يستخدمها‭ ‬أحدهما‭ ‬لنومة‭ ‬طويلة‭ ‬أو‭ ‬قصيرة؟‭ ‬وهكذا‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدري‭ ‬قام‭ ‬المسكين‭ ‬بتقليب‭ ‬المواجع‭: ‬قال‭ ‬غرفتك‭ ‬قال‭!! ‬أي‭ ‬غرفة‭ ‬يا‭ ‬ولدي؟‭ ‬حتى‭ ‬آباؤنا‭ ‬وأمهاتنا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لهم‭ ‬غرف‭ ‬خاصة‭ ‬كأزواج،‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬بيتنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬بيوت‭ ‬البلدة‭ ‬كانت‭ ‬به‭ ‬نحو‭ ‬خمس‭ ‬أو‭ ‬ست‭ ‬غرف،‭ ‬ولكننا‭ ‬كنا‭ ‬جميعا‭ ‬نتكوم‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬واحدة،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الشتاء،‭ ‬وكانت‭ ‬تتوسط‭ ‬الغرفة‭ ‬في‭ ‬برد‭ ‬الصحراء‭ ‬القارس‭ ‬حفرة‭ ‬بها‭ ‬أعواد‭ ‬خشبية‭ ‬غليظة‭ ‬مشتعلة‭ (‬مدفأة‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬ترسل‭ ‬ألسنة‭ ‬لهب‭ ‬لأن‭ ‬أمي‭ ‬كانت‭ ‬تضع‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأعواد‭ ‬طبقة‭ ‬خفيفة‭ ‬من‭ ‬الرماد،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظنا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الخواجات‭ ‬قد‭ ‬اكتشفوا‭ ‬ثاني‭ ‬أوكسيد‭ ‬الكربون،‭ ‬مما‭ ‬يفسر‭ ‬عدم‭ ‬تعرضنا‭ ‬للاختناق‭ ‬من‭ ‬الدخان‭ ‬المتصاعد‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬المحترق،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬ثاني‭ ‬أوكسيد‭ ‬الكربون‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ساماً،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬ساما‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقتلنا‭ ‬لوجود‭ ‬مسامات‭ ‬في‭ ‬جدران‭ ‬الغرف‭ ‬تسمح‭ ‬بمرور‭ ‬تمساح‭! ‬أما‭ ‬في‭ ‬الصيف‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬العائلة‭ ‬بأكملها‭ ‬تقضي‭ ‬النهار‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬معينة‭ ‬ثم‭ ‬ننام‭ ‬جميعا‭ ‬في‭ ‬حوش‭ ‬البيت‭ ‬ليلا،‭ ‬وجعلنا‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أكثر‭ ‬ارتباطا‭ ‬ببعضنا‭ ‬البعض،‭ ‬وكان‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬يكرس‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬أنه‭ ‬مكمِّل‭ ‬ومتمِّم‭ ‬للآخرين،‭ ‬وأن‭ ‬حياته‭ ‬الخاصة‭ ‬امتداد‭ ‬لحياة‭ ‬الأسرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬والأسرة‭ ‬الممتدة‭! ‬

وأجلس‭ ‬في‭ ‬‮«‬غرفة‮»‬‭ ‬ولدي‭ ‬هذا‭ ‬وأتأمل‭ ‬محتوياتها‭ ‬التي‭ ‬تراكمت‭ ‬عبر‭ ‬السنين‭: ‬الأجهزة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬التي‭ ‬فيها‭ ‬تفوق‭ ‬قيمتها‭ ‬المبالغ‭ ‬التي‭ ‬أنفقها‭ ‬أهلي‭ ‬على‭ ‬تعليمي‭ ‬من‭ ‬الابتدائية‭ ‬حتى‭ ‬الجامعة‭ (‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬خادعة‭ ‬فحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬أهلي‭ ‬لم‭ ‬يصرفوا‭ ‬علي‭ ‬مليما‭ ‬أحمر‭ ‬لأتعلم،‭ ‬فقد‭ ‬تكفلت‭ ‬بنا‭ ‬الدولة‭ ‬تعليما‭ ‬ومسكنا‭ ‬وطعاما‭ ‬وتذاكر‭ ‬سفر‭ ‬من‭ ‬وإلى‭ ‬قرانا‭ ‬ومدننا،‭ ‬وكان‭ ‬أهلنا‭ ‬يزودوننا‭ ‬ببضع‭ ‬‮«‬قريشات‮»‬‭ ‬للكماليات‭)‬،‭ ‬ولديه‭ ‬طاولة‭ ‬قراءة‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يؤدي‭ ‬معظم‭ ‬واجباته‭ ‬المدرسية‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬على‭ ‬سريره‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ (‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬فقد‭ ‬أكمل‭ ‬الآن‭ ‬تعليمه‭ ‬الجامعي‭)‬،‭ ‬ولديه‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬ياما‭ ‬بكى‭ ‬كي‭ ‬يقتنيها،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬‮«‬يستعر‮»‬‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬‮«‬رجلا‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬يليق‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬بأشياء‭ ‬اشتراها‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬‮«‬صغيرا‮»‬‭!! ‬ولا‭ ‬مانع‭ ‬لدي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أشتري‭ ‬له‭ ‬أشياء‭ ‬جديدة‭ ‬تليق‭ ‬بسنه،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أشتري‭ ‬له‭ ‬‮«‬إدراك‮»‬‭ ‬أن‭ ‬غرفته‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬غرفتنا‭ ‬جميعا‭!! ‬مثل‭ ‬النزعات‭ ‬الفردية‭ ‬التي‭ ‬تبدر‭ ‬ممن‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬سنه،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬خرجنا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬العولمة‭ ‬و«الاغتراب‮»‬‭ ‬بمعنى‭ ‬التأثر‭ ‬بالغرب،‭ ‬حيث‭ ‬يحرص‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬الـ‮«‬سبيس‮»‬‭ ‬أي‭ ‬الحيز‭ ‬الخاص،‭ ‬وهي‭ ‬نزعة‭ ‬تنتقل‭ ‬بالعدوى،‭ ‬فلأن‭ ‬الطفل‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬زميله‭ ‬فلان‭ ‬يملك‭ ‬غرفة‭ ‬خاصة‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬يجاريه‭ ‬ثم‭ ‬تصبح‭ ‬المجاراة‭ ‬في‭ ‬امتلاك‭ ‬التلفزيون‭ ‬الخاص‭ ‬وأجهزة‭ ‬ألعاب‭ ‬الفيديو‭ ‬وتصبح‭ ‬المسألة‭ ‬مباراة‭ ‬في‭ ‬التباهي‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا