زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ملكيات فردية داخل البيوت
يجمع علماء التاريخ والانثروبولوجي على أنه مر على البشرية حين من الدهر كانت ملكية كل ضروريات الحياة «مشتركة»، وان الملكية الفردية والنزاع حولها ظهر مع انتقال الأسلاف من جمع الثمار والصيد الى الزراعة، وكان ان صار لكل قادر على الزراعة حقل يزرع فيه ما يشاء من الحبوب والثمار (ويقولون إن أقدم الحبوب استزراعا كان القمح وأول حيوان تم استئناسه كان الكلب).
وعلى صعيد الأسرة المعاصرة جاء عصر «غرفتي/ حمّامي»، وحدث أكثر من مرة أن أصغر أولادي بهدلني لأنني جلست او تمددت على سريره، أو دخلت غرفته من دون أن أقرع بابها، مع أنه يعرف أن غرفته هي ملاذي الآمن بعد يوم العمل، لأبتعد عن نقنقة أمه لبعض الوقت، فعند عودتي إلى البيت بعد الظهر أكون أحيانا مرهقا بدرجة لا تسمح لي بأكثر من تبادل تحية ماسخة مع أفراد العائلة، والتهام بعض اللقيمات على عجل، ثم التوجه إلى غرفة ولدي ذاك، وكثيرا ما أجد له العذر في ثورته لأنني أقتحم غرفته أحيانا بلا استئذان، وهو يمارس لعبة أو «يوتسب» أو يجري مكالمة، ولكنني، وفي أحيان أكثر، أثور في وجهه: البيت بيتي وأنا حر أرقد وأنام في أي مكان زي ما أنا عايز!! وما يستفزني في المسألة برمتها هي حكاية «غرفتي»، واستفزني أكثر ذات يوم أنه طرح سؤالا استنكاريا: هل كان أبوك وأمك يدخلان غرفتك من دون استئذان أو يستخدمها أحدهما لنومة طويلة أو قصيرة؟ وهكذا ومن دون أن يدري قام المسكين بتقليب المواجع: قال غرفتك قال!! أي غرفة يا ولدي؟ حتى آباؤنا وأمهاتنا لم تكن لهم غرف خاصة كأزواج، الغريب في الأمر أن بيتنا في شمال السودان مثل كل بيوت البلدة كانت به نحو خمس أو ست غرف، ولكننا كنا جميعا نتكوم في غرفة واحدة، خاصة في الشتاء، وكانت تتوسط الغرفة في برد الصحراء القارس حفرة بها أعواد خشبية غليظة مشتعلة (مدفأة)، ولكن لا ترسل ألسنة لهب لأن أمي كانت تضع على تلك الأعواد طبقة خفيفة من الرماد، ولحسن حظنا لم يكن الخواجات قد اكتشفوا ثاني أوكسيد الكربون، مما يفسر عدم تعرضنا للاختناق من الدخان المتصاعد من الخشب المحترق، وربما كان هناك ثاني أوكسيد الكربون ولكنه لم يكن ساماً، وربما كان ساما ولكنه لم يكن يقتلنا لوجود مسامات في جدران الغرف تسمح بمرور تمساح! أما في الصيف فقد كانت العائلة بأكملها تقضي النهار في غرفة معينة ثم ننام جميعا في حوش البيت ليلا، وجعلنا كل ذلك أكثر ارتباطا ببعضنا البعض، وكان نمط الحياة يكرس في وجدان كل منا أنه مكمِّل ومتمِّم للآخرين، وأن حياته الخاصة امتداد لحياة الأسرة الصغيرة والأسرة الممتدة!
وأجلس في «غرفة» ولدي هذا وأتأمل محتوياتها التي تراكمت عبر السنين: الأجهزة الإلكترونية التي فيها تفوق قيمتها المبالغ التي أنفقها أهلي على تعليمي من الابتدائية حتى الجامعة (هذه الجملة خادعة فحقيقة الأمر أن أهلي لم يصرفوا علي مليما أحمر لأتعلم، فقد تكفلت بنا الدولة تعليما ومسكنا وطعاما وتذاكر سفر من وإلى قرانا ومدننا، وكان أهلنا يزودوننا ببضع «قريشات» للكماليات)، ولديه طاولة قراءة رغم أنه كان يؤدي معظم واجباته المدرسية وهو جالس على سريره أو على الأرض، (الحمد لله فقد أكمل الآن تعليمه الجامعي)، ولديه أشياء كثيرة ياما بكى كي يقتنيها، ثم صار «يستعر» منها على أساس أنه صار «رجلا» ولا يليق به أن يلعب بأشياء اشتراها عندما كان «صغيرا»!! ولا مانع لدي من أن أشتري له أشياء جديدة تليق بسنه، ولكن من أين أشتري له «إدراك» أن غرفته ينبغي أن تكون غرفتنا جميعا!! مثل النزعات الفردية التي تبدر ممن هم في سنه، هي ما خرجنا به من العولمة و«الاغتراب» بمعنى التأثر بالغرب، حيث يحرص كل واحد على ما يسميه الـ«سبيس» أي الحيز الخاص، وهي نزعة تنتقل بالعدوى، فلأن الطفل يعرف أن زميله فلان يملك غرفة خاصة فلابد من يجاريه ثم تصبح المجاراة في امتلاك التلفزيون الخاص وأجهزة ألعاب الفيديو وتصبح المسألة مباراة في التباهي!!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك